68- يا أيها الرسول ، قل لأهل الكتاب : إنكم لا تكونون على أي دين صحيح ، إلا إذا أعلنتم جميع الأحكام التي أنزلت في التوراة والإنجيل وعملتم بها ، وآمنتم بالقرآن الموحى به من الله إلى رسوله لهداية الناس ، ولتتيقن - أيها الرسول - أن معظم أهل الكتاب سيزدادون بالقرآن - الموحى به إليك - ظلماً وكفراً وعناداً ، لحسدهم وحقدهم ، فلا تحزن على الذين طبعوا على الجحود .
يبدو من السياق - قبل هذا النداء وبعده - أن المقصود به مباشرة هو مواجهة أهل الكتاب بحقيقة ما هم عليه ، وبحقيقة صفتهم التي يستحقونها بما هم عليه . . ومواجهتهم بأنهم ليسوا على شيء . . ليسوا على شيء من الدين ولا العقيدة ولا الإيمان . . ذلك أنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم . ومن ثم فلا شيء مما يدعونه لأنفسهم من أنهم أهل كتاب وأصحاب عقيدة وأتباع دين :
( قل : يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم )
وحينما كلف الرسول [ ص ] أن يواجههم بأنهم ليسوا على شيء من الدين والعقيدة والإيمان . . بل ليسوا على شيء أصلا يرتكن عليه ! حينما كلف الرسول [ ص ] بمواجهتهم هذه المواجهة الحاسمة الفاصلة ، كانوا يتلون كتبهم ؛ وكانوا يتخذون لأنفسهم صفة اليهودية أو النصرانية ؛ وكانوا يقولون : إنهم مؤمنون . . ولكن التبليغ الذي كلف رسول الله [ ص ] أن يواجههم به ، لم يعترف لهم بشيء أصلا الا مما كانوا يزعمون لأنفسهم ، لأن " الدين " وليس كلمات تقال باللسان ؛ وليس كتبا تقرأ وترتل ؛ وليس صفة تورث وتدعى . إنما الدين منهج حياة . منهج يشمل العقيدة المستسرة في الضمير ، والعبادة الممثلة في الشعائر ، والعبادة التي تتمثل في إقامة نظام الحياة كلها على أساس هذا المنهج . . ولما لم يكن أهل الكتاب يقيمون الدين على قواعده هذه ، فقد كلف " الرسول " [ ص ] أن يواجههم بأنهم ليسوا على دين ؛ وليسوا على شيء أصلا من هذا القبيل !
وإقامة التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ، مقتضاها الأول الدخول في دين الله الذي جاء به محمد [ ص ] فقد أخذ الله عليهم الميثاق أن يؤمنوا بكل رسول ويعزروه وينصروه . وصفة محمد وقومه عندهم في التوراة وعندهم في الإنجيل - كما أخبر الله وهو أصدق القائلين - فهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم : [ سواء كان المقصود بقوله : ( وما أنزل إليهم من ربهم )هو القرآن - كما يقول بعض المفسرين - أو هو الكتب الأخرى التي أنزلت لهم كزبور داود ] . . نقول إنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم إلا أن يدخلوا في الدين الجديد ، الذي يصدق ما بين يديهم ويهيمن عليه . . فهم ليسوا على شيء - بشهادة الله سبحانه - حتى يدخلوا في الدين الاخير . . والرسول [ ص ] قد كلف أن يواجههم بهذا القرار الإلهي في شأنهم ؛ وأن يبلغهم حقيقة صفتهم وموقفهم ؛ وإلا فما بلغ رسالة ربه . . ويا له من تهديد !
وكان الله - سبحانه - يعلم أن مواجهتهم بهذه الحقيقة الحاسمة ، وبهذه الكلمة الفاصلة ، ستؤدي إلى أن تزيد كثيرا منهم طغيانا وكفرا ، وعنادا ولجاجا . . ولكن هذا لم يمنع من أمر الرسول [ ص ] أن يواجههم بها ؛ وألا يأسى على ما يصيبهم من الكفر والطغيان والظلال والشرود بسبب مواجهتهم بها ؛ لأن حكمته - سبحانه - تقتضي أن يصدع بكلمة الحق ؛ وأن تترتب عليها آثارها في نفوس الخلق . . فيهتدي من يهتدي عن بينة ، ويضل من يضل عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة :
وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ، فلا تأس على القوم الكافرين . .
وكان الله - سبحانه - يرسم للداعية بهذه التوجيهات منهج الدعوة ؛ ويطلعه على حكمة الله في هذا المنهج ؛ ويسلي قلبه عما يصيب الذين لا يهتدون ، إذا هاجتهم كلمة الحق فازدادوا طغيانا وكفرا ؛ فهم يستحقون هذا المصير البائس ؛ لأن قلوبهم لا تطيق كلمة الحق ؛ ولا خير في أعماقها ولا صدق . فمن حكمة الله أن تواجه بكلمة الحق ؛ ليظهر ما كمن فيها وما بطن ؛ ولتجهر بالطغيان والكفر ؛ ولتستحق جزاء الطغاة والكافرين !
