260- واذكر كذلك قصة إبراهيم إذ قال إبراهيم : رب أرني كيفية إحياء الموتى ، فسأله ربه عن إيمانه بإحياء الموتى ليجيب إبراهيم بما يزيل كل الشك في إيمانه ، فقال الله له : أو لم تؤمن بإحياء الموتى ؟ قال : إني آمنت ولكني طلبت ذلك ليزداد اطمئنان قلبي . قال : فخذ أربعة من الطير الحي فضمها إليك لتعرفهنَّ جيداً ، ثم جَزِّئهن بعد ذبحهن ، واجعل على كل جبل من الجبال المجاورة جزءا منهن ، ثم نادهنَّ فسيأتينك ساعيات وفيهنَّ الحياة كما هي ، واعلم أن الله لا يعجز عن شيء ، وهو ذو حكمة بالغة في كل أمر{[25]} .
ثم تجيء التجربة الثالثة . تجربة إبراهيم أقرب الأنبياء إلى أصحاب هذا القرآن :
( وإذ قال إبراهيم : رب أرني كيف تحيي الموتى . قال : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى ! ولكن ليطمئن قلبي . قال : فخذ أربعة من الطير ، فصرهن إليك ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ، ثم ادعهن يأتينك سعيا ، واعلم أن الله عزيز حكيم ) . .
إنه التشوف إلى ملابسة سر الصنعة الإلهية . وحين يجيء هذا التشوف من إبراهيم الأواه الحليم ، المؤمن الراضي الخاشع العابد القريب الخليل . . حين يجيء هذا التشوف من إبراهيم فإنه يكشف عما يختلج أحيانا من الشوق والتطلع لرؤية أسرار الصنعة الإلهية في قلوب أقرب المقربين !
إنه تشوف لا يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله واستقراره ؛ وليس طلبا للبرهان أو تقوية للإيمان . . إنما هو أمر آخر ، له مذاق آخر . . إنه أمر الشوق الروحي ، إلى ملابسة السر الإلهي ، في أثناء وقوعه العملي . ومذاق هذه التجربة في الكيان البشري مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب ولو كان هو إيمان إبراهيم الخليل ، الذي يقول لربه ، ويقول له ربه . وليس وراء هذا إيمان ، ولا برهان للإيمان . ولكنه أراد أن يرى يد القدرة وهي تعمل ؛ ليحصل على مذاق هذه الملابسة فيستروح بها ، ويتنفس في جوها ، ويعيش معها . . وهي أمر آخر غير الإيمان الذي ليس بعده إيمان .
وقد كشفت التجربة والحوار الذي حكي فيها عن تعدد المذاقات الإيمانية في القلب الذي يتشوف إلى هذه المذاقات ويتطلع :
( وإذ قال إبراهيم : رب أرني كيف تحيي الموتى . قال : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى ! ولكن ليطمئن قلبي ) . .
لقد كان ينشد اطمئنان الأنس إلى رؤية يد الله تعمل ؛ واطمئنان التذوق للسر المحجب وهو يجلى ويتكشف . ولقد كان الله يعلم إيمان عبده وخليله . ولكنه سؤال الكشف والبيان ، والتعريف بهذا الشوق وإعلانه ، والتلطف من السيد الكريم الودود الرحيم ، مع عبده الأواه الحليم المنيب !
ولقد استجاب الله لهذ الشوق والتطلع في قلب إبراهيم ، ومنحه التجربة الذاتية المباشرة :
( قال : فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ؛ ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ؛ ثم ادعهن يأتينك سعيا . واعلم أن الله عزيز حكيم ) . .
لقد أمره أن يختار أربعة من الطير ، فيقربهن منه ويميلهن إليه ، حتى يتأكد من شياتهن ومميزاتهن التي لا يخطىء معها معرفتهن . وأن يذبحهن ويمزق أجسادهن ، ويفرق أجزاءهن على الجبال المحيطة . ثم يدعوهن . فتتجمع أجزاؤهن مرة أخرى ، وترتد إليهن الحياة ، ويعدن إليه ساعيات . . وقد كان طبعا . .
ورأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه . وهو السر الذي يقع في كل لحظة . ولا يرى الناس إلا آثاره بعد تمامه . إنه سر هبة الحياة . الحياة التي جاءت أول مرة بعد أن لم تكن ؛ والتي تنشأ مرات لا حصر لها في كل حي جديد .
رأى إبراهيم هذا السر يقع بين يديه . . طيور فارقتها الحياة ، وتفرقت مزقها في أماكن متباعدة . تدب فيها الحياة مرة أخرى ، وتعود إليه سعيا !
كيف ؟ هذا هو السر الذي يعلو على التكوين البشري إدراكه . إنه قد يراه كما رآه إبراهيم . وقد يصدق به كما يصدق به كل مؤمن . ولكنه لا يدرك طبيعته ولا يعرف طريقته . إنه من أمر الله . والناس لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وهو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه ، لأنه أكبر منهم ، وطبيعته غير طبيعتهم . ولا حاجة لهم به في خلافتهم .
إنه الشأن الخاص للخالق . الذي لا تتطاول إليه اعناق المخلوقين . فإذا تطاولت لم تجد إلا الستر المسدل على السر المحجوب . وضاعت الجهود سدى ، جهود من لا يترك الغيب المحجوب لعلام الغيوب !
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 260 )
العامل في { إذ } فعل مضمر تقديره واذكر . واختلف الناس لم صدرت هذه المقالة عن إبراهيم عليه السلام( {[2538]} ) ؟ فقال الجمهور : إن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكاً في إحياء الله الموتى قط ، وإنما طلب المعاينة . وترجم الطبري في تفسيره فقال : وقال آخرون سأل ذلك ربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس أنه قال : ما في القرآن آية أرجى عندي منها( {[2539]} ) ، وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال : { رب أرني كيف تحيي الموتى } ؟ وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «نحن أحق بالشك من إبراهيم » الحديث( {[2540]} ) . ثم رجح الطبري هذا القول الذي يجري مع ظاهر الحديث . وقال : إن إبراهيم لما رأى الجيفة تأكل منها الحيتان ودواب البر ألقى الشيطان في نفسه فقال : متى يجمع الله هذه من بطون هؤلاء ؟ وأما من قال : بأن إبراهيم لم يكن شاكاً ، فاختلفوا في سبب سؤاله . فقال قتادة : إن إبراهيم رأى دابة قد توزعتها السباع فعجب وسأل هذا السؤال . وقال الضحاك : نحوه ، قال : وقد علم عليه السلام أن لله قادر على إحياء الموتى ، وقال ابن زيد : رأى الدابة تتقسمها السباع والحيتان لأنها كانت على حاشية البحر ، وقال ابن إسحاق ، بل سببها أنه لما فارق النمرود وقال له : أنا أحيي وأميت ، فكر في تلك الحقيقة والمجاز( {[2541]} ) ، فسأل هذا السؤال . وقال السدي وسعيد بن جبير : بل سبب هذا السؤال أنه بشر بأن الله اتخذه خليلاً أراد أن يدل بهذا السؤال ليجرب صحة الخلة ، فإن الخليل يدل بما لا يدل به غيره ، وقال سعيد بن جبير : { ولكن ليطمئن قلبي } يريد بالخلة .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وما ترجم به الطبري عندي مردود( {[2542]} ) ، وما أدخل تحت الترجمة متأول ، فأما قول ابن عباس : هي أرجى آية فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا ، وليست مظنة ذلك ، ويجوز أن يقول : هي أرجى آية لقوله : { أو لم تؤمن } ؟ أي إن الإيمان كاف لا يحتاج بعده إلى تنقير وبحث ، وأما قول عطاء بن أبي رباح : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فمعناه من حب المعاينة ، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت ، به ، ولهذا قال النبي عليه السلام : «ليس الخبر كالمعاينة »( {[2543]} ) ، وأما قول النبي عليه السلام نحن أحق بالشك من إبراهيم فمعناه : أنه لو كان شك لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك ، فإبراهيم عليه السلام أحرى أن لا يشك ، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم( {[2544]} ) .
