( فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا . فلما جاوزا قال لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا . قال : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا . . ) . .
والأرجح كذلك أن هذا الحوت كان مشويا ، وأن إحياءه واتخاذه سبيله في البحر سربا كان آية من آيات الله لموسى ، يعرف بهما موعده ، بدليل عجب فتاه من اتخاذه سبيله في البحر ، ولو كان يعني أنه سقط منه فغاص في البحر ما كان في هذا عجب . ويرجح هذا الوجه أن الرحلة كلها مفاجآت غيبية . فهذه إحداها .
الضمير في قوله { بينهما } للبحرين ، قاله مجاهد ، وقيل هو لموسى والخضر ، والأول أصوب ، وقرأ عبيد الله بن مسلم «مجمِع » بكسر الميم الثانية ، وقال { نسيا } وإنما كان النسيان من الفتى وحده ، نسي أن يعلم موسى بما رأى من حاله من حيث كان لهما زاداً ، وكانا بسبب منه فنسب فعل الواحد فيه إليهما ، وهذا كما تقول فعل بنو فلان لأمر إنما فعله منهم بعض ، وروي في الحديث أن يوشع رأى الحوت قد حش من المكتل{[7846]} إلى البحر فرآه قد اتخذ السرب ، وكان موسى نائماً فأشفق أن يوقظه ، وقال أوخر حتى يستيقظ ، فلما استيقظ نسي يوشع أن يعلمه ، ورحلا حتى جاوزا «والسبيل » : المسلك و «السرب » : المسلك في جوف الأرض ، فشبه به مسلك الحوت في الماء حين لم ينطبق الماء بعده ، بل بقي كالطاق{[7847]} وهذا الذي ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم{[7848]} ، وقاله جمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغاً ، وقال قتادة ، صار موضع سلوكه حجراً صلداً . وقال ابن زيد إنما اتخذ { سبيله سرباً } في البر حتى وصل إلى البحر ثم عام على العادة .
قال القاضي أبو محمد : وهؤلاء يتأولون { سرباً } بمعنى تصرفاً وجولاناً من قولهم فحل سارب ، أي مهمل يرعى حيث شاء ، ومنه قوله تعالى : { وسارب بالنهار }{[7849]} [ الرعد : 10 ] ، أي متصرف وقالت فرقة اتخذ { سرباً } في التراب من المكتل إلى البحر ، وصادف في طريقه حجراً فثقبه ، وظاهر الأمر أن السرب ، إنما كان في الماء ، ومن غريب ما روي في البخاري عن ابن عباس من قصص هذه الآية أن الحوت إنما حيي لأنه مسه ماء عين هنالك تدعى عين الحياة ما مست قط شيئاً إلا حيي ، ومن غريبه أيضاً أن بعض المفسرين ذكر أن موضع سلوك الحوت عاد حجراً طريقاً ، وأن موسى مشى عليه متبعاً للحوت حتى أفضى ذلك الطريق إلى الجزيرة في البحر وفيها وجد الخضر ، وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر ، يدل على ذلك قوله تعالى : { فارتدا على آثارهما قصصاً } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلما بلغا}، يعني: موسى ويوشع بن نون،
{نسيا حوتهما}، وذلك أن موسى عليه السلام، لما علم ما في التوراة، وفيها تفصيل كل شيء، قال له رجل من بني إسرائيل: هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا، ما بقي أحد من عباد الله هو أعلم مني، فأوحى الله عز وجل إليه: أن رجلا من عبادي يسكن جزائر البحر، يقال له: الخضر هو أعلم منك، قال: فكيف لي به؟ قال جبريل، عليه السلام: أحمل معك سمكة مالحة، فحيث تنساها تجد الخضر هنالك.
فسار موسى ويوشع بن نون، ومعهما خبز وسمكة مالحة في مكتل على ساحل البحر، فأوى إلى الصخرة قليلا... فوقعت السمكة في البحر، فجعل لا يمس صفحتها شيء من الماء إلا انفلق عنه، فقام الماء من كل جانب، وصار أثر الحوت في الماء كهيئة السرب في الأرض... فذلك قوله سبحانه: {فاتخذ سبيله في البحر سربا}، يعني: الحوت اتخذ سبيله، يعني: طريقه في البحر سربا، يقول: كهيئة فم القربة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره: فلما بلغ موسى وفتاه مجمع البحرين...
وقوله:"نَسيا حُوَتهُما" يعني بقوله: نسيا: تركا... عن مجاهد "نَسيَا حُوَتهُما "قال: أضلاه...
قال بعض أهل العربية: إن الحوت كان مع يوشع، وهو الذي نسيه...
وإنما جاز عندي أن يقال: "نَسِيا" لأنهما كانا جميعا تزوّداه لسفرهما، فكان حمل أحدهما ذلك مضافا إلى أنه حمل منهما، كما يقال: خرج القوم من موضع كذا، وحملوا معهم كذا من الزاد، وإنما حمله أحدهما ولكنه لما كان ذلك عن رأيهم وأمرهم أضيف ذلك إلى جميعهم، فكذلك إذا نسيه حامله في موضع قيل: نسي القوم زادهم، فأضيف ذلك إلى الجميع بنسيان حامله ذلك، فيجرى الكلام على الجميع، والفعل من واحد، فكذلك ذلك في قوله: "نَسِيا حُوَتُهما" لأن الله عزّ ذكره خاطب العرب بلغتها، وما يتعارفونه بينهم من الكلام...
