يقول تعالى مخبرًا عن المؤمنين المتصدقين : أنهم {[28246]} يوم القيامة يسعَى نورهم بين أيديهم في عَرصات القيامة ، بحسب أعمالهم ، كما قال عبد الله بن مسعود في قوله : { يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } قال : على قدر أعمالهم يمرون على الصراط ، منهم مَن نوره مثل الجبل ، ومنهم مَن نوره مثل النخلة ، ومنهم مَن نوره مثل الرجل القائم ، وأدناهم نورًا مَن نوره في إبهامه يتَّقد مرة ويطفأ مرة{[28247]} ورواه بن أبي حاتم وبن جرير .
وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " من المؤمنين من يضيء نُوره من المدينة إلى عَدن أبين وصنعاء فدون ذلك ، حتى إن من المؤمنين من يضيء نوره موضع قدميه " {[28248]}
وقال سفيان الثوري ، عن حُصَين ، عن مجاهد عن جُنَادة بن أمية قال : إنكم مكتوبون عند الله بأسمائكم ، وسيماكم وحُلاكم ، ونجواكم ومجالسكم ، فإذا كان يوم القيامة قيل : يا فلان ، هذا نورك . يا فلان ، لا نور لك . وقرأ : { يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ }
وقال الضحاك : ليس لأحد إلا يعطى نورًا يوم القيامة ، فإذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين ، فلما رأي ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طُفئ نور المنافقين ، فقالوا : ربنا ، أتمم لنا نورنا .
وقال الحسن [ في قوله ]{[28249]} { يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } يعني : على الصراط .
وقد قال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، أخبرنا عمي{[28250]} عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سعيد{[28251]} بن مسعود : أنه سمع عبد الرحمن بن جُبَيْر يحدث : أنه سَمِع أبا الدرداء وأبا ذر يخبران عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود ، وأول من يؤذن له برفع رأسه ، فأنظر من بين يدي ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، فأعرف أمتي من بين الأمم " . فقال له رجل : يا نبي الله ، كيف تعرف أمتك من بين الأمم ، ما بين نوح إلى أمتك ؟ قال : " أعرفهم ، مُحَجَّلون من أثر الوضوء ، ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم ، وأعرفهم يُؤْتَون كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم ، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم وذريتهم{[28252]} {[28253]}
وقوله { وَبِأَيْمَانِهِمْ } قال الضحاك : أي وبأيمانهم كتبهم ، كما قال : { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } [ الإسراء : 71 ] .
وقوله : { بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : يقال لهم : بشراكم اليوم جنات ، أي : لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الأنهار ، { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين فيها أبدًا { ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
يوم ترى المؤمنين والمؤمنات ظرف لقوله وله أو فيضاعفه أو مقدر باذكر يسعى نورهم ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة بين أيديهم وبأيمانهم لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين بشراكم اليوم جنات أي يقول لهم من يتلقاهم من الملائكة بشراكم أي المبشر به جنات أو بشراكم دخول جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم الإشارة إلى ما تقدم من النور والبشرى بالجنات المخلدة .
لما كان معلوماً أن مضاعفة الثواب وإعطاء الأجر يكون في يوم الجزاء ، ترجح أن يكون قوله : { يوم ترى المؤمنين } منصوباً بفعل محذوف تقديره : اذكُر تنويهاً بما يحصل في ذلك اليوم من ثواب للمؤمنين والمؤمنات ومن حرمان للمنافقين والمنافقات ، ولذلك كرر { يوم } ليَختصَّ كل فريق بذكر ما هو من شؤونه في ذلك اليوم .
وعلى هذا فالجملة متصلة بالتي قبلها بسبب هذا التعلق ، على أنه في نظم الكلام يصح جعله ظرفاً متعلقاً ب { يُضاعفه له وله أجر كريم } [ الحديد : 11 ] على طريقة التخلص لذكر ما يجري في ذلك اليوم من الخيرات لأهلها ومن الشر لأهله .