والذي روي فيه عن النبي عليه السلام أنه قال : ذلك محض الإيمان( {[2545]} ) إنما هو في الخواطر الجارية التي لا تثبت ، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر ، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام . وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع ، وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به ، يدلك على ذلك قوله : { ربي الذي يحيي ويميت } [ البقرة : 258 ] فالشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط ، فكيف بمرتبة النبوءة والخلة ، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً( {[2546]} ) ، وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكاً ، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول . نحو قولك : كيف علم زيد ؟ وكيف نسج الثوب ؟ ونحو هذا ، ومتى قلت كيف ثوبك وكيف زيد فإنما السؤال عن حال من أحواله ، وقد تكون { كيف } خبراً عن شيء شأنه أن يستفهم عنه ، { كيف } نحو قولك : كيف شئت فكن ، ونحو قول البخاري : كيف كان بدء الوحي ، و { كيف } في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء ، والإحياء متقرر ، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبر عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح ، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح ، مثال ذلك أن يقول مدع : أنا أرفع هذا الجبل ، فيقول له المكذب : أرني كيف ترفعه ؟ فهذه طريقة مجاز في العبارة ، ومعناها تسليم جدلي ، كأنه يقول افرض أنك ترفعه أرني كيف ؟ فلما كان في عبارة الخليل عليه السلام هذا الاشتراك المجازي ، خلص الله له ذلك وحمله على أن يبين الحقيقة فقال له : { أَوَلَمْ تؤمن قال بلى } ، فكمل الأمر وتخلص من كل شك ، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمانينة .
قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى : { أَوَلَمْ تؤمن } معناه إيماناً مطلقاً دخل فيه فصل إحياء الموتى ، والواو واو حال دخلت عليه ألف التقرير( {[2547]} ) ، و { ليطمئن } معناه ليسكن عن فكره ، والطمأنينة اعتدال وسكون على ذلك الاعتدال فطمأنينة الأعضاء معروفة ، كما قال عليه السلام : «ثم اركع حتى تطمئن راكعاً » ، الحديث ، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد . والفكر في صورة الإحياء غير محظورة ، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها ، بل هي فكر فيها عبر ، فأراد الخليل أن يعاين ، فتذهب فكره في صورة الإحياء ، إذ حركه إلى ذلك إما أمر الدابة المأكولة وإما قول النمرود : أنا أحيي وأميت ، وقال الطبري : معنى { ليطمئن } ليوقن . وحكي نحو ذلك عن سعيد بن جبير ، وحكي( {[2548]} ) عنه ليزداد يقيناً وقاله إبراهيم وقتادة . وقال بعضهم : لأزداد إيماناً مع إيماني .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر ، وإلا فاليقين لا يتبعض ، وروي أن الأربعة التي أخذ إبراهيم هي الديك ، والطاووس ، والحمام ، والغراب ، ذكر ذلك ابن إسحاق عن بعض أهل العلم الأول ، وقاله مجاهد وابن جريج وابن زيد ، وقال ابن عباس : مكان الغراب الكركي( {[2549]} ) .
وروي في قصص هذه الآية أن الخليل عليه السلام أخذ هذه الطير حسبما أمر وذكاها( {[2550]} ) ثم قطعها قطعاً صغاراً وجمع ذلك مع الدم والريش ، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءاً على كل جبل ، ووقف هو من حيث يرى تلك الأجزاء ، وأمسك رؤوس الطير في يده ، ثم قال تعالين بإذن الله( {[2551]} ) ، فتطايرت تلك الأجزاء وطار الدم إلى الدم ، والريش إلى الريش ، حتى التأمت كما كانت أولاً وبقيت بلا رؤوس ، ثم كرر النداء فجاءته سعياً( {[2552]} ) حتى وضعت أجسادها في رؤوسها ، وطارت بإذن الله تعالى ، وقرأ حمزة وحده : «فصِرهن إليك » بكسر الصاد( {[2553]} ) ، وقرأ الباقون بضمها ويقال صرت الشيء أصوره بمعنى قطعته ، ومنه قول ذي الرمة : [ الرجز ]
صِرْنَا بِهِ الحُكْمَ وَعَنَّا الحَكَمَا . . . ( {[2554]} )
فلو يلاقي الذي لاقيتُه حضنٌ . . . لظلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهْيَ تنصارُ( {[2555]} )
أي تنقطع ويقال أيضاً صرت الشيء بمعنى أملته ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
يصُورُ عنوقَها أحوى زنيمٌ . . . لَهُ صَخَبٌ كَمَا صَخِبَ الْغَرِيمُ( {[2556]} )
ومنه قول الأعرابي في صفة نساء هن إلى الصبا صور ، وعن الخنا نور( {[2557]} ) ، فهذا كله في ضم الصاد ، ويقال أيضاً في هذين المعنيين ، : القطع والإمالة : صرت الشيء بكسر الصاد أصيره ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
وفرعٌ يَصيرُ الْجِيدَ وَجْفٌ كأَنَّهُ . . . عَلى اللِّيتِ قِنْوانُ الكرومِ الدَّوالِحِ( {[2558]} )
ففي اللفظة لغتان قرىء بهما ، وقد قال ابن عباس ومجاهد في هذه الآية { صرهن } معناه : قطعهن ، وقال عكرمة وابن عباس فيما في بعض ما روي عنه أنها لفظة بالنبطية( {[2559]} ) معناها قطعهن ، وقاله الضحاك ، وقال أبو الأسود الدؤلي : هي بالسريانية ، وقال قتادة : { صرهن } فصلهن ، وقال ابن إسحاق : معناه قطعهن ، وهوالصور في كلام العرب ، وقال عطاء بن أبي رباح : { فصرهن } معناه اضممهن إليك( {[2560]} ) . وقال ابن زيد معناه اجمعهن ، وروي عن ابن عباس معناه أوثقهن .
قال القاضي أبو محمد : فقد تأول المفسرون اللفظة بمعنى التقطيع وبمعنى الإمالة . فقوله { إليك } على تأويل التقطيع متعلق بخذ . وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق ب { صرّهنّ } ، وفي الكلام متروك يدل عليه الظاهر تقديره فأملهن إليك فقطعهن( {[2561]} ) . وقرأ قوم «فصُرَّهن » بضم الصاد وشد الراء المفتوحة كأنه يقول فشدَّهن . ومنه صرة الدنانير . وقرأ قوم «فصِرَّهن » بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة ومعناه صيحهن من قولك صر الباب والقلم إذا صوَّتَ ، ذكره النقاش( {[2562]} ) . قال ابن جني وهي قراءة غريبة وذلك أن يفعل بكسر العين في المضاعف المتعدي قليل ، وإنما بابه يفعُل بضم العين كشد يشُد ونحوه .
