260- واذكر كذلك قصة إبراهيم إذ قال إبراهيم : رب أرني كيفية إحياء الموتى ، فسأله ربه عن إيمانه بإحياء الموتى ليجيب إبراهيم بما يزيل كل الشك في إيمانه ، فقال الله له : أو لم تؤمن بإحياء الموتى ؟ قال : إني آمنت ولكني طلبت ذلك ليزداد اطمئنان قلبي . قال : فخذ أربعة من الطير الحي فضمها إليك لتعرفهنَّ جيداً ، ثم جَزِّئهن بعد ذبحهن ، واجعل على كل جبل من الجبال المجاورة جزءا منهن ، ثم نادهنَّ فسيأتينك ساعيات وفيهنَّ الحياة كما هي ، واعلم أن الله لا يعجز عن شيء ، وهو ذو حكمة بالغة في كل أمر{[25]} .
{ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى } إنما سأل ذلك ليصير علمه عيانا ، وقيل لما قال نمروذ أنا أحيي وأميت قال له : إن إحياء الله تعالى برد الروح إلى بدنها ، فقال نمروذ : هل عاينته فلم يقدر أن يقول نعم . وانتقل إلى تقرير آخر ، ثم سأل ربه أن يريه ليطمئن قلبه على الجواب إن سئل عنه مرة أخرى . { قال أو لم تؤمن } بأني قادر على الإحياء بإعادة التركيب والحياة ، قال له ذلك وقد علم أنه أغرق الناس في الإيمان ليجيب بما أجاب به فيعلم السامعون غرضه . { قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } أي بلى آمنت ولكن سألت ذلك لأزيد بصيرة وسكون قلب بمضامة العيان إلى الوحي أو الاستدلال . { قال فخذ أربعة من الطير } قيل طاوسا وديكا وغرابا وحمامة ، ومنهم من ذكر النسر بدل الحمامة وفيه إيماء إلى أن إحياء النفس بالحياة الأبدية إنما يتأتى بإماتة حب الشهوات والزخارف الذي هو صفة الطاوس ، والصولة المشهور بها الديك وخسة النفس وبعد الأمل المتصف بهما الغراب ، والترفع والمسارعة إلى الهوى الموسوم بهما الحمام . وإنما خص الطير لأنه أقرب إلى الإنسان وأجمع لخواص الحيوان والطير مصدر سمي به أو جمع كصحب . { فصرهن إليك } فأملهن واضممهن إليك لتتأملها وتعرف شياتها لئلا تلتبس عليك بعد الإحياء . وقرأ حمزة ويعقوب { فصرهن } بالكسر وهما لغتان قال :
وما صيد الأعناق فيهم حيلة *** ولكن أطراف الرماح تصورها
وفرع يصير الجيد وحف كأنه *** على الليث قنوان الكروم الدوالح
وقرئ { فصرهن } بضم الصاد وكسرها وهما لغتان ، مشددة الراء من صره يصره ويصره إذا جمعه وفصرهن من التصرية وهي الجمع أيضا . { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } أي ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال التي بحضرتك . قيل كانت أربعة . وقيل سبعة . وقرأ أبو بكر " جزؤا " و " جزؤ " بضم الزاي حيث وقع . { ثم ادعهن } قل لهن تعالين بإذن الله تعالى . { يأتينك سعيا } ساعيات مسرعات طيرانا أو مشيا . روي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها فيمسك رؤوسها ، ويخلط سائر أجزائها ويوزعها على الجبال ، ثم يناديهن . ففعل ذلك فجعل كل جزء يطير إلى آخر حتى صارت جثثا ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن . وفيه إشارة إلى أن من أراد إحياء نفسه بالحياة الأبدية ، فعليه أن يقبل على القوى البدنية فيقتلها ويمزج بعضها ببعض حتى تنكسر سورتها ، فيطاوعنه مسرعات متى دعاهن بدعاية العقل أو الشرع . وكفى لك شاهدا على فضل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويمن الضراعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال ، إنه تعالى أراه ما أراد أن يريه في الحال على أيسر الوجوه ، وأراه عزيرا بعد أن أماته مائة عام . { واعلم أن الله عزيز } لا يعجز عما يريده . { حكيم } ذو حكمة بالغة في كل ما يفعله ويذره .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 260 )