ونعود إلى قضية الولاء والتناصر والتعاون بين المسلمين وأهل الكتاب - على ضوء هذا التبليغ الذي كلفه رسول الله [ ص ] وعلى ضوء نتائجه التي قدر الله أن تكون في زيادة الكثيرين منهم طغيانا وكفرا . . فماذا نجد . . ؟
نجد أن الله - سبحانه - يقرر أن أهل الكتاب ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم . . وحتى يدخلوا في الدين الأخير تبعا لهذه الإقامة كما هو بديهي من دعوتهم إلى الإيمان بالله والنبي في المواضع الأخرى المتعددة . . فهم إذن لم يعودوا على " دين الله " ولم يعودوا أهل " دين " يقبله الله .
ونجد أن مواجهتهم بهذه الحقيقة قد علم الله أنها ستزيد الكثيرين منهم طغيانا وكفرا . . ومع هذا فقد أمر رسوله أن يواجههم بها دون مواربة . ودون أسى على ما سيصيب الكثيرين منها !
فإذا نحن اعتبرنا كلمة الله في هذه القضية هي كلمة الفصل - كما هو الحق والواقع - لم يبق هنالك موضع لاعتبار أهل الكتاب . . أهل دين . . يستطيع " المسلم " أن يتناصر معهم فيه للوقوف في وجه الإلحاد والملحدين ؛ كما ينادي بعض المخدوعين وبعض الخادعين ! فأهل الكتاب لم يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ؛ حتى يعتبرهم المسلم ( على شيء ) وليس للمسلم أن يقرر غير ما قرره الله : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) . . وكلمة الله باقية لا تغيرها الملابسات والظروف !
وإذا نحن اعتبرنا كلمة الله هي كلمة الفصل - كما هو الحق والواقع - لم يكن لنا أن نحسب حسابا لأثر المواجهة لأهل الكتاب بهذه الحقيقة ، في هياجهم علينا ، وفي اشتداد حربهم لنا ، ولم يكن لنا أن نحاول كسب مودتهم بالاعتراف لهم بأنهم على دين نرضاه منهم ونقرهم عليه ، ونتناصر نحن وإياهم لدفع الإلحاد عنه - كما ندفع الإلحاد عن ديننا الذي هو الدين الوحيد الذي يقبلة الله من الناس . .
إن الله - سبحانه - لا يوجهنا هذا التوجيه . ولا يقبل منا هذا الاعتراف . ولا يغفر لنا هذا التناصر ، ولا التصور الذي ينبعث التناصر منه . لأننا حينئذ نقرر لأنفسنا غير ما يقرر ؛ ونختار في أمرنا غير ما يختار ؛ ونعترف بعقائد محرفة أنها " دين إلهي ، يجتمع معنا في آصرة الدين الإلهي . . والله يقول : إنهم ليسوا على شيء ، حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم . . وهم لا يفعلون !
والذين يقولون : إنهم مسلمون - ولا يقيمون ما أنزل إليهم من ربهم - هم كأهل الكتاب هؤلاء ، ليسوا على شيء كذلك . فهذه كلمة الله عن أهل أي كتاب لا يقيمونه في نفوسهم وفي حياتهم سواء . والذي يريد أن يكون مسلما يجب عليه - بعد إقامة كتاب الله في نفسه وفي حياته - أن يواجه الذين لا يقيمونه بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموه . وأن دعواهم أنهم على دين ، يردها عليهم رب الدين . فالمفاصلة في هذا الأمر واجبة ؛ ودعوتهم إلى " الإسلام " من جديد هي واجب " المسلم " الذي أقام كتاب الله في نفسه وفي حياته . فدعوى الإسلام باللسان أو بالوراثة دعوى لا تفيد إسلاما ، ولا تحقق إيمانا ، ولا تعطي صاحبها صفة التدين بدين الله ، في أي ملة ، وفي أي زمان !
وبعد أن يستجيب هؤلاء أو أولئك ؛ ويقيموا كتاب الله في حياتهم ؛ يملك " المسلم " أن يتناصر معهم في دفع غائلة الإلحاد والملحدين ، عن " الدين " وعن " المتدينين " . . فأما قبل ذلك فهو عبث ؛ وهو تمييع ، يقوم به خادع أو مخدوع !
إن دين الله ليس راية ولا شعارا ولا وراثة ! إن دين الله حقيقة تتمثل في الضمير وفي الحياة سواء . تتمثل في عقيدة تعمر القلب ، وشعائر تقام للتعبد ، ونظام يصرف الحياة . . ولا يقوم دين الله إلا في هذا الكل المتكامل ؛ ولا يكون الناس على دين الله إلا وهذا الكل المتكامل متمثل في نفوسهم وفي حياتهم . . وكل اعتبارغير هذا الاعتبار تمييع للعقيدة ، وخداع للضمير ؛ لا يقدم عليه " مسلم " نظيف الضمير !