لكن قد جاء منه نمَّ الحديث يَنمُّه ويُنمّه وهر الحرب يَهرها ويُهرها( {[2563]} ) ومنه قول الأعشى :
لَيَعْتَوِرَنْكَ الْقَوْلَ حَتَّى تهرَّهُ . . . ( {[2564]} )
إلى غير ذلك في حروف قليلة . قال ابن جني ، وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح والكسر كمد وشد والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد قال المهدوي وغيره وروي عن عكرمة فتح الصاد وشد الراء المكسورة .
قال القاضي أبو محمد : وهذه بمعنى فاحبسهن من قولهم صرى يصري إذا حبس ، ومنه الشاة المصراة( {[2565]} ) ، واختلف المتأولون في معنى قوله : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً } ، فروى أبو حمزة عن ابن عباس أن المعنى اجعل جزءاً على كل ربع من أرباع الدنيا( {[2566]} ) كأن المعنى اجعلها في أركان الأرض الأربعة . وفي هذا القول بعد ، وقال قتادة والربيع المعنى واجعل على أربعة أجبل( {[2567]} ) على كل جبل جزءاً من ذلك المجموع المقطع ، فكما يبعث الله هذه الطير من هذه الجبال فكذلك يبعث الخلق يوم القيامة من أرباع الدنيا وجميع أقطارها . وقرأ الجمهور «جزءاً » بالهمز ، وقرأ أبو جعفر «جزّاً » بشد الزاي في جميع القرآن . وهي لغة في الوقف فأجرى أبو جعفر الوصل مجراه . وقال ابن جريج والسدي أمر أن يجعلها على الجبال التي كانت الطير والسباع حين تأكل الدابة تطير إليها وتسير نحوها وتتفرق فيها . قالا : وكانت سبعة أجبل فكذلك جزأ ذلك المقطع من لحم الطير سبعة أجزاء . وقال مجاهد : بل أمر أن يجعل على كل جبل يلية جزءاً . قال الطبري معناه دون أن تحصر الجبال بعدد ، بل هي التي كان يصل إبراهيم إليها وقت تكليف الله «إياه تفريق ذلك فيها ، لأن الكل لفظ يدل على الإحاطة .
قال القاضي أبو محمد : وبعيد أن يكلف جميع جبال الدنيا ، فلن يحيط بذلك بصره ، فيجيء ما ذهب إليه الطبري جيداً متمكناً . والله أعلم أي ذلك كان . ومعنى الآية أن إبراهيم عليه السلام كان بحيث يرى الأجزاء في مقامه ، ويرى كيف التأمت ، وكذلك صحت له العبرة ، وأمره بدعائهن وهن أموات إنما هو لتقرب الآية منه وتكون بسبب من حاله ، ويرى أنه قصد بعرض ذلك عليه . ولذلك جعل الله تعالى سيرهن إليه { سعياً } ، إذ هي مشية المجدّ الراغب فيما يمشي إليه ، فكان من المبالغة أن رأى إبراهيم جدها في قصده وإجابة دعوته . ولو جاءته مشياً لزالت هذه القرينة ، ولو جاءت طيراناً لكان ذلك على عرف أمرها ، فهذا أغرب منه . ثم وقف عليه السلام على العلم بالعزة التي في ضمنها القدرة وعلى الحكمة التي بها إتقان كل شيء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أرني كيف تحي الموتى} {قال أولم تؤمن} يا إبراهيم، يعني قال: أو لم تصدق بأني أحيي الموتى يا إبراهيم؟ {قال بلى} صدقت {ولكن ليطمئن قلبي} ليسكن قلبي بأنك أريتني الذي أردت.
{قال فخذ أربعة من الطير}: فاذبحهن يقول: قطعهن، ثم خالف بين مفاصلهن وأجنحتهن {فصرهن إليك}: بلغة النبط صرهن: قطعهن، واخلط ريشهن ودماءهن، ثم خالف بين الأعضاء والأجنحة، واجعل مقدم الطير مؤخر طير آخر، ثم فرقهن على أربعة أجبال، {ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا} فيها تقدم فدعاهن فتواصلت الأعضاء والأجنحة، فأجابته جميعا. {واعلم أن الله عزيز حكيم} فقال: عند ذلك أعلم أن الله عزيز في ملكه حكيم، يعني حكم البعث يقول: كما بعث هذه الأطيار الأربعة من هذه الجبال الأربعة، فكذلك يبعث الله عز وجل الناس من أرباع الأرض كلها ونواحيها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بذلك: ألم تر إذ قال إبراهيم ربّ أرني. وإنما صلح أن يعطف بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} على قوله: {أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ} وقوله: {ألَمْ تَرَ إِلى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ} لأن قوله: {ألَمْ تَرَ} ليس معناه: ألم تر بعينيك، وإنما معناه: ألم تر بقلبك، فمعناه: ألم تعلم فتذكر، فهو وإن كان لفظه لفظ الرؤية فيعطف عليه أحيانا بما يوافق لفظه من الكلام، وأحيانا بما يوافق معناه.
واختلف أهل التأويل في سبب مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموت؟ فقال بعضهم: كانت مسألته ذلك ربه، أنه رأى دابة قد تقسمتها السباع والطير، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها مع تفرّق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ليرى ذلك عيانا، فيزداد يقينا برؤيته ذلك عيانا إلى علمه به خبرا، فأراه الله ذلك مثلاً بما أخبر أنه أمره به...
وقال آخرون: بل كان سبب مسألته ربه ذلك، المناظرة والمحاجة التي جرت بينه وبين نمروذ في ذلك...
وهذان القولان، أعني الأول وهذا الآخر، متقاربا المعنى في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى كانت ليرى عيانا ما كان عنده من علم ذلك خبرا.
وقال آخرون: بل كانت مسألته ذلك ربه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلاً، فسأل ربه أن يريه عاجلاً من العلامة له على ذلك ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلاً، ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيدا...
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، ما صحّ به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال، وهو قوله: «نَحْنُ أحَقّ بالشّكّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ رَبّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى، قَالَ أَوَلَمْ تُؤمِنْ» وأن تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرض في قلبه... فقال له ربه: {أوَلَمْ تُؤمِنْ} يقول: أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر؟ قال: بلى يا ربّ، لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئنّ قلبي، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل...
ومعنى قوله: {لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي} ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه. وهذا التأويل الذي قلناه في ذلك هو تأويل الذين وجهوا معنى قوله: {لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي} إلى أنه ليزداد إيمانا، أو إلى أنه ليوفق... وقال آخرون: معنى قوله: {لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي} لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك...
وأما تأويل قوله: {قَالَ أوَلَمْ تُؤمِنْ} فإنه: أولم تصدّق؟... قال ابن زيد في قوله: {أوَلَمْ تُؤمِنْ} قال: أولم توقن.
{قَالَ فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطّيْرِ}.
يعني تعالى ذكره بذلك: قال الله له: فخذ أربعة من الطير...
اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والحجاز والبصرة: {فَصُرْهُنّ إلَيْكَ} بضم الصاد من قول القائل: صُرْت إلى هذا الأمر: إذا ملت إليه أَصُور صَوَرا، ويقال: إني إليكم لأَصْوَرُ أي مشتاق مائل... فمعنى قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ}: اضممهنّ إليك ووجههن نحوك... ومن وجه قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ} إلى هذا التأويل كان في الكلام عنده متروك قد ترك ذكره استغناء بدلالة الظاهر عليه، ويكون معناه حينئذٍ عنده، قال: فخذ أربعة من الطير فصرهنّ إليك، ثم قطعهن، ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزءا. وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك إذا قرئ كذلك بضم الصاد: قَطّعهن... وإذا كان ذلك تأويل قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ} كان في الكلام تقديم وتأخير، ويكون معناه: فخذ أربعة من الطير إليك فصرهن... فأما نحويو البصرة فإنهم قالوا: {فَصُرْهُنّ إلَيْكَ} سواء معناه إذا قرئ بالضم من الصاد وبالكسر في أنه معنيّ به في هذا الموضع التقطيع،...قالوا: فلقول القائل: صُرْت الشيء معنيان: أملته، وقطعته... وهذا القول الذي ذكرناه عن البصريين من أن معنى الضم في الصاد من قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ} والكسر سواء بمعنى واحد، وأنهما لغتان معناهما في هذا الموضع فقطعهن، وأن معنى إليك تقديمها قبل فصرهن من أجل أنها صلة قوله: «فخذ»، أولى بالصواب من قول الذين حكينا قولهم من نحويي الكوفيين الذي أنكروا أن يكون للتقطيع في ذلك وجه مفهوم إلا على معنى القلب الذي ذكرت، لإجماع أهل التأويل على أن معنى قوله: {فَصُرْهُنّ} غير خارج من أحد معنيين: إما قطّعهنّ، وإما اضممهنّ إليك، بالكسر قرئ ذلك أو بالضم. ففي إجماع جميعهم على ذلك على غير مراعاة منهم كسر الصاد وضمها، ولا تفريق منهم بين معنيي القراءتين أعني الكسر والضم، أوضح الدليل على صحة قول القائلين من نحويي أهل البصرة في ذلك ما حكينا عنهم من القول، وخطأ قول نحويي الكوفيين لأنهم لو كانوا إنما تأولوا قوله: {فَصُرْهُنّ} بمعنى فقطعهن، على أن أصل الكلام فأصرهنّ، ثم قلبت فقيل فصِرهن بكسر الصاد لتحوّل ياء فأصرهن مكان رائه، وانتقال رائه مكان يائه، لكان لا شك مع معرفتهم بلغتهم وعلمهم بمنطقهم، قد فصلوا بين معنى ذلك إذا قرئ بكسر صاده، وبينه إذا قرئ بضمها، إذ كان غير جائز لمن قلب فأصرهن إلى فصِرْهُن أن يقرأه فصرهن بضم الصاد، وهم مع اختلاف قراءتهم ذلك قد تأوّلوه تأويلاً واحدا على أحد الوجيهن اللذين ذكرنا. ففي ذلك أوضح الدليل على خطأ قول من قال: إن ذلك إذا قرئ بكسر الصاد بتأويل التقطيع مقلوب من صَرِيَ يَصْرَى إلى صار يصير، وجهل من زعم أن قول القائل صار يصور وصار يصير غير معروف في كلام العرب بمعنى قطع...
ففيما ذكرنا من أقوال من روينا في تأويل قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ} أنه بمعنى فقطعهن إليك، دلالة واضحة على صحة ما قلنا في ذلك، وفساد قول من خالفنا فيه. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء قرأ القارئ ذلك بضم الصاد فصُرْهن إليك أو كسرها فصِرْهن إذْ كانت اللغتان معروفتين بمعنى واحد، غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن أحبهما إليّ أن أقرأ به «فصُرْهن إليك» بضم الصاد، لأنها أعلى اللغتين وأشهرهما وأكثرهما في أحياء العرب. وعند نفر قليل من أهل التأويل أنها بمعنى أوثق... عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ} قال: اضممهنّ إليك...
{ثُمّ اجْعَلْ على كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا ثُمّ ادْعُهُنّ يأتِينَكَ سَعْيا}.
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {ثُمّ اجْعَل على كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا}... عن ابن عباس: {ثُمّ اجْعَلْ على كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا} قال: لما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءا...
الله تعالى ذكره أمر إبراهيم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن على جميع الأجبال التي كان يصل إبراهيم في وقت تكليف الله إياه تفريق ذلك وتبديدها عليها أجزاء، لأن الله تعالى ذكره قال له: {ثُمّ اجْعَلْ على كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا} والكل حرف يدل على الإحاطة بما أضيف إليه لفظه واحد ومعناه الجمع... وأما قوله: {ثُمّ ادْعُهُنّ} فإن معناه ما ذكرت آنفا عن مجاهد أنه قال: هو أنه أمر أن يقول لأجزاء الأطيار بعد تفريقهن على كل جبل تعالين بإذن الله.
فإن قال قائل: أمر إبراهيم أن يدعوهنّ وهن ممزّقات أجزاء على رؤوس الجبال أمواتا، أم بعد ما أحيين؟ فإن كان أمر أن يدعوهن وهن ممزّقات لا أرواح فيهنّ، فما وجه أمر من لا حياة فيه بالإقبال؟ وإن كان أمر بدعائهن بعد ما أحيين، فما كانت حاجة إبراهيم إلى دعائهن وقد أبصرهن ينشرن على رءوس الجبال؟ قيل: إن أمر الله تعالى ذكره إبراهيم صلى الله عليه وسلم بدعائهن وهن أجزاء متفرّقات إنما هو أمر تكوين، كقول الله للذين مسخهم قردة بعد ما كانوا إنسا: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} لا أمر عبادة، فيكون محالاً إلا بعد وجود المأمور المتعبد.
{وَاعْلَمْ أنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
يعني تعالى ذكره بذلك: واعلم يا إبراهيم أن الذي أحيا هذه الأطيار بعد تمزيقك إياهنّ، وتفريقك أجزاءهنّ على الجبال، فجمعهن وردّ إليهن الروح، حتى أعادهن كهيئتهن قبل تفريقهن، {عَزِيزٌ} في بطشه إذا بطش بمن بطش من الجبابرة والمتكبرة الذين خالفوا أمره، وعصوا رسله، وعبدوا غيره، وفي نقمته حتى ينتقم منهم، {حَكِيمٌ} في أمره.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ويحتمل أن يكون إبراهيم عليه السلام أراد بسؤاله ذلك أن تكون له آية حسية، لأن آيات إبراهيم كانت عقلية، وآيات سائر الأنبياء كانت عقلية وحسية، فأحب إبراهيم، صلوات الله عليه وسلامه، أن يكون له آية حسية، على ما لهم، كسؤال زكريا ربه حين {قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا} [آل عمران: 41]: جعل له آية حسية، فعلى ذلك سؤال إبراهيم عليه السلام...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
قال ابن حزم – رحمه الله تعالى -: أما قوله تعالى {رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} فلن يقرره ربُنا عز وجل وهو يشك في إيمان إبراهيم عبده وخليله ورسوله عليه السلام تعالى الله عن ذلك. ولكن تقريرا للإيمان في قلبه، وإن لم ير كيفية إحياء الموتى، فأخبر عليه السلام عن نفسه أنه مؤمن مصدق وإنما أراد أن يرى الكيفية فقط ويعتبر بذلك، وما شك إبراهيم عليه السلام في أن الله سبحانه وتعالى يحي الموتى، وإنما أراد أن يرى الهيئة...
وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى "نحن أحق بالشك من إبراهيم". فمن ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم شك قط في قدرة ربه عز وجل على إحياء الموتى فقد كفر، وهذا الحديث حجة لنا على نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام، أي لو كان هذا الكلام من إبراهيم عليه السلام شكا لكان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم عليه السلام أحق بالشك، فإذا كان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم غير شاك، فإبراهيم عليه السلام أبعد من الشك...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
اطمأن يطمئن اطمئنانا: إذا تواطأ، والمطمئن من الأرض ما انخفض وتطامن، واطمأن إليه إذا وثق به، لسكون نفسه إليه، ولتوطي حاله بالأمانة عنده، وأصل الباب التوطئة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قيل كان في طلب في زيادة اليقين، فأراد أن يقرن حق اليقين بما كان له حاصلاً من عين اليقين. وقيل استجلب خطابه بهذه المقالة إلى قوله سبحانه:
وفي هاتين الآيتين رخصة لمن طلب زيادةَ اليقين من الله سبحانه وتعالى في حال النظر... ويقال إن إبراهيم أراد إحياء القلب بنور الوصلة بحكم التمام، فقيل له: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} يعني أما تذكر حال طلبك إيانا حين كنت تقول لكل شيء رأيته {هَذَا رَبِّى} [الأنعام: 77] فلم تَدْرِ كيف بَلَّغْنَاكَ إلى هذه الغاية، فكذلك يوصلك إلى ما سَمَتْ إليه هِمَّتُك... والإشارة من هذا أن حياة القلب لا تكون إلا بذبح هذه الأشياء يعني النفس؛ فَمَنْ لم يذبح نفسه بالمجاهدات لم يَحْيَى قلبُه بالله...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
148- السكون في القلب شيء، واليقين شيء آخر، فكم من يقين لا طمأنينة معه كما قال تعالى: {أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} فالتمس أن يكون مشاهدا إحياء الميت بعينه ليثبت في خياله، فإن النفس تتبع الخيال وتطمئن به ولا تطمئن باليقين في ابتداء أمرها إلى أن تبلغ بالآخرة درجة النفس المطمئنة وذلك لا يكون في البداية أصلا. [الإحياء: 4/277]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَرِنِى}: بصرني، فإن قلت: كيف قال له {أَوَ لَمْ تُؤْمِنَ} وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً؟ قلت: ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين.
و {بلى} إيجاب لما بعد النفي، معناه: بلى آمنت {ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ليزيد سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال، وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين، ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ومعنى الآية أن إبراهيم عليه السلام كان بحيث يرى الأجزاء في مقامه، ويرى كيف التأمت، وكذلك صحت له العبرة، وأمره بدعائهن وهن أموات إنما هو لتقرب الآية منه وتكون بسبب من حاله، ويرى أنه قصد بعرض ذلك عليه. ولذلك جعل الله تعالى سيرهن إليه {سعياً}، إذ هي مشية المجدّ الراغب فيما يمشي إليه، فكان من المبالغة أن رأى إبراهيم جدها في قصده وإجابة دعوته. ولو جاءته مشياً لزالت هذه القرينة، ولو جاءت طيراناً لكان ذلك على عرف أمرها، فهذا أغرب منه. ثم وقف عليه السلام على العلم بالعزة التي في ضمنها القدرة وعلى الحكمة التي بها إتقان كل شيء...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قوله تعالى:"قال بلى ولكن ليطمئن قلبي" أي سألتك ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهانا والمعلوم عيانا. والطمأنينة: اعتدال وسكون، فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام: (ثم اركع حتى تطمئن راكعا) الحديث. وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد. والفكر في صورة الإحياء غير محظور، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها إذ هي فكر فيها عبر فأراد الخليل أن يعاين فيذهب فكره في صورة الإحياء...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
فأمره أن يأخذ أربعة من الطير، ولم يذكر الله تعالى تعيين الأربعة من أي جنس هي من الطير، فيحتمل أن يكون المأمور به معيناً، وما ذكر تعيينه، ويحتمل أن يكون أمر بأخذ أربعة، أي أربعة كانت من غير تعيين، إذ لا كبير علم في ذكر التعيين... {واعلم أن الله عزيز حكيم} عزيز لا يمتنع عليه ما يريد، حكيم فيما يريد ويمثل، والعزة تتضمن القدرة، لأن الغلبة تكون عن العزة. وقيل: عزيز منتقم ممن ينكر بعث الأموات، حكيم في نشر العظام الرفاة. وقد تضمنت هذه القصص الثلاث، من فصيح المحاورة بذكر: قال، سؤالاً وجواباً، وغير ذلك من غير عطف، إذ لا يحتاج إلى التشريك بالحرف إلاَّ إذا كان الكلام بحيث لو لم يشرك لم يستقل، فيؤتى بحرف التشريك ليدل على معناه. أما إذا كان المعنى يدل على ذلك، فالأحسن ترك الحرف إذا كان أخذ بعضه بعنق بعض، ومرتب بعضه من حيث المعنى على بعض...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال الحرالي: ولما كان أمر منزل القرآن إقامة الدين بمكتوبه وحدوده فأنهاه تعالى منتهى منه ثم نظم به ما نظم من علنه في آية الكرسي ورتب على ذلك دين الإسلام الذي هو إلقاء كإلقاء اليد عند الموت، انتظم به أمر المعاد الذي لا مدخل للعباد في أمره، فرتب سبحانه وتعالى ذكر المعاد في ثلاثة أحوال: حال الجاحد الذي انتهت غايته إلى بهت، ثم حال المستبعد الذي انتهت غايته إلى علم وإيمان، وأنهى الخطاب إلى حال المؤمن الذي انتهى حاله إلى يقين وطمأنينة ورؤية ملكوت في ملكوت الأرض... فقال سبحانه وتعالى: واذ {قال إبراهيم} ولقد استولى الترتيب والتعبير في هذه الآيات الثلاث على الأمد الأقصى من الحسن، فإنها بدئت بمن أراد أن يخفي ما أوضحته البراهين من أمر الإله في الإحياء بأن ادعى لنفسه المشاركة بإحياء مجازي تلبيساً بلفظ إلى الدال على بعده ولعنه وطرده، ثم بمن استبعد إحياء القرية فأراه الله سبحانه وتعالى كيفية الإحياء الحقيقي آية له وتتميماً للرد على ذلك مع الإقبال عليه بالمخاطبة ولذة الملاطفة ثم بمن سأل إكرام الله تعالى له بأن يريه كيف يحيي فيثبت ثم أثبتت ثم أكدت، ومناسبة الثلاث بكونها في إحياء الأشباح بالأرواح لما قبلها وهو في إحياء الأرواح بأسرار الصلاح أجل مناسبة، فالمراد التحذير عن حال الأول والندب إلى الارتقاء عن درجة الثاني إلى مقام الثالث الذي حقيقته الصدق في الإيمان لرجاء الحيازة مما أكرم به، ولذلك عبر في قصته بقوله واذ ولم يسقها مساق التعجيب كالأول {رب} أي أيها المحسن إليّ {أرني كيف تحيي الموتى} قال الحرالي: طلب ما هو أهله بما قال تعالى (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض}
[الأنعام: 75] فمن ملكوت الأرض الإحياء، فقرره سبحانه وتعالى على تحقيق ابتداء حاله من تقرر الإيمان فقال مستأنفاً: {قال}
ولما كان التقدير: ألم تعلم أني قادر على الإحياء لأني قادر على كل شيء عطف عليه قوله: {أو لم تؤمن} فإن الإيمان يجمع ذلك كله {قال بلى} فتحقق أن طلبه كيفية الإحياء ليس عن بقية تثبت في الإيمان، فكان في إشعاره أن أكثر طالبي الكيف في الأمور إنما يطلبونه عن وهن في إيمانهم، ومن طلب لتثبت الإيمان مع أن فيما دون الكيف من الآيات كفايته لم ينتفع بالآية في إيمانه، لأن كفايتها فيما دونه ولم يعل لليقين لنقص إيمانه عن تمام حده، فإذا تم الإيمان بحكم آياته التي في موجود حكمة الله في الدنيا بيناته ترتب عليه برؤية ملكوت شهود الدنيا رتبة اليقين، كما وجد تجربته أهل الكشف من الصادقين في أمر الله حيث أورث لهم اليقين، ومتى شاركهم في أمر من رؤية الكشف أو الكرامات ضعيف الإيمان طلب فيه تأويلاً، وربما كان عليه فتنة تنقصه مما كان عنده من حظ من إيمانه حتى ربما داخله نفاق لا ينفك منه إلا أن يستنقذه الله، فلذلك أبدى تعالى خطاب تقريره لخليله صلى الله عليه وسلم على تحقيق الإيمان ليصح الترقي منه إلى رتبة الإيقان، وهو مثل نحو ما تقدم في مطلق قوله سبحانه وتعالى {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة: 257]...