العامل في { إذ } فعل مضمر تقديره واذكر . واختلف الناس لم صدرت هذه المقالة عن إبراهيم عليه السلام( {[2538]} ) ؟ فقال الجمهور : إن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكاً في إحياء الله الموتى قط ، وإنما طلب المعاينة . وترجم الطبري في تفسيره فقال : وقال آخرون سأل ذلك ربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس أنه قال : ما في القرآن آية أرجى عندي منها( {[2539]} ) ، وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال : { رب أرني كيف تحيي الموتى } ؟ وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «نحن أحق بالشك من إبراهيم » الحديث( {[2540]} ) . ثم رجح الطبري هذا القول الذي يجري مع ظاهر الحديث . وقال : إن إبراهيم لما رأى الجيفة تأكل منها الحيتان ودواب البر ألقى الشيطان في نفسه فقال : متى يجمع الله هذه من بطون هؤلاء ؟ وأما من قال : بأن إبراهيم لم يكن شاكاً ، فاختلفوا في سبب سؤاله . فقال قتادة : إن إبراهيم رأى دابة قد توزعتها السباع فعجب وسأل هذا السؤال . وقال الضحاك : نحوه ، قال : وقد علم عليه السلام أن لله قادر على إحياء الموتى ، وقال ابن زيد : رأى الدابة تتقسمها السباع والحيتان لأنها كانت على حاشية البحر ، وقال ابن إسحاق ، بل سببها أنه لما فارق النمرود وقال له : أنا أحيي وأميت ، فكر في تلك الحقيقة والمجاز( {[2541]} ) ، فسأل هذا السؤال . وقال السدي وسعيد بن جبير : بل سبب هذا السؤال أنه بشر بأن الله اتخذه خليلاً أراد أن يدل بهذا السؤال ليجرب صحة الخلة ، فإن الخليل يدل بما لا يدل به غيره ، وقال سعيد بن جبير : { ولكن ليطمئن قلبي } يريد بالخلة .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وما ترجم به الطبري عندي مردود( {[2542]} ) ، وما أدخل تحت الترجمة متأول ، فأما قول ابن عباس : هي أرجى آية فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا ، وليست مظنة ذلك ، ويجوز أن يقول : هي أرجى آية لقوله : { أو لم تؤمن } ؟ أي إن الإيمان كاف لا يحتاج بعده إلى تنقير وبحث ، وأما قول عطاء بن أبي رباح : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فمعناه من حب المعاينة ، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت ، به ، ولهذا قال النبي عليه السلام : «ليس الخبر كالمعاينة »( {[2543]} ) ، وأما قول النبي عليه السلام نحن أحق بالشك من إبراهيم فمعناه : أنه لو كان شك لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك ، فإبراهيم عليه السلام أحرى أن لا يشك ، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم( {[2544]} ) .
والذي روي فيه عن النبي عليه السلام أنه قال : ذلك محض الإيمان( {[2545]} ) إنما هو في الخواطر الجارية التي لا تثبت ، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر ، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام . وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع ، وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به ، يدلك على ذلك قوله : { ربي الذي يحيي ويميت } [ البقرة : 258 ] فالشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط ، فكيف بمرتبة النبوءة والخلة ، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً( {[2546]} ) ، وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكاً ، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول . نحو قولك : كيف علم زيد ؟ وكيف نسج الثوب ؟ ونحو هذا ، ومتى قلت كيف ثوبك وكيف زيد فإنما السؤال عن حال من أحواله ، وقد تكون { كيف } خبراً عن شيء شأنه أن يستفهم عنه ، { كيف } نحو قولك : كيف شئت فكن ، ونحو قول البخاري : كيف كان بدء الوحي ، و { كيف } في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء ، والإحياء متقرر ، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبر عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح ، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح ، مثال ذلك أن يقول مدع : أنا أرفع هذا الجبل ، فيقول له المكذب : أرني كيف ترفعه ؟ فهذه طريقة مجاز في العبارة ، ومعناها تسليم جدلي ، كأنه يقول افرض أنك ترفعه أرني كيف ؟ فلما كان في عبارة الخليل عليه السلام هذا الاشتراك المجازي ، خلص الله له ذلك وحمله على أن يبين الحقيقة فقال له : { أَوَلَمْ تؤمن قال بلى } ، فكمل الأمر وتخلص من كل شك ، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمانينة .
قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى : { أَوَلَمْ تؤمن } معناه إيماناً مطلقاً دخل فيه فصل إحياء الموتى ، والواو واو حال دخلت عليه ألف التقرير( {[2547]} ) ، و { ليطمئن } معناه ليسكن عن فكره ، والطمأنينة اعتدال وسكون على ذلك الاعتدال فطمأنينة الأعضاء معروفة ، كما قال عليه السلام : «ثم اركع حتى تطمئن راكعاً » ، الحديث ، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد . والفكر في صورة الإحياء غير محظورة ، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها ، بل هي فكر فيها عبر ، فأراد الخليل أن يعاين ، فتذهب فكره في صورة الإحياء ، إذ حركه إلى ذلك إما أمر الدابة المأكولة وإما قول النمرود : أنا أحيي وأميت ، وقال الطبري : معنى { ليطمئن } ليوقن . وحكي نحو ذلك عن سعيد بن جبير ، وحكي( {[2548]} ) عنه ليزداد يقيناً وقاله إبراهيم وقتادة . وقال بعضهم : لأزداد إيماناً مع إيماني .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر ، وإلا فاليقين لا يتبعض ، وروي أن الأربعة التي أخذ إبراهيم هي الديك ، والطاووس ، والحمام ، والغراب ، ذكر ذلك ابن إسحاق عن بعض أهل العلم الأول ، وقاله مجاهد وابن جريج وابن زيد ، وقال ابن عباس : مكان الغراب الكركي( {[2549]} ) .
وروي في قصص هذه الآية أن الخليل عليه السلام أخذ هذه الطير حسبما أمر وذكاها( {[2550]} ) ثم قطعها قطعاً صغاراً وجمع ذلك مع الدم والريش ، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءاً على كل جبل ، ووقف هو من حيث يرى تلك الأجزاء ، وأمسك رؤوس الطير في يده ، ثم قال تعالين بإذن الله( {[2551]} ) ، فتطايرت تلك الأجزاء وطار الدم إلى الدم ، والريش إلى الريش ، حتى التأمت كما كانت أولاً وبقيت بلا رؤوس ، ثم كرر النداء فجاءته سعياً( {[2552]} ) حتى وضعت أجسادها في رؤوسها ، وطارت بإذن الله تعالى ، وقرأ حمزة وحده : «فصِرهن إليك » بكسر الصاد( {[2553]} ) ، وقرأ الباقون بضمها ويقال صرت الشيء أصوره بمعنى قطعته ، ومنه قول ذي الرمة : [ الرجز ]
صِرْنَا بِهِ الحُكْمَ وَعَنَّا الحَكَمَا . . . ( {[2554]} )
فلو يلاقي الذي لاقيتُه حضنٌ . . . لظلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهْيَ تنصارُ( {[2555]} )
أي تنقطع ويقال أيضاً صرت الشيء بمعنى أملته ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
يصُورُ عنوقَها أحوى زنيمٌ . . . لَهُ صَخَبٌ كَمَا صَخِبَ الْغَرِيمُ( {[2556]} )
ومنه قول الأعرابي في صفة نساء هن إلى الصبا صور ، وعن الخنا نور( {[2557]} ) ، فهذا كله في ضم الصاد ، ويقال أيضاً في هذين المعنيين ، : القطع والإمالة : صرت الشيء بكسر الصاد أصيره ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
وفرعٌ يَصيرُ الْجِيدَ وَجْفٌ كأَنَّهُ . . . عَلى اللِّيتِ قِنْوانُ الكرومِ الدَّوالِحِ( {[2558]} )
ففي اللفظة لغتان قرىء بهما ، وقد قال ابن عباس ومجاهد في هذه الآية { صرهن } معناه : قطعهن ، وقال عكرمة وابن عباس فيما في بعض ما روي عنه أنها لفظة بالنبطية( {[2559]} ) معناها قطعهن ، وقاله الضحاك ، وقال أبو الأسود الدؤلي : هي بالسريانية ، وقال قتادة : { صرهن } فصلهن ، وقال ابن إسحاق : معناه قطعهن ، وهوالصور في كلام العرب ، وقال عطاء بن أبي رباح : { فصرهن } معناه اضممهن إليك( {[2560]} ) . وقال ابن زيد معناه اجمعهن ، وروي عن ابن عباس معناه أوثقهن .