وأما قوله: "فاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبا" فإنه يعني أن الحوت اتخذ طريقه الذي سلكه في البحر سربا... ويعني بالسرب: المسلك والمذهب، يسرب فيه: يذهب فيه ويسلكه.
ثم اختلف أهل العلم في صفة اتخاذه سبيله في البحر سربا؛
فقال بعضهم: صار طريقه الذي يسلك فيه كالحجر... حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك: "ما انجابَ ماءٌ مُنْذُ كانَ النَّاسُ غيرُهُ ثَبَتَ مَكانُ الحُوتِ الَّذِي فِيهِ فانْجابَ كالكُوّةِ حتى رَجَعَ إلَيْهِ مُوسَى، فَرأى مَسْلَكَهُ، فقالَ: ذلك ما كُنَّا نَبْغي"...
وقال آخرون: بل صار طريقه في البحر ماء جامدا...
وقال آخرون: بل صار طريقه في البحر حجرا...
وقال آخرون: بل إنما اتخذ سبيله سربا في البرّ إلى الماء، حتى وصل إليه لا في البحر...
والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عزّ وجلّ: واتخذ الحوت طريقه في البحر سربا. وجائز أن يكون ذلك السرب كان بانجياب عن الأرض وجائز أن يكون كان بجمود الماء وجائز أن يكون كان بتحوّله حجرا.
وأصحّ الأقوال فيه ما رُوي الخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا عن أبيّ عنه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... أضاف إليهما النسيان لما كان منهما جميعا النسيان؛ نسي الفتى أن يذكر موسى، ويخبره عن حال الحوت أنه سرب في البحر، ونسي موسى أن يستخبره عنه. فقد كان منها جميعا النسيان؛ عن الفتى الإخبار والتذكير، وعن موسى الاستخبار عن حاله... وقال أهل التأويل: إن الحوت كان مشويا، فأحياه الله. وقال بعضهم: كان طريا. ولكن ليس لنا إلى معرفة الحوت أنه كان مشويا أو طريا حاجة، وهو قادر على أن يُحْيِيَهُ مشويا أو طريا في أي حال كان، والله أعلم...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى النِّسْيَانَ سَبَبًا لِلزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ فِي الْمَسِيرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ كَانَ كَتَبَ لَهُ لِقَاءَهُ، وَكَتَبَ الزِّيَادَةَ فِي السَّيْرِ عَلَى مَوْضِعِ اللِّقَاءِ، فَنَفَذَ الْكُلُّ؛ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَلِكَ عَلَى الْخَلْقِ فِي مَعَانِي الدِّينِ، وَهُوَ عَفْوٌ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والظاهر أن السرب كان في الماء ولا يفسر إلاّ بما ورد في الحديث الصحيح أن الماء صار عليه كالطاق وهو معجزة لموسى عليه السلام أو الخضر إن قلنا أنه نبي وإلاّ تكن كرامة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فلما بلغا مجمع بينهما} أي البحرين، فلم يكن هناك بين أصلاً لصيرورتهما شيئاً واحداً {نسيا حوتهما} فلم يعلم موسى عليه السلام شيئاً من حاله ونسي أن يسأل عنه، وعلم يوشع عليه السلام بعض حاله فنسي أن يذكر ذلك له {فاتخذ} أي الحوت معجزة في معجزة {سبيله} أي طريقه الواسع الواضح {في البحر سرباً} أي خرقاً في الماء غير ملتئم، من السرب الذي هو جحر الوحشي، والحفير تحت الأرض، والقناة يدخل منها الماء الحائط. وقد ورد في حديثه في الصحيح أن الله تعالى أحياه وأمسك عن موضع جريه في الماء، فصار طاقاً لا يلتئم. ويوشع عليه السلام ينظر ذلك، وكأن المجمع كان ممتداً، فظن موسى عليه السلام أن المطلوب أمامه أو ظن أن المراد مجمع آخر فسار...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والأرجح كذلك أن هذا الحوت كان مشويا، وأن إحياءه واتخاذه سبيله في البحر سربا كان آية من آيات الله لموسى، يعرف بهما موعده، بدليل عجب فتاه من اتخاذه سبيله في البحر، ولو كان يعني أنه سقط منه فغاص في البحر ما كان في هذا عجب. ويرجح هذا الوجه أن الرحلة كلها مفاجآت غيبية. فهذه إحداها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى نسيانهما أنهما نسيا أن يراقبا حاله أباقٍ هو في مِكْتله حينئذٍ حتى إذا فقداه في مقامهما ذلك تحَقَّقا أن ذلك الموضع الذي فقداه فيه هو الموضع المؤقت لهما بتلك العلامة فلا يزيدا تَعَباً في المشي، فإسناد النسيان إليهما حقيقةٌ، لأن يوشَع وإن كان هو المُوَكَّل بحِفظ الحوت فكان عليه مراقبته إلا أن موسى هو القاصد لهذا العمل فكان يهمّه تعهّدُه ومراقبتُه. وهذا يدل على أن صاحب العمل أو الحاجةِ إذا وَكَله إلى غيره لا ينبغي له ترْكُ تعهُّدِه...