ولما كان خلق آدم وسائر المخلوقات من مداد الأركان التي هي الماء والتراب والهواء والنار فأظهر منها الصور {وصوركم فأحسن صوركم} [غافر: 64] ثم أظهر سبحانه وتعالى قهره بإماتته وإفناء صوره، "كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذَّنَبِ، منه خلق وفيه يركب "فكان بددها في أربعة أقطار شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، أرى خليله عليه الصلاة والسلام كيف يدعو خلقه من أقطار آفاقه الأربعة بعد بددها واختلاطها والتئام أجزائها على غير حدها، يقال إن علياً رضي الله تعالى عنه ضرب بيده على قدح من فخار فقال: كم فيه من خد أسيل وعين كحيل! {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم}
[ق: 4] فأرى تعالى خليله عليه الصلاة والسلام مثلاً من جملة ذلك {قال فخذ} بالفاء تحقيقاً لمقاله وتصديقاً فيما تحقق من إيمانه وإبداء لاستحقاقه اليقين والطمأنينة بتقرر إيمانه {أربعة من الطير} هو اسم جمع من معنى ما منه الطيران وهو الخفة من ثقل ما ليس من شأنه أن يعلو في الهواء، جعل تعالى المثل من الطير لأن الأركان المجتمعة في الأبدان طوائر تطير إلى أوكارها ومراكزها التي حددها الله تعالى لها جعلاً فيها لا طبعاً واجباً منها، فإن الله عزّ وجلّ هو الحكيم الذي جعل الحكمة، فمن أشهده الحكمة و أشهده أنه جاعلها فهو حكيمها، ومن أشهده الحكمة الدنياوية ولم يشهده أنه جاعلها فهو جاهلها، فالحكمة شهود الحكمة مجعولة من الله كل ماهية ممهاة، وكل معنوية ممعناة... وكل حقيقة محققة، فالطبع وما فيه جعل من الله، من جهله ألحد ومن تحققه وحد...
ولما أراه سبحانه وتعالى ملكوت الأرض صارت تلك الرؤية علماً على عزة الله من وراء الملكوت في محل الجبروت فقال: {واعلم أن الله} أي المحيط علماً وقدرة {عزيز} ولما كان للعزة صولة لا تقوى لها فطر المخترعين نزل تعالى الخطاب إلى محل حكمته فقال: {حكيم} فكان فيه إشعار بأنه سبحانه وتعالى جعل الأشياء بعضها من بعض كائنة وبعضها إلى بعض عامدة وبعضها من ذلك البعض معادة {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} [طه: 55] وهذه الحكمة التي أشار إليها اسمه الحكيم حكمة ملكوتية جامعة لوصلة ما بين حكمة الدنيا وحكمة الآخرة، لأن الحكيم بالحقيقة ليس من علمه الله حكمة الدنيا وألبس عليه جعله لها بل ذلك جاهلها كما تقدم، إنما الحكيم الذي أشهده الله حكمة الدنيا أرضاً وأفلاكاً ونجوماً وآفاقاً وموالد وتوالداً، وأشهده أنه حكيمها، ومزج له علم حكمة موجود الدنيا بعلم حكمة موجود الآخرة، وأراه كيفية توالج الحكمتين بعضها في بعض ومآل بعضها إلى بعض حتى يشهد دوران الأشياء في حكمة أمر الآخرة التي هي غيب الدنيا إلى مشهود حكمة الدنيا ثم إلى مشهود حكمة الآخرة كذلك عوداً على بدء وبدءاً على عود في ظهور غيب الإبداء إلى مشهوده وفي عود مشهوده إلى غيبه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا مثال ثالث لولاية الله تعالى للمؤمنين وإخراجه إياهم من الظلمات إلى النور وهو كالذي قبله من آيات البعث. وأما المثال الأول وهو محاجة من آتاه الله الملك لإبراهيم فهو من الآيات على وجود الله. والحكمة في ذكر مثال واحد في إثبات الربوبية ومثالين في إثبات البعث أن منكري البعث أكثر من منكري الربوبية... {رب أرني كيف تحيي الموتى} بدأ السؤال بكلمة رب التي تفيد عنايته تعالى بعبيده وتربيته لعقولهم وأرواحهم بالمعارف لتكون ثناء واستعطافا أمام الدعاء أي أرني بعيني كيفية إحيائك للموتى. وقد ذكروا أسبابا لهذا السؤال لا يقبل مثلها إلا بالنقل الصحيح ولا يحتاج إلى شيء منه في فهم الكلام: {قال} تعالى وهو أعلم بما سأل عنه من المسؤول: {أولم تؤمن} حذف ما دخلت عليه الهمز لدلالة العطف عليه وقدروا له ألم تعلم ولم تؤمن. وعندي، أن الأقرب أن يقدر: ألم تعلم ولم تؤمن، بذلك: {قال بلى} أي قد أوحيت إلي فآمنت وصدقت بالخبر: {ولكن} تاقت نفسي للخبر، والوقوف على كيفية هذا السر: {ليطمئن قلبي} بالعيان بعد خبر الوحي والبرهان... قال الأستاذ الإمام ما معناه: في قوله تعالى لإبراهيم "أولم تؤمن "وهو أعلم بإيمانه ويقينه إرشاد إلى ما ينبغي للإنسان أن يقف عنده ويكتفي به في هذا المقام فلا يتعداه إلى ما ليس من شأنه كأنه يقول إن الإيمان بهذا السر الإلهي والتسليم فيه لخبر الوحي ودلائله وأمثاله هو منتهى ما يطلب من البشر فلو كان وراء الإيمان والتسليم مطلع لناظر لبينه الله لك وفي هذا الإرشاد لخليل الرحمان تأديب للمؤمنين كافة ومنع لهم عن التفكر في كيفية التكوين وإشغال نفوسهم بما استأثر الله تعالى به فلا يليق بهم البحث عنه...
{قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك}... وقد تكلموا في حكمة اختيار الطير على غيره من الحيوانات، فقال الرازي ما لا يصح أن يقال. وقال غيره: الحكمة في ذلك أن الطير أقرب إلى الإنسان وأجمع لخواص الحيوان ولسهولة تأتي ما يفعل به من التقطيع والتجزئة. وذكر الأستاذ الإمام في الدرس وجها آخر، وهو أن الطير أكثر نفورا من الإنسان في الغالب فإتيانها بمجرد الدعوة أبلغ في المثل... ثم تكلموا في أنواعها ولا حاجة إليه...
ملخص معنى الآية عند الجمهور: أن إبراهيم صلى الله عليه وعلى آله وسلم طلب من ربه أن يطلعه على كيفية إحياء الموتى فأمره تعالى بأن يأخذ أربعة من الطير فيقطعهن أجزاء يفرقها على عدة جبال هناك، ثم يدعوها إليه فتجيئه، وقالوا إنه فعل ذلك. وخالفهم أبو مسلم المفسر الشهير فقال ليس في الكلام ما يدل على أنه فعل ذلك وما كل أمر يقصد به الامتثال. فإن من الخبر ما يأتي بصيغة الأمر لاسيما إذا أريد زيادة البيان كما إذا سألك سائل كيف يصنع الحبر مثلا؟ فتقول خذ كذا وكذا وافعل به كذا وكذا يكن حبرا. تريد هذه الكيفية ولا تعني تكليفه صنع الخبر بالفعل. قال: وفي القرآن كثير من الأمر الذي يراد به الخبر والكلام ههنا مثل لإحياء الموتى. ومعناه خذ أربعة من الطير فضمها إليك وآنسها بك حتى تأنس وتصير بحيث تجيب دعوتك فإن الطيور من أشد الحيوان استعدادا لذلك ثم اجعل كل واحد منها على جبل ثم ادعها فإنها تسرع إليك لا يمنعها تفرق أمكنتها وبعده من ذلك. كذلك أمر ربك إذا أراد إحياء الموتى يدعوهم بكلمة التكوين "كونوا أحياء" فيكونوا أحياء كما كان شأنه في بدء الخلق، إذ قال للسماوات والأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين. هذا ما تجلى به تفسير أبي مسلم وقد أورده الرازي مختصرا...
ويدل عليه أيضا ختم الآية باسم العزيز الحكيم دون اسم القدير. والعزيز هو الغالب الذي لا ينال. وما صرف جمهور المتقدمين عن هذا المعنى على وضوحه إلى الرواية بأنه جاء بأربعة طيور من جنس كذا وكذا وقطعها وفرقها على جبال الدنيا ثم دعاها فطار كل جزء إلى مناسبه حتى كانت طيورا تسرع إليه، فأرادوا تطبيق الكلام على هذا ولو بالتكلف.
وأما المتأخرون فَهَمُّهُمْ أن يكون في الكلام خصائص للأنبياء من الخوارق الكونية وإن كان المقام مقام العلم والبيان والإخراج من الظلمات إلى النور وهو أكبر الآيات. ولكل أهل زمن غرام في شيء من الأشياء يتحكم في عقولهم وأفهامهم. والواجب على من يريد فهم كتاب الله تعالى أن يتجرد من التأثر بكل ما هو خارج عنه فإنه الحاكم على كل شيء، ولا يحكم عليه شيء. ولله در أبي مسلم ما أدق فهمه وأشد استقلاله فيه...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وصفوة القول- إن أساس المعجزة وعظمتها ليس في نتائجها وغرابتها، فالدهشة من سماع الأبكم يتكلم ربما كانت أقل من سماع الراديو لأول وهلة، ولكن أهمية المعجزة في طريق صنعها دون السنن الاعتيادية، وهي لذلك لا تتكرر أبدا إلا بإذن الله، لأن الإنسان لا يعرف قاعدتها، ولا يدرك طريق صنعها، أما الاختراع فإنه اكتشاف لناموس إلهي طبيعي، ولذلك هو يتكرر في الظروف نفسها على يد كل إنسان – هذا كلامه باختصار...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تجيء التجربة الثالثة. تجربة إبراهيم أقرب الأنبياء إلى أصحاب هذا القرآن: {وإذ قال إبراهيم: رب أرني كيف تحيي الموتى. قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي. قال: فخذ أربعة من الطير، فصرهن إليك، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا، ثم ادعهن يأتينك سعيا، واعلم أن الله عزيز حكيم}.. إنه التشوف إلى ملابسة سر الصنعة الإلهية. وحين يجيء هذا التشوف من إبراهيم الأواه الحليم، المؤمن الراضي الخاشع العابد القريب الخليل.. حين يجيء هذا التشوف من إبراهيم فإنه يكشف عما يختلج أحيانا من الشوق والتطلع لرؤية أسرار الصنعة الإلهية في قلوب أقرب المقربين! إنه تشوف لا يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله واستقراره؛ وليس طلبا للبرهان أو تقوية للإيمان.. إنما هو أمر آخر، له مذاق آخر.. إنه أمر الشوق الروحي، إلى ملابسة السر الإلهي، في أثناء وقوعه العملي. ومذاق هذه التجربة في الكيان البشري مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب ولو كان هو إيمان إبراهيم الخليل، الذي يقول لربه، ويقول له ربه. وليس وراء هذا إيمان، ولا برهان للإيمان. ولكنه أراد أن يرى يد القدرة وهي تعمل؛ ليحصل على مذاق هذه الملابسة فيستروح بها، ويتنفس في جوها، ويعيش معها.. وهي أمر آخر غير الإيمان الذي ليس بعده إيمان...
وقد كشفت التجربة والحوار الذي حكي فيها عن تعدد المذاقات الإيمانية في القلب الذي يتشوف إلى هذه المذاقات ويتطلع: {وإذ قال إبراهيم: رب أرني كيف تحيي الموتى. قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي}.. لقد كان ينشد اطمئنان الأنس إلى رؤية يد الله تعمل؛ واطمئنان التذوق للسر المحجب وهو يجلى ويتكشف. ولقد كان الله يعلم إيمان عبده وخليله. ولكنه سؤال الكشف والبيان، والتعريف بهذا الشوق وإعلانه، والتلطف من السيد الكريم الودود الرحيم، مع عبده الأواه الحليم المنيب! ولقد استجاب الله لهذ الشوق والتطلع في قلب إبراهيم، ومنحه التجربة الذاتية المباشرة:... {قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك؛ ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا؛ ثم ادعهن يأتينك سعيا. واعلم أن الله عزيز حكيم}... ورأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه. وهو السر الذي يقع في كل لحظة. ولا يرى الناس إلا آثاره بعد تمامه. إنه سر هبة الحياة. الحياة التي جاءت أول مرة بعد أن لم تكن؛ والتي تنشأ مرات لا حصر لها في كل حي جديد... رأى إبراهيم هذا السر يقع بين يديه.. طيور فارقتها الحياة، وتفرقت مزقها في أماكن متباعدة. تدب فيها الحياة مرة أخرى، وتعود إليه سعيا!... كيف؟ هذا هو السر الذي يعلو على التكوين البشري إدراكه. إنه قد يراه كما رآه إبراهيم. وقد يصدق به كما يصدق به كل مؤمن. ولكنه لا يدرك طبيعته ولا يعرف طريقته. إنه من أمر الله. والناس لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. وهو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه، لأنه أكبر منهم، وطبيعته غير طبيعتهم. ولا حاجة لهم به في خلافتهم. إنه الشأن الخاص للخالق. الذي لا تتطاول إليه اعناق المخلوقين. فإذا تطاولت لم تجد إلا الستر المسدل على السر المحجوب. وضاعت الجهود سدى، جهود من لا يترك الغيب المحجوب لعلام الغيوب!...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
و قد ذيل سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته: {واعلم أن الله عزيز حكيم} وكان ذلك التذييل الكريم للدلالة على ثلاثة أمور:
أولها: إن العزة لله وحده فلا يركن إليه مؤمن إلا عز، ولا يبعد عنه أحد إلا ذل، فمن اعتز بغير الله فهو الذليل، ومن آوى إلى فضل الله فقد آوى إلى ركن شديد. وأن مناسبة هذا للآيات السابقة كلها واضحة؛ لأن إبراهيم كان يغالب طاغية جبار عاتيا قد استهان بالناس جميعا كما دلت عليه الآية الأولى:
{ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت} فالله العلي القدير يدعو خليله أن يتقدم لدعوة ذلك الجبار معتزا بالله فلا عزة إلا من الله، والله غالب على النمرود ومن هو أكبر من النمرود.