قال القاضي أبو محمد : فقد تأول المفسرون اللفظة بمعنى التقطيع وبمعنى الإمالة . فقوله { إليك } على تأويل التقطيع متعلق بخذ . وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق ب { صرّهنّ } ، وفي الكلام متروك يدل عليه الظاهر تقديره فأملهن إليك فقطعهن( {[2561]} ) . وقرأ قوم «فصُرَّهن » بضم الصاد وشد الراء المفتوحة كأنه يقول فشدَّهن . ومنه صرة الدنانير . وقرأ قوم «فصِرَّهن » بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة ومعناه صيحهن من قولك صر الباب والقلم إذا صوَّتَ ، ذكره النقاش( {[2562]} ) . قال ابن جني وهي قراءة غريبة وذلك أن يفعل بكسر العين في المضاعف المتعدي قليل ، وإنما بابه يفعُل بضم العين كشد يشُد ونحوه .
لكن قد جاء منه نمَّ الحديث يَنمُّه ويُنمّه وهر الحرب يَهرها ويُهرها( {[2563]} ) ومنه قول الأعشى :
لَيَعْتَوِرَنْكَ الْقَوْلَ حَتَّى تهرَّهُ . . . ( {[2564]} )
إلى غير ذلك في حروف قليلة . قال ابن جني ، وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح والكسر كمد وشد والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد قال المهدوي وغيره وروي عن عكرمة فتح الصاد وشد الراء المكسورة .
قال القاضي أبو محمد : وهذه بمعنى فاحبسهن من قولهم صرى يصري إذا حبس ، ومنه الشاة المصراة( {[2565]} ) ، واختلف المتأولون في معنى قوله : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً } ، فروى أبو حمزة عن ابن عباس أن المعنى اجعل جزءاً على كل ربع من أرباع الدنيا( {[2566]} ) كأن المعنى اجعلها في أركان الأرض الأربعة . وفي هذا القول بعد ، وقال قتادة والربيع المعنى واجعل على أربعة أجبل( {[2567]} ) على كل جبل جزءاً من ذلك المجموع المقطع ، فكما يبعث الله هذه الطير من هذه الجبال فكذلك يبعث الخلق يوم القيامة من أرباع الدنيا وجميع أقطارها . وقرأ الجمهور «جزءاً » بالهمز ، وقرأ أبو جعفر «جزّاً » بشد الزاي في جميع القرآن . وهي لغة في الوقف فأجرى أبو جعفر الوصل مجراه . وقال ابن جريج والسدي أمر أن يجعلها على الجبال التي كانت الطير والسباع حين تأكل الدابة تطير إليها وتسير نحوها وتتفرق فيها . قالا : وكانت سبعة أجبل فكذلك جزأ ذلك المقطع من لحم الطير سبعة أجزاء . وقال مجاهد : بل أمر أن يجعل على كل جبل يلية جزءاً . قال الطبري معناه دون أن تحصر الجبال بعدد ، بل هي التي كان يصل إبراهيم إليها وقت تكليف الله «إياه تفريق ذلك فيها ، لأن الكل لفظ يدل على الإحاطة .