وعلى " المسلم " أن يجهر بهذه الحقيقة ؛ ويفاصل الناس كلهم على أساسها ؛ ولا عليه مما ينشأ عن هذه المفاصلة . والله هو العاصم . والله لا يهدي القوم الكافرين . .
وصاحب الدعوة لا يكون قد بلغ عن الله ؛ ولا يكون قد أقام الحجة لله على الناس ، إلا إذا أبلغهم حقيقة الدعوة كاملة ؛ ووصف لهم ما هم عليه كما هو في حقيقته ، بلا مجاملة ولا مداهنة . . فهو قد يؤذيهم إن لم يبين لهم أنهم ليسوا على شيء ، وأن ما هم عليه باطل كله من أساسه ، وأنه هو يدعوهم إلى شيء آخر تماما غير ما هم عليه . . يدعوهم إلى نقلة بعيدة ، ورحلة طويلة ، وتغيير أساسي في تصوراتهم وفي أوضاعهم وفي نظامهم وفي أخلاقهم . . فالناس يجب أن يعرفوا من الداعية أين هم من الحق الذي يدعوهم إليه . . ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ) . .
وحين يجمجم صاحب الدعوة ويتمتم ولا يبين عن الفارق الأساسي بين واقع الناس من الباطل وبين ما يدعوهم إليه من الحق ، وعن الفاصل الحاسم بين حقه وباطلهم . . حين يفعل صاحب الدعوة هذا - مراعاة للظروف والملابسات ، وحذرا من مواجهة واقع الناس الذي يملأ عليهم حياتهم وأفكارهم وتصوراتهم - فإنه يكون قد خدعهم وآذاهم ، لأنه لم يعرفهم حقيقة المطلوب منهم كله ، وذلك فوق أنه يكون لم يبلغ ما كلفه الله تبليغه !
إن التلطف في دعوة الناس إلى الله ، ينبغي أن يكون في الأسلوب الذي يبلغ به الداعية ، لا في الحقيقة التي يبلغهم إياها . . إن الحقيقة يجب إن تبلغ إليهم كاملة . أما الأسلوب فيتبع المقتضيات القائمة ، ويرتكز على قاعدة الحكمة والموعظة الحسنة . .
ولقد ينظر بعضنا اليوم - مثلا - فيرى أن أهل الكتاب هم أصحاب الكثرة العددية وأصحاب القوة المادية . وينظر فيرى أصحاب الوثنيات المختلفة يعدون بمئات الملايين في الأرض ، وهم أصحاب كلمة مسموعة ، في الشئون الدولية . وينظر فيرى أصحاب المذاهب المادية أصحاب أعداد ضخمة وأصحاب قوة مدمرة . وينظر فيرى الذين يقولون : إنهم مسلمون ليسوا على شيء لأنهم لا يقيمون كتاب الله المنزل إليهم . . فيتعاظمه الامر ، ويستكثر أن يواجه هذه البشرية الضالة كلها بكلمة الحق الفاصلة ، ويرى عدم الجدوى في أن يبلغ الجميع أنهم ليسوا على شيء ! وأن يبين لهم " الدين " الحق !
وليس هذا هو الطريق . . إن الجاهلية هي الجاهلية - ولو عمت أهل الأرض جميعا - وواقع الناس كله ليس بشيء ما لم يقم على دين الله الحق ، وواجب صاحب الدعوة هو واجبة لا تغيره كثرة الضلال ؛ ولا ضخامة الباطل . . فالباطل ركام . . وكما بدأت الدعوة الأولى بتبليغ أهل الأرض قاطبة : أنهم ليسوا على شيء . . كذلك ينبغي أن تستأنف . . وقد استدار الزمان كهيئة يوم بعث الله رسوله [ ص ] وناداه :
( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته - والله يعصمك من الناس . إن الله لا يهدي القوم الكافرين . قل : يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) .
هذا الّذي أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لأهل الكتاب هو من جملة ما ثبّته الله على تبليغه بقوله : { بلّغ ما أنزل إليك من ربّك } ، فقد كان رسول الله يحبّ تألّف أهل الكتاب وربّما كان يثقل عليه أن يجابههم بمثل هذا ولكن الله يقول الحقّ .
فيجوز أن تكون جملة { قل يأهل الكتاب } بياناً لجملة { بَلِّغ ما أنزل إليك من ربّك } [ المائدة : 67 ] ، ويجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً بمناسبة قوله : { يأيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك } [ المائدة : 67 ] .
والمقصود بأهل الكتاب اليهودُ والنّصارى جميعاً ؛ فأمّا اليهود فلأنّهم مأمورون بإقامة الأحكام الّتي لم تنسخ من التوراة ، وبالإيمان بالإنجيل إلى زمن البعثة المحمّديّة ، وبإقامة أحكام القرآن المهيمن على الكتاب كلّه ؛ وأمّا النّصارى فلأنّهم أعرضوا عن بشارات الإنجيل بمجيء الرسول من بعد عيسى عليهما السّلام .
