إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۖ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (68)

{ قُلْ يا أهل الكتاب } مخاطِباً الفريقين { لَسْتُمْ على شَيء } أيْ دينٍ يُعتدّ به ويليق بأن يسمى شيئاً لظهور بُطلانه ووضوح فساده ، وفي هذا التعبير من التحقير والتصغير ما لا غايةَ وراءه { حتى تُقِيمُوا التوراة والإنجيل } أي تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائلُ رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وشواهدُ نبوته ، فإن إقامتهما إنما تكون بذلك ، وأما مراعاة أحكامهما المنسوخةِ فليست من إقامتهما في شيء ، بل هي تعطيل لهما وردٌّ لشهادتهما ، لأنهما شاهدان بنسخها وانتهاءِ وقت العمل بها ، لأن شهادتهما بصحة ما ينسخها شهادةٌ بنسخها وخروجها عن كونها من أحكامهما ، وأن أحكامهما ما قرره النبي الذي بشَّرَ فيهما ببعثه ، وذُكر في تضاعيفهما نعُوتُه ، فإذن إقامتُهما بيانُ شواهدِ النبوة والعملُ بما قررته الشريعة من الأحكام كما يُفصح عنه قوله تعالى : { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ من ربّكمْ } أي القرآن المجيد بالإيمان به ، فإن إقامة الجميع لا تتأتَّى بغير ذلك ، وتقديمُ إقامةِ الكتابين على إقامته مع أنها المقصودةُ بالذات لرعاية حقِّ الشهادة واستنزالِهم عن رتبة الشِّقاق ، وإيرادُه بعنوان الإنزال إليهم لما مرّ من التصريح بأنهم مأمورون بإقامته والإيمان به لا كما يزعُمون من اختصاصه بالعرب ، وفي إضافة الربِّ إلى ضميرهم ما أشير إليه من اللطف في الدعوة ، وقيل : المراد بما أُنزل إليهم كتبُ أنبياءِ بني إسرائيلَ كما مر ، وقيل : الكتبُ الإلهية فإنها بأسرها آمرةٌ بالإيمان لمن صدَّقَتْه المعجزةُ ناطقةٌ بوجوب الطاعة له . رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن جماعةً من اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألست تقرأ أن التوراة حقٌّ من عند الله تعالى ؟ فقال عليه السلام : «بلى » ، فقالوا : فإنا مؤمنون بها ولا نؤمنُ بغيرها فنزلت ، قوله تعالى : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً منهُم ما أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ طغيانا وَكُفْراً } جملة مستأنَفةٌ مبيِّنةٌ لشدة شكيمَتِهم وغُلوِّهم في المكابرة والعناد وعدمِ إفادة التبليغ نفعاً ، وتصديرُها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيق مدلولِها ، والمرادُ بالكثير المذكور علماؤهم ورؤساؤهم ، ونسبةُ الإنزال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسبته فيما مر إليهم للإنباء عن انسلاخِهم عن تلك النسبة { فَلاَ تَأسَ عَلَى القوم الكافرين } أي لا تتأسف ولا تحزن عليهم لإفراطهم في الطغيان والكفر بما تُبلّغه إليهم ، فإن غائلتَه آيلةٌ إليهم وتبِعَتَه حائقةٌ لا تتخطاهم ، وفي المؤمنين مندوحةٌ{[178]} لك عنهم ، ووضعُ المُظْهر موضعَ المُضمَرِ للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر .


[178]:يقال: لك عن هذا الأمر مندوحة، أي سعة وفسحة. والمراد أن لك في المؤمنين غنًى عن هؤلاء.