و ثانيها: الإشعار بأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء وعزته هي عزة القادر الغالب، لا عزة الضعيف العاجز.
و ثالثها: إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق بحكمته وبعث الرسل يدعون إلى عبادته وحده، وهو الذي قدر الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وكل ذلك من مقتضى الحكمة الإلهية التي لا تصل العقول إلى العلم بها؛ لأنها لا تعلم من الكون إلا مظاهره وأشكاله وألوانه، ولا تعلم شيئا عن كيفيته وأسراره. إن ذلك كله عند علام الغيوب، وفوق كل ذي علم عليم...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وفي صدد القصة ذاتها نقول هنا كما قلنا قبل: إن من واجب المسلم أن يقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيراده بالأسلوب الذي وردت به وأن يؤمن بأن في ذلك حكمة قد تكون أو قد يكون منها التذكير بموقف آخر من مواقف المؤمنين بالله وقدرته السامعين يعرفونه لأحد عظام أنبياء الله الذين كان ملء سمعهم، وكانوا ينتسبون إليه ليكون فيه العظة والعبرة لهم ثم لسامعي القرآن وقارئيه عامة، والله تعالى أعلم. ونرجح أن القصص الثلاث نزلت متتابعة ووضعت في ترتيبها بسبب ذلك، بل لا نستبعد أن تكون نزلت دفعة واحدة لتكون بمثابة تعقيب على الآيتين [256 و257] وبينهما لبيان مواقف متنوعة لكافر ومؤمنين، والله تعالى أعلم...
إن الحق يعطي القدرة لإبراهيم أن يدعو الطير فيأتي الطير سعيا. وهذا هو الفرق بين القدرة الواجبة، وبين القدرة الممكنة. إن قدرة الممكن لا يعديها أحد لخال منها، ولكن قدرة واجب الوجود تُعديها إلى من لا يقدر فيقدر، ولذلك يأتي القول الحكيم بخصائص عيسى ابن مريم عليه السلام:... {ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين 49} (سورة آل عمران). إن خصائص عيسى ابن مريم لا تكون إلا بإذن من الله، فقدرة عيسى عليه السلام أن يصنع من الطين ما هو على هيئة الطير، وإذا نفخ فيه بإذن الله لأصبح طيرا، وكذلك إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، إن ذلك كله بإذن ممن؟ بإذن من الله. وكذلك كان الأمر في تجربة سيدنا إبراهيم، لذلك قال له الحق: {واعلم أن الله عزيز حكيم}. إن الله عزيز أي لا يغلبه أحد. وهو حكيم أي يضع كل شيء في موقعه. وكذلك يبسط الحق قصة الحياة وقصة الموت في تجربة مادية؛ ليطمئن قلب سيدنا إبراهيم، وقد جاءت قصة الحياة والموت؛ لأن الشك عند الذين عاصروا الدعوة المحمدية كان في مسألة البعث من الموت، وكل كلامهم يؤدي إلى ذلك، فهم تعجّبوا من حدوث هذا الأمر: {قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون 82} (سورة المؤمنون)...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إبراهيم (ع) باحث عن الحقيقة وهذه قصة من قصص الحوار القرآني في حياة إبراهيم (ع)، الذي أبرز لنا القرآن في شخصيته الإنسانية النبويّة، شخصية الباحث عن الحقيقة بأسلوب الحوار، سواءٌ منه الذي كان يثيره مع نفسه، في تصوير العقيدة الصحيحة حول ذات الخالق، أو الذي كان يثيره مع الناس في تحطيم عقيدة الأصنام في نفوسهم، أو الذي كان يثيره مع ربّه في مناجاته له... وقد تمثل هذا اللون الأخير في هذه الآية، فقد سأل إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، [و] كان يريد أن يشاهد عملية الإحياء على الطبيعة، وكان الجواب سؤالاً تقريريّاً: أولم تؤمن؟ فإن مثل هذا السؤال قد يصدر، في صورته هذه، من غير المؤمن، فكيف يصدر من إبراهيم الذي جاء من أجل أن يقود الناس إلى الإيمان؟! وكان جواب إبراهيم (ع) بتأكيد إيمانه، فلم يكن السؤال منطلقاً من ذلك، بل من أجل الحصول على حالة الاطمئنان القلبي الذي يتحرك من مواقع الحس في الحياة، بما لا يحصل من خلال القناعة الفكرية التي تعتمد على المعادلات العقلية التي تصنع للإنسان إيمانه، ولكنها لا تمنع الهواجس الذاتية من أن تتحرك في النَّفس في نطاق الأوهام الطارئة... ماذا نستوحي من الآية؟ أما ما نستوحيه من هذه الآية، فهو ما ألمحنا إليه في كتابنا «الحوار في القرآن»: «وقد نجد في حوار إبراهيم مع ربّه تجربة رساليةً رائعةً في أسلوب العمل، فقد طلب من ربّه أن يريه المعجزة التي يطمئن بها قلبه، في مشاهدته عملية إحياء الموتى على الطبيعة، فقد نستوحي منها أسلوباً عملياً جديداً في مواجهة ردود فعل الآخرين على ما نقدمه إليهم من أفكار، وذلك بأن نضع في حسابنا الحقيقة التالية وهي: أن الأفكار التي نقدمها للآخرين في إثبات قضايا العقيدة، قد تقنعهم فكرياً، ولكنها لا توصلهم إلى مرحلة الإيمان الروحي العميق الذي يلتقي فيه العقل والقلب، في عملية يمتزج فيها الفكر بالشعور، فيتحول إلى طمأنينة روحية يشعر فيها الإنسان بالسكون والاطمئنان الذي يغمر فكره وروحه، في سلام روحي عظيم. ولهذا، فإن علينا أن لا نستنكر عليهم هذا الطلب، تماماً كما لم نجد هناك أي إنكار من الله على نبيّه عندما قدم هذا العرض له من أجل الحصول على الطمأنينة القلبيّة بعد حصول الإيمان الفكري. ومن البديهي، أننا لا نستطيع تقديم المعجزة للآخرين، كما قدمها لنبيّه، ولكننا نستطيع تقديم الأفكار الواضحة القريبة من حياتهم، حتى يحسوا أن قضية الإيمان تتحرك معهم في كلّ ما يعملونه أو يمارسونه من علاقات»...