ومعنى { لستم على شيء } نفي أن يكونوا متّصفين بشيءٍ من التّدين والتّقوى لأنّ خَوض الرّسول لا يكون إلاّ في أمر الدّين والهُدى والتَّقوى ، فوقع هنا حذف صفة { شيء } يدلّ عليها المقام على نحو ما في قوله تعالى : { فأردتُ أن أعيبَها وكان وراءَهم مَلِك يأخذ كلّ سفينة غصباً } [ الكهف : 79 ] ، أي كلّ سفينة صالحة ، أو غير معيبة .
والشيء اسم لكلّ موجود ، فهو اسم متوغّل في التنكير صادق بالقليل والكثير ، ويبيّنه السّياق أو القرائن . فالمراد هنا شيء من أمور الكتاب ، ولمّا وقع في سياق النّفي في هذه الآية استفيد نفي أن يكون لهم أقلّ حظّ من الدّين والتَّقوى ما داموا لم يبلُغوا الغاية الّتي ذكرتْ ، وهي أن يقيموا التّوراة والإنجيل والقرآن . والمقصود نفي أن يكون لهم حظّ معتدّ به عند الله ، ومثل هذا النّفي على تقدير الإعتداد شائع في الكلام ، قال عبّاس بن مرداس :
وقد كنتُ في الحرب ذا تُدْرَإٍ *** فلم أعْطَ شيئاً ولم أمْنَع
أي لم أعط شيئاً كافياً ، بقرينة قوله : ولم أمنع . ويقولون : هذا ليس بشيء ، مع أنّه شيء لا محالة ومشار إليه ولكنّهم يريدون أنّه غير معتدّ به . ومنه ما وقع في الحديث الصّحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الكُهَّان ، فقال : « ليْسُوا بشيء » وقد شاكل هذا النَّفيُ على معنى الاعتداد النَّفيَ المتقدّم في قوله : { وإن لم تفعل فما بلّغت رسالاته } ، أي فما بلّغت تبليغاً معتدّاً به عند الله . والمقصود من الآية إنما هو إقامة التّوراة والإنجيل عند مجيء القرآن بالاعتراف بما في التّوراة والإنجيل من التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم حتّى يؤمنوا به وبما أنزل عليه . وقد أوْمَأتْ هذه الآية إلى توغّل اليهود في مجانبة الهدى لأنّهم قد عطّلوا إقامة التّوراة منذ عصور قبل عيسى ، وعطّلوا إقامة الإنجيل إذ أنكروه ، وأنكروا مَن جاء به ، ثُمّ أنكروا نبوءة محمّد صلى الله عليه وسلم فلم يقيموا ما أنزل إليهم من ربّهم .
والكلام على إقامة التّوراة والإنجيل مضى عند قوله آنفاً : { ولو أنّهم أقاموا التّوراة والإنجيل } [ المائدة : 66 ] الخ .
وقد فنّدت هذه الآية مزاعم اليهود أنّهم على التمسّك بالتّوراة ، وكانوا يزعمون أنّهم على هدى ما تمسّكوا بالتّوراة ولا يتمسّكون بغيرها . وعن ابن عبّاس أنّهم جاءوا للنّبيء صلى الله عليه وسلم فقالوا : ألست تقرّ أنّ التّوراة حقّ ، قال : « بلى » ، قالوا : فإنّا نؤمن بها ولا نؤمن بما عَداها . فنزلت هذه الآية . وليس له سند قوي . وقد قال بعض النّصارى للرّسول صلى الله عليه وسلم في شأن تمسّكهم بالإنجيل مثلَ قول بعض اليهود ، كما في قصة إسلام عدي بن حاتم ، وكما في مجادلة بعض وفد نجران .
وقوله : { وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً } ، أي من أهل الكتاب ، وذلك إمّا بباعث الحسد على مجيء هذا الدّين ونزول القرآن ناسخاً لدينهم ، وإمَّا بما في بعض آيات القرآن من قوارعهم وتفنيد مزاعمهم . ولم يزل الكثير منهم إذا ذكروا الإسلام حتّى في المباحث التّاريخيّة والمدنيّة يحتدّون على مدنيّة الإسلام ويقلبون الحقائق ويتميّزون غيظاً ومكابرة حتّى ترى العالِم المشهود له منهم يتصاغر ويتسفّل إلى دركات التبالُه والتّجاهل ، إلاّ قليلاً ممّن اتّخذ الإنصاف شعاراً ، وتباعد عن أن يُرمى بسوءالفهم تجنّباً وحِذاراً .
وقد سمّى الله ما يعترضهم من الشجا في حلوقهم بهذا الدّين { طُغياناً } لأنّ الطغيان هو الغلوّ في الظلم واقتحام المكابرة مع عدم الاكتراث بلوم اللاّئمين من أهل اليقين .