وعلى الوجه الأول فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لمناسبة ذكر أجر المنفقين فعقب ببيان بعض مزايا المؤمنين ، وعلى الوجه الثاني فهي متصلة بالتي قبلها بسبب التعلق .
والخطاب في { ترى } لغير معينّ ليكون على منوال المخاطبات التي قبله ، أي يوم يرى الرائي ، والرؤية بصرية ، و { يوم } مبني على الفتح لأنه أضيف إلى جملة فعلية ، ويجوز كونها فتحة إعراب لأن المضاف إلى المضارع يجوز فيه الوجهان .
ووجه عطف { المؤمنات } على { المؤمنين } هنا ، وفي نظائره من القرآن المدني التنبيه على أن حظوظ النساء في هذا الدين مساوية حظوظ الرجال إلا فيما خُصصن به من أحكام قليلة لها أدلتها الخاصة وذلك لإِبطال ما عند اليهود من وضع النساء في حالة ملعونات ومحرومات من معظم الطاعات .
وقد بيّنا شيئاً من ذلك عند قوله تعالى : { والأنثى بالأنثى } في سورة البقرة ( 178 ) .
والنور المذكور هنا نور حقيقي يجعله الله للمؤمنين في مسيرهم من مكان الحشر إكراماً لهم وتنويهاً بهم في ذلك المحشر .
والمعنى : يسعى نورهم حين يسعون ، فحذف ذلك لأن النور إنما يسعى إذا سعى صاحبه وإلا لا نفصل عنه وتركه .
وإضافة ( نور ) إلى ضميرهم وجعلُ مكانه من بين أيديهم وبأيمانهم يبين أنه نور لذواتهم أكرموا به .
وانظر معنى هذه الإِضافة لِضميرهم ، وما في قوله : { يسعى } من الاستعارة ، ووجه تخصيص النور بالجهة الأمام وبالأيمان كل ذلك في سورة التحريم .
والباء في { وبأيمانهم } بمعنى ( عن ) واقتصر على ذكر الأيمان تشريفاً لها وهو من الاكتفاء ، أي وبجانبيهم .
ويجوز أن تكون الباء للملابسة ، ويكون النور الملابس لليمين نورَ كتاب الحسنات كما قال تعالى : { فأمَّا من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً } [ الانشقاق : 7 ، 8 ] فإن كتاب الحسنات هدى فيكون لفظ « النور » قد استعمل في معنييه الحقيقي والمجازي وهو الهدى والبركة .
قال ابن عطية : « ومن هذه الآية انتُزع حمل المعتَق للشمعة » ا ه . ( لعله يشير إلى عادة كانت مألوفة عندهم أن يجعلوا بيد العبد الذي يعتقونه شمعة مشتعلة يحملها ساعة عتقه ولم أقف على هذا في كلام غيره ) .
والبشرى : اسم مصدر بشَّر وهي الإِخبار بخبر يسر المخبَر ، وأطلق المصدر على المفعول وهو إطلاق كثير مثل الخَلْق بمعنى المخلوق ، أي الذي تُبشَّرون به جناتٌ ، والكلام على حذف مضافين تقديرهما : إعلام بدخول جنات كما دل عليه قوله : { خالدين فيها } .
وجملة { بشراكم } إلى آخرها مقول قول محذوف ، والتقدير : يقال لهم ، أي يقال من جانب القدس ، تقوله الملائكة ، أو يسمعون كلاماً يخلقه الله يعلمون أنه من جانب القدس .
وجملة { ذلك هو الفوز العظيم } يحتمل أن يكون من بقية الكلام المحكي بالقول المبشَّر به ، ويحتمل أن يكون من الحكاية التي حكيت في القرآن ، وعلى الاحتمالين فالجملة تذييل تدل على مجموع محاسن ما وقعت به البشرى . واسم الإِشارة للتعظيم والتنبيه ، وضميرُ الفصل لتقوية الخبر .