وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن خالد{[19128]} ، عن عمرو بن قيس الملائي ، عن ابن مرزوق : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } قال : يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها ، وأطيبها ريحًا ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أما تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن وجهك . فيقول : أنا عملك الصالح ، وهكذا كنت في الدنيا ، حسن العمل طيبه ، فطالما ركبتك في الدنيا ، فهلم اركبني ، فيركبه . فذلك قوله : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } قال : ركبانًا .
وقال ابن جرير : حدثني ابن المثنى ، حدثنا ابن مهدي ، عن شعبة{[19129]} ، عن إسماعيل ، عن رجل ، عن أبي هريرة : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } قال : على الإبل .
وقال ابن جُريج : على النجائب .
وقال الثوري : على الإبل النوق .
وقال قتادة : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } قال : إلى الجنة .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثنا سُوَيْد بن سعيد ، أخبرنا علي بن مُسْهِر ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، حدثنا النعمان بن سعد قال : كنا جلوسًا عند عليّ ، رضي الله عنه ، فقرأ هذه الآية : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } قال : لا والله ما على أرجلهم يحشرون ، ولا يحشر الوفد على أرجلهم ، ولكن بنوق لم ير{[19130]} الخلائق مثلها ، عليها رحائل من ذهب ، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة{[19131]} .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، من حديث عبد الرحمن بن إسحاق المدني ، به . وزاد : " عليها رحائل الذهب ، وأزمتها الزبرجد " والباقي مثله .
وروى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبًا جدًّا مرفوعًا ، عن علي فقال :
حدثنا أبي ، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي ، حدثنا مسلمة بن جعفر البَجَلي ، سمعت أبا معاذ البصري قال : إن عليا كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } فقال : ما أظن الوفد إلا الركب{[19132]} يا رسول الله . فقال رسول الله{[19133]} صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون - أو : يؤتون - بنوق بيض لها أجنحة ، وعليها رحال الذهب ، شُرُك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مد البصر ، فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان ، فيشربون من إحداهما ، فتغسل ما في بطونهم من دنس ، ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبدًا ، وتجري عليهم نضرة النعيم ، فينتهون أو : فيأتون باب الجنة ، فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب ، فيضربون بالحلقة على الصفيحة{[19134]} فيسمع{[19135]} لها طنين يا علي ، فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل ، فتبعث قيمها فيفتح له ، فإذا رآه خرّ له - قال مسلمة{[19136]} أراه قال : ساجدًا - فيقول : ارفع رأسك ، فإنما أنا قيمك ، وكلت بأمرك . فيتبعه ويقفو أثره ، فتستخف الحوراء العجلة فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه ، ثم تقول : أنت - حِبّي ، وأنا حبّك ، وأنا الخالدة التي لا أموت ، وأنا الناعمة التي لا أبأس ، وأنا الراضية التي لا أسخط ، وأنا المقيمة التي لا أظعن . فيدخل بيتًا من أسّه إلى سقفه مائة ألف ذراع ، بناؤه على جندل اللؤلؤ طرائق : أصفر وأحمر وأخضر ، ليس منها طريقة تشاكل صاحبتها . وفي البيت سبعون سريرًا ، على كل سرير سبعون حشية ، على كل حشية سبعون زوجة ، على كل زوجة سبعون حلة ، يرى مخ ساقها من وراء الحلل ، يقضي جماعها في مقدار ليلة من لياليكم هذه . الأنهار من تحتهم تطرد ، أنهار من ماء غير آسن - قال : صاف لا كَدَر فيه{[19137]} - وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، لم يخرج من ضروع الماشية ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، لم يعتصرها{[19138]} الرجال بأقدامهم{[19139]} وأنهار من عسل مصفى لم يخرج من بطون النحل ، فيستحلي{[19140]} الثمار ، فإن شاء أكل قائمًا ، وإن شاء قاعدًا ، وإن شاء متكئًا ، ثم تلا { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا } [ الإنسان : 14 ] ، فيشتهي الطعام ، فيأتيه طير أبيض ، وربما قال : أخضر{[19141]} فترفع أجنحتها ، فيأكل من جنوبها أي الألوان شاء ، ثم تطير فتذهب ، فيدخل الملك فيقول : سلام عليكم : { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الزخرف : 72 ] ولو أن شعرة من شعر الحوراء{[19142]} وقعت لأهل الأرض ، لأضاءت الشمس معها سواد في نور " {[19143]} .