وسلَّى الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله : { فلا تأس على القوم الكافرين } ؛ فالفاء للفصيحة لتتمّ التّسلية ، لأنّ رحمة الرسول بالخَلْق تحزنه ممَّا بلغ منهم من زيادة الطّغيان والكفر ، فنبّهتْ فاء الفصيحة على أنّهم ما بَلغوا ما بَلغوه إلاّ من جرّاء الحسد للرسول فحقيق أن لا يحزن لهم . والأسى الحزن والأسف ، وفعله كفَرِح .
وذُكر لفظ { القوم } وأتبع بوصف { الكافرين } ليدلّ على أنّ المراد بالكافرين هم الّذين صار الكفر لهم سجيّة وصفة تتقوّم بها قوميتهم . ولو لم يذكر القوم وقال : ( فلا تأس على الكافرين ) لكان بمنزلة اللّقب لهم فلا يُشعر بالتّوصيف ، فكان صادقاً بِمَنْ كان الكفر غير راسخ فيه بل هو في حيرة وتردّد ، فذلك مرجّو إيمانه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا أمر من الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم بإبلاغ اليهود والنصارى الذين كانوا بين ظهرانيْ مهاجره، يقول تعالى ذكره له: قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى:"يا أَهْلَ الكِتابِ"؛ التوراة والإنجيل، "لستم على شيء "مما تدّعون أنكم عليه مما جاءكم به موسى صلى الله عليه وسلم معشر اليهود، ولا مما جاءكم به عيسى معشر النصارى، "حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم" ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم من الفرقان، فتعملوا بذلك كله وتؤمنوا بما فيه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، وتقرّوا بأن كلّ ذلك من عند الله، فلا تكذبوا بشيء منه ولا تفرّقوا بين رسل الله فتؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض، فإن الكفر بواحد من ذلك كفر بجميعه، لأن كتب الله يصدّق بعضها بعضا، فمن كذّب ببعضها فقد كذّب بجميعها. "ولَيزِيدَنّ كَثِيرا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ طُغْيانا وكُفْرا": وأقسم ليزيدنّ كثيرا من هؤلاء اليهود والنصارى الذين قصّ قصصهم في هذه الآيات الكتابُ الذي أنزلته إليك يا محمد "طغيانا"، يقول: تجاوزا وغلوّا في التكذيب لك على ما كانوا عليه لك من ذلك قبل نزول الفرقان، "وكُفْرا" يقول: وجحودا لنبوّتك.
"فَلا تَأْسَ على القَوْمِ الكافِرِينَ": فلا تحزن، يقال: أسِيَ فلان على كذا: إذا حزن.
يقول تعالى ذكره لنبيه: لا تحزن يا محمد على تكذيب هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى من بني إسرائيل لك، فإن مثل ذلك منهم عادة وخلق في أنبيائهم، فكيف فيك؟.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال الحسن: قوله تعالى: {حتى تقيموا التوراة والإنجيل} أي حتى تقيموا ما حرفتم وغيرتم من التوراة والإنجيل، وبدلتم وتستووا على ما أنزل، وتؤمنوا به. وقال غيره: قوله تعالى: {حتى تقيموا التوراة والإنجيل} بالشهادة والتصديق لما فيهما. وعن ابن عباس رضي الله عنه [أنه قال]: {حتى تقيموا التوراة والإنجيل} حتى تعلموا بما في التوراة والإنجيل من صفة محمد ونعته ونبوته صلى الله عليهم وسلم وتبينوه للناس، ولا تكتموه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَسْتُمْ على شيء} أي على دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لفساده وبطلانه، كما تقول: هذا ليس بشيء تريد تحقيره وتصغير شأنه. وفي أمثالهم: أقل من لا شيء {فَلاَ تَأْسَ} فلا تتأسف عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك، وفي المؤمنين غنى عنهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أمر تعالى نبيه محمداً عليه السلام أن يقول لأهل الكتاب الحاضرين معه {لستم على شيء} أي على شيء مستقيم، حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وفي إقامة هذين الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {وما أنزل إليكم من ربكم} يعني به القرآن، قاله ابن عباس وغيره ثم أخبر تعالى نبيه أنه سيطغى كثير منهم بسبب نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويزيده نزول القرآن والشرع كفراً وحسداً، ثم سلاه عنهم وحقرهم بقوله {فلا تأس على القوم الكافرين} أي لا تحزن إذ لم يؤمنوا ولا تبال عنهم..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أمر سبحانه بالتبليغ العام، أمره بنوع منه على وجه يؤكد ما ختمت به آية التبليغ من عدم الهداية لمن حتم بكفره، ويبطل -مع تأكيده- هذه الدعوى: قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، فقال مرهباً لهم بعد ما تقدم من الترغيب في إقامته: {قل يا أهل الكتاب} أي من اليهود والنصارى {لستم على شيء} أي سارّ أو يعتد به من دنيا ولا آخرة، لأنه لعدم نفعه لبطلانه لا يسمى شيئاً أصلاً {حتى تقيموا} أي بالعمل بالقلب والقالب {التوراة والإنجيل} وما فيهما من الإيمان بعيسى ثم بمحمد عليهما الصلاة والسلام...