قال القاضي أبو محمد : وبعيد أن يكلف جميع جبال الدنيا ، فلن يحيط بذلك بصره ، فيجيء ما ذهب إليه الطبري جيداً متمكناً . والله أعلم أي ذلك كان . ومعنى الآية أن إبراهيم عليه السلام كان بحيث يرى الأجزاء في مقامه ، ويرى كيف التأمت ، وكذلك صحت له العبرة ، وأمره بدعائهن وهن أموات إنما هو لتقرب الآية منه وتكون بسبب من حاله ، ويرى أنه قصد بعرض ذلك عليه . ولذلك جعل الله تعالى سيرهن إليه { سعياً } ، إذ هي مشية المجدّ الراغب فيما يمشي إليه ، فكان من المبالغة أن رأى إبراهيم جدها في قصده وإجابة دعوته . ولو جاءته مشياً لزالت هذه القرينة ، ولو جاءت طيراناً لكان ذلك على عرف أمرها ، فهذا أغرب منه . ثم وقف عليه السلام على العلم بالعزة التي في ضمنها القدرة وعلى الحكمة التي بها إتقان كل شيء .
معطوف على قوله : { أو كالذي مر على قرية } [ البقرة : 259 ] ، فهو مثال ثالث لقضية قوله : { الله ولي الذين آمنوا } [ البقرة : 257 ] الآية ومثال ثان لقضية { أو كالذي مر على قرية } فالتقدير : أو هو كإبراهيم إذ قال رب أرني إلخ . فإنّ إبراهيم لفرط محبته الوصول إلى مرتبة المعاينة في دليل البعث رام الانتقال من العلم النظري البرهاني ، إلى العلم الضروري ، فسأل الله أن يريه إحياء الموتى بالمحسوس .
وانتصب { كيف } هنا على الحال مجردةً عن الاستفهام ، كانتصابها في قوله تعالى : { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } [ آل عمران : 6 ] .
وقوله : { أولم تؤمن } الواو فيه واو الحال ، والهمزة استفهام تقريري على هذه الحالة ، وعامل الحال فعل مقدر دل عليه قوله : { أرني } والتقدير : أأرِيك في حال أنّك لم تؤمن ، وهو تقرير مجازي مراد به لفت عقله إلى دفع هواجس الشك ، فقوله : { بلى ولكن ليطمئن قلبي } كلام صدر عن اختباره يقينَه وإلفائه سالماً من الشك .
وقوله : { ليطمئن قلبي } معناه لينبت ويتحقّق علمي وينتقل من معالجة الفكر والنظر إلى بساطة الضرورة بيقين المشاهدة وانكشاف المعلوم انكشافاً لا يحتاج إلى معاودة الاستدلال ودفع الشُبه عن العقل ، وذلك أنّ حقيقة يَطمئن يسكن ، ومصدره الاطمئنان ، واسم المصدر الطُّمَأنِينَة ، فهو حقيقة في سكون الأجسام ، وإطلاقه على استقرار العلم في النفس وانتفاء معالجة الاستدلال أصله مجاز بتشبيه التردّد وعلاج الاستدلال بالاضطراب والحركة ، وشاع ذلك المجاز حتى صار مساوياً للحقيقة ، يقال اطمأنّ بَالَهُ واطمأنّ قلبه .
والأظهر أنّ اطمأن وزنه افعلَلَ وأنّه لا قلب فيه ، فالهمزة فيه هي لام الكلمة والميم عين الكلمة ، وهذا قول أبي عمرو وهو البيِّن إذ لا داعي إلى القلب ، فإنّ وقوع الهمزة لا ما أكثر وأخف من وقوعها عيناً ، وذهب سيبويه إلى أنّ اطْأمَنّ مقلوب وأصله اطْمَأنّ وقد سمع طَمْأنْتُه وطَأْمَنْتُه وأكثر الاستعمال على تقديم الميم على الهمزة ، والذي أوجب الخلاف عدم سماع المجرد منه إذ لم يسمع طَمَن .
