{ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ] {[5169]} } هذه مكيدة أرادوها ليلْبسُوا على الضعفاء من الناس أمْر دينهم ، وهو أنهم اشْتَوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويُصَلّوا مع المسلمين صلاة الصبح ، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس : إنما رَدّهم{[5170]} إلى دينهم اطّلاعهُم على نقيصة وعيب في دين المسلمين ، ولهذا قالوا : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
قال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، في قوله تعالى إخبارًا عن اليهود بهذه الآية : يعني يهود ، صَلَّت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وكفروا آخر النهار ، مكرًا منهم ، ليُرُوا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة ، بعد أن كانوا اتبعوه .
وقال العَوْفِي ، عن ابن عباس : قالت طائفة من أهل الكتاب : إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا ، وإذا كان آخره فَصَلّوا صلاتكم ، لعلهم يقولون : هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا . [ وهكذا روي عن قتادة والسدي والربيع وأبي مالك ]{[5171]} .
{ وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار } أي أظهروا الإيمان بالقرآن أول النهار . { واكفروا آخره لعلهم يرجعون } واكفروا به آخره لعلهم يشكون في دينهم ظنا بأنكم رجعتم لخلل ظهر لكم ، والمراد بالطائفة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف قالا لأصحابهما لما حولت القبلة : آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم وصلوا إلى الصخرة آخره لعلهم يقولون هم أعلم منا وقد رجعوا فيرجعون . وقيل اثنا عشر من أحبار خيبر تقاولوا بأن يدخلوا في الإسلام أول النهار ويقولوا آخره نظرنا في كتابنا وشاورنا علماءنا فلم نجد محمدا عليه الصلاة والسلام بالنعت الذي ورد في التوراة لعل أصحابه يشكون فيه .
{ وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
أخبر تعالى في هذه الآية أن طائفة من اليهود من أحبارهم ذهبت إلى خديعة المسلمين بهذا المنزع ، قال الحسن : قالت ذلك يهود خيبر ليهود المدينة ، قال قتادة وأبو مالك{[3243]} والسدي وغيرهم : قال بعض الأحبار لنظهر الإيمان لمحمد صدر النهار ثم لنكفر به آخر النهار ، فسيقول المسلمون عند ذلك : ما بال هؤلاء كانوا معنا ثم انصرفوا عنا ؟ ما ذلك إلا لأنهم انكشفت لهم حقيقة في الأمر فيشكون ، ولعلهم يرجعون عن الإيمان بمحمد عليه السلام .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : ولما كانت الأحبار يظن بهم العلم وجودة النظر والاطلاع على الكتاب القديم ، طمعوا أن تنخدع العرب بهذه النزعة ففعلوا ذلك ، جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكرة ، فقالوا : يا محمد أنت هو الموصوف في كتابنا ، ولكن أمهلنا إلى العشي حتى ننظر في أمرنا ، ثم رجعوا بالعشي ، فقالوا : قد نظرنا ولست به { وجه } على هذا التأويل منصوب بقوله { آمنوا } والمعنى أظهروا الإيمان في { وجه النهار } ، والضمير في قوله { آخره } عائد على { النهار } ، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهم : نزلت الآية ، لأن اليهود ذهبت إلى المكر بالمؤمنين ، فصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ، ثم رجعوا آخر النهار ، فصلوا صلاتهم ليرى الناس أنهم بدت لهم منه ضلالة ، بعد أن كانوا اتبعوه .
قال الفقيه الإمام : وهذا القول قريب من القول الأول ، وقال جماعة من المفسرين : نزلت هذه الآية في أمر القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح إلى الشام ، كما كان يصلي ، ثم حولت القبلة ، فصلى الظهر ، وقيل العصر إلى مكة ، فقالت الأحبار لتبّاعهم وللعرب : آمنوا بالذي أنزل في أول النهار واكفروا بهذه القبلة الأخيرة .
قال الفقيه الإمام : والعامل في قوله { وجه النهار } على هذا التأويل قوله : { أنزل } والضمير في قوله : { آخره } يحتمل أن يعود على { النهار } أو يعود على «الذي أنزل » ، و{ يرجعون } في هذا التأويل ، معناه عن مكة إلى قبلتنا التي هي الشام كذلك قال قائل هذا التأويل ، { وجه النهار } أوله الذي يواجه منه ، تشبيهاً بوجه الإنسان ، وكذلك تقول : صدرالنهار وغرة العام والشهر ، ومنه قول النبي عليه السلام { أقتلته في غرة الإسلام{[3244]} ؟ } ومن هذا قول الربيع بن زياد العبسي{[3245]} : [ الكامل ]
من كان مسروراً بِمَقْتَل مالِكٍ . . . فَلْيَأتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
يَجِدِ النِّساءَ حَوَاسِراً يَنْدُبْنَهُ . . . قَدْ قُمْنَ قَبْلَ تَبلُّجِ الأَسْحَارِ
يقول هذا في مالك بن زهير بن جذيمة العبسي{[3246]} وكانوا قد أخذوا بثأره ، وكان القتيل عندهم لا يناح عليه ولا يندب إلا بعد أخذ ثأره ، فالمعنى من سره مصابنا فيه فلينظر إلى ما يدله على أنّا قد أدركنا ثأره ، فيكمد لذلك ويغتم ، ومن استعارة الوجه قولهم : فعلت كذا على وجه الدهر ، أي في القديم .
عطف على { ودت طائفة } [ آل عمران : 69 ] . فالطائفة الأولى حاوَلت الإضلال بالمجاهرة ، وهذه الطائفة حاولتْه بالمخادعة : قيل أشير إلى طائفة من اليهود منهم كَعْب بن الأشْرَف ، ومالك بن الصيف ، وغيرهما من يهود خيبر ، أغواهم العجب بدينهم فتوهموا أنهم قدوة للناس فلما أعيتهم المجاهرة بالمكابرة دبروا للكيد مكيدة أخرى ، فقالوا لطائفة من أتباعهم : « آمِنوا بمحمد أولَ النهار مظهرين أنكم صدّقتموه ثم اكفُروا آخر النهار ليظهر أنكم كفرتم به عن بصيرة وتجربة فيقول المسلمون مَا صرف هؤلاء عنا إلاّ ما انكشف لهم من حقيقة أمر هذا الدين ، وأنّه ليس هو الدين المبشر به في الكتب السالفة » ففعلوا ذلك .
وقوله : { على الذين آمنوا } يحتمل أنه من لفظ الحكاية بأن يكون اليهود قالوا آمِنوا بالذي أنزل على أتباع محمد فحوّله الله تعالى فقال على الذين آمنوا تنويهاً بصدق إيمانهم . ويحتمل أنه من المحكيّ بأن يكون اليهود أطلقوا هذه الصلة على أتباع محمد إذ صارت علماً بالغلبة عليهم . ووجهُ النهار أوله وتقدم آنفاً عند قوله تعالى : { وجيهاً في الدنيا والآخرة } [ آل عمران : 45 ] .