ولما كان ما عندهم إنما أوتي إليهم بواسطة الأنبياء، عداه بحرف الغاية فقال: {إليكم من ربكم} أي المحسن إليكم بإنزاله على ألسنة أنبيائكم من البشارة بهما، وعلى لسان هذا النبي العربي الكريم مما يصدق ما قبله، فإنهم يعلمون ذلك ولكنهم يجحدونه.
ولما كان السياق لأن أكثرهم هالك، صرح به دالاً بالعطف على غير معطوف عليه أن التقدير: فليؤمنن به من أراد الله منهم، فقال: {وليزيدن كثيراً منهم} أي ما عندهم من الكفر بما في كتابهم {مآ أنزل إليك من ربك} المحسن إليك بإنزاله {طغياناً} تجاوزاً شديداً للحد {وكفراً} أي ستراً لما دل عليه العقل.
ولما كان صلى الله عليه وسلم شديد الشفقة على خلق الله، سلاّه في ذلك بقوله: {فلا} أي فتسبب عن إعلام الله لك بذلك قبل وقوعه ثم عن وقوعه كما أخبر أن تعلم أنه بإرادته وقدرته، فقال لك: لا {تأس} أي تحزن {على القوم الكافرين} أي على فوات العريقين في الكفر لأنهم لم يضروا إلاّ أنفسهم لأن ربك العليم القدير لو علم فيهم خيراً لأقبل بهم إليك، والحاصل أنه ختم هذه الآية بمعلول الآية التي قبلها، فكأنه قيل: بلغ، فإن الله هو الهادي المضل، فلا تحزن على من أدبر.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} أي (قل) لأهل الكتاب من اليهود والنصارى فيما تبلغهم عن الله تعالى (لستم على شيء) يعتد به من أمر الدين، ولا ينفعكم الانتساب إلى موسى وعيسى والنبيين (حتى تقيموا التوراة والإنجيل) فيما دعيا إليه من التوحيد الخالص، والعمل الصالح، وفيما بشرا من بعثة النبي الذي يجيء من ولد إسماعيل، (وما أنزل إليكم من ربكم) على لسانه وهو القرآن المجيد، فإنه هو الذي أكمل به دين الأنبياء والمرسلين، على حسب سنته في النشوء والارتقاء بالتدريج.
وقيل: إن المراد بما أنزل إليهم من ربهم ما أنزل على سائر أنبيائهم، كما قيل مثله في آية {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم} [المائدة:66] وتقدم توجيهه، ولم يبعد العهد به فنعيده. إلا أن ذاك حكاية ماضية، وهذا بيان للحال الحاضرة، والحجة عليهم في الزمنيين قائمة، فهم لم يكونوا مقيمين لتلك الكتب قبل هذا الخطاب، ولا في وقته، ولا كان في استطاعتهم أن يقيموها في عهده، كما أنهم لا يستطيعون أن يقيموها الآن. فهذا تعجيز لهم، وتفنيد لدعواهم الاستغناء عن اتباع خاتم النبيين، بإتباعهم لأنبيائهم السابقين، ولا يتضمن الشهادة بسلامة تلك الكتب من التحريف.
ومثله أن نقول الآن لدعاة النصرانية من الأمريكان والألمان والإنكليز؛ يا أيها الداعون لنا إلى إتباع التوراة والإنجيل، نحن لا نعتد بكم، ولا نرى أنكم على إيمان وثقة بدينكم، وصدق إخلاص في دعوتكم، حتى تقيموا أنتم وأهل ملتكم التوراة والإنجيل اللذين في أيديكم، فتحبوا أعداءكم، وتباركوا لاعنيكم، وتعطوا ما لقصير لقيصر، وتخضعوا لكل سلطة لأنها من الله، وإذا اعتدى عليكم أحد فلا تعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، بل أديروا له الخد الأيسر، إذا ضربكم على الخد الأيمن، واتركوا التنافس في إعداد آلات الفتك الجهنمية، ليكون للناس السلام في الأرض، وأخرجوا من هذه الأموال الكثيرة والثروة الواسعة، لأن الغني لا يدخل ملكوت السماوات، حتى يلج الجمل في سم الخياط، ولا تهتموا برزق الغد، الخ ونحن نراكم على نقيض كل ما جاء في هذه الكتب، فأنتم لا تخضعون لكل حاكم بل ميزتم أنفسكم. واستعليتم على الشرائع والحكام من غيركم، وإذا اعتدي على أحد منكم في بقعة من بقاع الأرض. تجردون سيوف دولتكم وتصوبون مدافعها على بلاد المعتدي ودولته لا عليه وحده، حتى تنتقموا لأنفسكم بأضعاف ما اعتدى به عليكم. ولا هم لأممكم ودولكم إلا امتلاء ثروة العالم وزينته ونعيمه. وتسخير غيركم من الأمم لخدمتكم بالقوة القاهرة. والاستعداد لسحق من ينافسكم في مجد هذا العالم الفاني. لعدم اهتمامكم بمجد الملكوت الباقي، فنحن لا نصدق بأنكم تدينون الله بهذه الكتب التي تدعوننا إليها، حتى تقيموها على وجهها، -فهل يعد دعاة النصرانية مثل هذا الخطاب لهم اعترافا منا بسلامة كتبهم من التحريف والزيادة والنقصان؟ أم يفهمون أنه حجة مبينة على التسليم الجدلي لأجل الإلزام؟ نعم يفهمون هذا ولكنهم يقولون لعوام المسلمين، إن هذه الآية شهادة للتوراة والإنجيل بالسلامة من التحريف!!.