والقلبُ مراد به العلم إذ القلب لا يضطرب عند الشك ولا يتحرك عند إقامة الدليل وإنّما ذلك للفكر ، وأراد بالاطمئنان العلم المحسوس وانشراح النفس به وقد دلّه الله على طريقة يرى بها إحياء الموتى رأي العين .
وقوله : { فخذ أربعة من الطير } اعلم أنّ الطير يطلق على الواحد مرادفاً لطائر ؛ فإنّه من التسمية بالمصدر وأصلها وصف فأصلها الوحدة ، ولا شك في هذا الإطلاق ، وهو قول أبي عبيدة والأزهري وقُطرب ولا وجه للترّدد فيه ، ويطلق على وجمعه أيضاً وهو اسم جمع طائر كصحْب وصاحب ، وذلك أنّ أصله المصدر والمصدر يجري على الواحد وعلى الجمع .
وجيء بمن للتبعيض لدلالة على أنّ الأربعة مختلفة الأنواع ، والظاهر أنّ حكمة التعدّد والاختلاف زيادة في تحقّق أنّ الإحياء لم يكن أهون في بعض الأنواع دون بعض ، فلذلك عدّدت الأنواع ، ولعلّ جعلها أربعة ليكون وضعُها على الجهات الأربع : المشرق والمغرب والجنوب والشمال لئلاّ يظنّ لبعض الجهات مزيد اختصاص بتأتي الإحياء ، ويجوز أنّ المراد بالأربعة أربعة أجزاء من طير واحد فتكون اللام للعهد إشارة إلى طير حاضر ، أي خذ أربعة من أجزائه ثم ادعهنّ ، والسعي من أنواع المشي لا من أنواع الطيران ، فجعل ذلك آية على أنَّهنّ أعيدت إليهن حياة مخالفة للحياة السابقة ، لئلا يظن أنّهن لم يمتن تماماً .
وذكر كل جبل يدل على أنّه أمر بجعل كل جزء من أجزاء الطير على جبل لأنّ وضعها على الجبال تقوية لتفرق تلك الأجزاء ؛ فإنها فرقت بالفصل من أجسادها وبوضعها في أمكنة متباعدة وعسِرة التناول .
والجبل قطعة عظيمة من الأرض ذات حجارة وتراب ناتئة تلك القطعة من الأرض المستوية ، وفي الأرض جبال كثيرة متفاوتة الارتفاع ، وفي بعضها مساكن للبشر مثل جبال طيِّء ، وبعضها تعتصم به الناس من العدوّ كما قال السَّمَوْأل :
لنا جبل يحتلّه من نجيره *** منيع يردّ الطَّرفَ وهو كليل
ومعنى { صرهنّ } أدنِهن أو أيلهن يقال صاره يصُوره ويصيره بمعنًى وهو لفظ عربي على الأصح وقيل معرب ، فعن عكرمة أنّه نبطي ، وعن قتادة هو حبشي ، وعن وهب هو رومي ، وفائدة الأمر بإدنائها أن يتأمل أحوالها حتى يعلم بعد إحيائها أنّها لم ينتقل جزء منها عن موضعه .
وقوله : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً } عطف على محذوف دلّ عليه قوله { جزءاً } لأن تجزئتهن إنّما تقع بعد الذبح . فالتقدير فاذبحهن ثم اجعل إلخ .
وقرأ الجمهور { فصُرهن } بضم الصاد وسكون الراء من صاره يُصوره ، وقرأ حمزة وأبو جعفر وخلف ورويس عن يعقوب { فصِرهن } بكسر الصاد من صار يصير لغة في هذا الفعل .
وقرأ الجمهور { جُزْءاً } بسكون الزاي وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم الزاي ، وهما لغتان .