هكذا وقع في هذه الرواية مرفوعًا ، وقد رويناه في المقدمات من كلام علي ، رضي الله عنه ، بنحوه ، وهو أشبه بالصحة ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتّقِينَ إِلَى الرّحْمََنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىَ جَهَنّمَ وِرْداً } .
يقول تعالى ذكره : يوم نجمع الذين اتقوا في الدنيا فخافوا عقابه ، فاجتنبوا لذلك معاصيه ، وأدّوا فرائضه إلى ربهم وَفْدا يعني بالوفد : الركبان . يقال : وفدت على فلان : إذا قدمت عليه ، وأوفد القوم وفدا على أميرهم ، إذا بعثوا من قبلهم بعثا . والوفد في هذا الموضع بمعنى الجمع ، ولكنه واحد ، لأنه مصدر واحدهم وافد ، وقد يجمع الوفد : الوفود ، كما قال بعض بني حنيفة :
إنّي لَمُمْتَدِحٌ فَمَا هُوَ صَانِعٌ *** رأسُ الُوفُودِ مُزاحمُ بنَ جِساسِ
وقد يكون الوفود في هذا الموضع جمع وافد ، كما الجلوس جمع جالس . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن النعمان بن سعد ، عن عليّ ، في قوله : يَوْمَ نَحْشُرُ المُتّقِينَ إلى الرّحْمَنِ وَفْدا قال : أما والله ما يحشر الوفد على أرجلهم ، ولا يساقون سوقا ، ولكنهم يؤتون بنوق لم ير الخلائق مثلها ، عليها رِحال الذهب ، وأزمتها الزبرجد ، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن شعبة ، عن إسماعيل ، عن رجل ، عن أبي هريرة يَوْمَ نَحْشُرُ المُتّقِينَ إلى الرّحْمَنِ وَفْدا قال : على الإبل .
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يَوْمَ نَحْشُرُ المُتّقِينَ إلى الرّحْمَنِ وَفْدا يقول : ركبانا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس الملائي ، قال : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن صورة ، وأطيبها ريحا ، فيقول : هل تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن طيب ريحك وحسّن صورتك ، فيقول : كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا ، فاركبني أنت اليوم ، وتلا : يَوْمَ نَحْشُرُ المُتّقِينَ إلى الرّحْمَنِ وَفْدا .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة إلى الرّحْمَنِ وَفْدا قال : وفدا إلى الجنة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله : يَوْمَ نَحْشُرُ المُتّقِينَ إلى الرّحْمَنِ وَفْدا قال : على النجائب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : سمعت سفيان الثوري يقول : يَوْمَ نَحْشُرُ المُتّقِينَ إلى الرّحْمَنِ وَفْدا قال : على الإبل النوق .
قال القاضي أبو محمد : وما تضمنته هذه الألفاظ من الوعيد بعذاب الآخرة هو العامل في قوله { يوم } ويحتمل أن يعمل فيه لفظ مقدر تقديره واذكر أو احذر ونحو هذا ، و «الحشر » الجمع ، وقد صار في عرف ألفاظ الشرع البعث من القبور ، وقرأ الحسن يوم «يحشر المتقون ويساق المجرمون » ، وروي عنه «ويسوق المجرمين » بالياء . و «المتقون » هم المؤمنون الذين غفر لهم ، وظاهر هذه الوفادة أنها بعد انقضاء الحساب ، وإنما هي النهوض الى الجنة ، وكذلك سوق المجرمين إنما هو لدخول النار . و { وفداً } قال المفسرون معناه ركباناً وهي عادة الوفود لأنهم سراة الناس{[8046]} وأحسنهم شكلاً فشبه أهل الجنة بأولئك لا أنهم في معنى الوفادة إذ هو مضمن الانصراف ، وإنما المراد تشبيههم بالوفد هيئة وكرامة ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنهم يجيئون ركباناً على النوق المحلاة بحلية الجنة خطمها{[8047]} من ياقوت وزبرجد ونحو هذا ، وروي عن عمر بن قيس الملائي{[8048]} أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم الصالحة هي في غاية الحسن ، وروي «أنهم يركب كل أحد منهم ما أحب فمنهم من يركب الإبل ومن يركب الخيل ومن يركب السفن فتجيء عائمة بهم » ، وقد ورد في الضحايا أنها مطاياكم إلى الجنة ، وفي أكثرها بعد ، لكن ذكرناه بحسب الجمع للأقوال .