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} هذه جملة مستأنفة مؤكدة بالقسم الذي تدل عليه اللام في أولها، تثبت أن الكثير من أهل الكتاب لا يزيدهم القرآن الذي أكمل الله به الدين، المنزل على محمد خاتم النبيين، إلا طغيانا في فسادهم، وكفرا على كفرهم – ذلك بأنهم ما كانوا على إيمان صحيح بالله و بالرسل، ولا على عمل صالح مما تهدي إليه تلك بالكتب، وإنما كان أكثرهم على تقاليد وثنية، وعصبية جنسية، وعادات وأعمال ردية، فهم لهذا لم ينظروا في القرآن نظر إنصاف. وليس لهم من حقيقة دينهم الحق ما يقربهم من فهم حقيقة الإسلام، ليعلموا أن دين الله واحد فما سبق بدء وهذا إتمام. بل ينظرون إليه بعين العصبية والعدوان، وهذا سبب زيادة الكفر والطغيان. – الطغيان مجاوزة الحد المعتاد.
وأما غير الكثير، وهم الذين حافظوا على التوحيد، ولم تحجبهم عن نور الحق تلك التقاليد، فهم يرون القرآن بعين البصيرة فيعلمون أنه الحق من ربهم، وأن من أنزل عليه هو النبي الأخير المبشر به في كتبهم، فيسارعون إلى الإيمان، على حسب حفظهم من العلم وسلامة الوجدان.
والفرق بين نسبة إنزال القرآن إلى الرسول هنا ونسبة إنزاله إليهم في أول الآية (على القول المشهور بأن المراد بما أنزل إليهم القرآن) هو أن خطابهم بإنزال القرآن إليهم يراد به أنهم مخاطبون به ومدعون إليه، ومثله {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} [البقرة: 136] وأما إسناد إنزاله إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فليس لإفادة أنه أوحي إليه فقط، بل يشعر مع ذلك بأن إنزاله إليه سبب لطغيانهم وكفرهم، وأنهم لم يكفروا لأجل إنكارهم لعقائده وآدابه وشرائعه أو استقباحهم لها، بل لعداوة الرسول الذي أنزل إليه وعداوة قومه العرب. وقيل إنه يفيد براءتهم منه، وأنه لا حظ فيه.
{فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي فلا تحزن عليهم لأنهم قوم تمكن الكفر منهم، وصار وصفا لازما لهم. – وهذه نكتة وضع الظاهر موضع الضمير – وحسبك الله ومن اتبعك من مؤمني قومك ومنهم، كعبد الله بن سلام وغيره من علمائهم، قال الراغب: الأسى الحزن، وأصله إتباع الفائت بالغم.
والعبرة للمسلم في الآية أن يعلم أن المسلمين لا يكونون على شيء يعتد به من أمر الدين حتى يقيموا القرآن وما أنزل إليهم من ربهم فيه ويهتدوا بهدايته، فحجة الله على جميع عباده واحدة، فإذا كان الله تعالى لا يقبل من أهل الكتاب قبلنا، تلك التقاليد التي صدتهم عما عندهم من وحي الله تعالى، على ما كان قد طرأ عليه من التحريف بالزيادة والنقصان، فأن لا يقبل منا مثل ذلك مع حفظه لكتابنا أولى. والناس عن هذا غافلون، بالانتساب إلى المذاهب راضون، وبهدي الأئمتها لا يقتدون، وإلى حكمة الدين ومقاصده لا ينظرون، {ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم الكاذبون} [المجادلة: 18]
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإقامة التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، مقتضاها الأول الدخول في دين الله الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقد أخذ الله عليهم الميثاق أن يؤمنوا بكل رسول ويعزروه وينصروه. وصفة محمد وقومه عندهم في التوراة وعندهم في الإنجيل -كما أخبر الله وهو أصدق القائلين- فهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم: [سواء كان المقصود بقوله: (وما أنزل إليهم من ربهم) هو القرآن -كما يقول بعض المفسرين- أو هو الكتب الأخرى التي أنزلت لهم كزبور داود].. نقول إنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم إلا أن يدخلوا في الدين الجديد، الذي يصدق ما بين يديهم ويهيمن عليه.. فهم ليسوا على شيء -بشهادة الله سبحانه- حتى يدخلوا في الدين الاخير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
.. والمقصود بأهل الكتاب اليهودُ والنّصارى جميعاً؛ فأمّا اليهود فلأنّهم مأمورون بإقامة الأحكام الّتي لم تنسخ من التوراة، وبالإيمان بالإنجيل إلى زمن البعثة المحمّديّة، وبإقامة أحكام القرآن المهيمن على الكتاب كلّه؛ وأمّا النّصارى فلأنّهم أعرضوا عن بشارات الإنجيل بمجيء الرسول من بعد عيسى عليهما السّلام.
ومعنى {لستم على شيء} نفي أن يكونوا متّصفين بشيءٍ من التّدين والتّقوى لأنّ خَوض الرّسول لا يكون إلاّ في أمر الدّين والهُدى والتَّقوى، فوقع هنا حذف صفة {شيء} يدلّ عليها المقام على نحو ما في قوله تعالى: {فأردتُ أن أعيبَها وكان وراءَهم مَلِك يأخذ كلّ سفينة غصباً} [الكهف: 79]، أي كلّ سفينة صالحة، أو غير معيبة.
والشيء اسم لكلّ موجود، فهو اسم متوغّل في التنكير صادق بالقليل والكثير، ويبيّنه السّياق أو القرائن. فالمراد هنا شيء من أمور الكتاب، ولمّا وقع في سياق النّفي في هذه الآية استفيد نفي أن يكون لهم أقلّ حظّ من الدّين والتَّقوى ما داموا لم يبلُغوا الغاية الّتي ذكرتْ، وهي أن يقيموا التّوراة والإنجيل والقرآن. والمقصود نفي أن يكون لهم حظّ معتدّ به عند الله، ومثل هذا النّفي على تقدير الاعتداد شائع في الكلام..
وقد فنّدت هذه الآية مزاعم اليهود أنّهم على التمسّك بالتّوراة، وكانوا يزعمون أنّهم على هدى ما تمسّكوا بالتّوراة ولا يتمسّكون بغيرها.. وقوله: {وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً}، أي من أهل الكتاب، وذلك إمّا بباعث الحسد على مجيء هذا الدّين ونزول القرآن ناسخاً لدينهم، وإمَّا بما في بعض آيات القرآن من قوارعهم وتفنيد مزاعمهم. ولم يزل الكثير منهم إذا ذكروا الإسلام حتّى في المباحث التّاريخيّة والمدنيّة يحتدّون على مدنيّة الإسلام ويقلبون الحقائق ويتميّزون غيظاً ومكابرة حتّى ترى العالِم المشهود له منهم يتصاغر ويتسفّل إلى دركات التبالُه والتّجاهل، إلاّ قليلاً ممّن اتّخذ الإنصاف شعاراً، وتباعد عن أن يُرمى بسوء الفهم تجنّباً وحِذاراً.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وهنا إشارتان بيانيتان.. إحداهما- التعبير بقوله تعالى: (لستم على شيء) بالتعبير ب (على) بدل (الباء) وذلك أن حالتهم كانت حال استعلاء على غيرهم فكان المناسب أن يعبر بحرف الاستعلاء وهو (على) لنفي ذلك الاستعلاء والتعدية بالباء تفيد أن النفي منصب على ذواتهم وإنما النفي منصب على استعلائهم. الثانية- التعبير عن القرآن بما أنزل إليكم من ربكم فلم يقل حتى تقيموا التوراة والإنجيل والقرآن- كان فيه تصريح بأنهم مخاطبون به، وأنهم ممن أنزل لأجلهم وإلى ذلك يشير قوله – عليه الصلاة والسلام – (لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يؤمن بما جئت به).
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ماذا يُمثِّل الانتماء إلى الكتاب؟ هل هو مجرّد نسبة يحملها الإنسان من تاريخ آبائه وأجداده لتُمثِّل نَسَباً تاريخياً كما هي الأنساب التاريخيّة المتّصلة بالأشخاص والصفات، من دون أن تحمل معها شيئاً من مضمون التاريخ في معطياته وأفكاره؟ أو هي شيء يتّصل بالمضمون في عطائه الحاضر في الفكر والموقف، حيث يكون الكتاب هو الَّذي يطبع الشخصيّة بطابعه، فيُعطي الفكرة من فكره، ويحدِّد المواقف من خلال خطوطه العمليّة، وبذلك يكون الانتماء في المضمون لا في الشكل؟!! إنَّ الآية تطرح القضيّة على الأساس الثاني للتساؤل، فهي لا تكتفي بنفي الانتماء الحقيقي للكتاب بالأسلوب المألوف، بل تنفي ارتكازهم على أي شيء بالنحو المطلق، إلاَّ بإقامة التَّوراة والإنجيل والقرآن، والَّذي عبّرت عنه الآية، {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيء حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ}
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآية تقول إنّ الادعاء لا يكفي، بل لابدّ من اتباع ما جاء في هذه الكتب السماوية عملياً. ثمّ إن القضية ليست «كتابنا» و«كتابكم»، بل هي الكتب السماوية وما أنزل من الله، فكيف تريدون بمنطقكم الواهي هذا أن تتجاهلوا آخر كتاب سماوي؟