33- إنما عقاب الذين يحاربون الله ورسوله ، بخروجهم على نظام الحكم وأحكام الشرع ، ويفسدون في الأرض بقطع الطريق أو انتهاب الأموال : أن يُقْتَلوا بمن قتلوا ، وأن يُصلبوا إذا قتلوا وغصبوا المال ، وأن تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا قطعوا الطريق وغصبوا المال ولم يقتلوا ، وأن يُنفوا من بلد إلى بلد ، وأن يُحبسوا إذا أخافوا فقط . ذلك العقاب ذل لهم وإهانة في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم وهو عذاب النار{[54]} .
وهل من إسراف أشد من تجاوز حدود الله ؛ والتعدي على شريعته ، بالتغيير أو بالإهمال ؟
وفي الآية السابقة قرن الله قتل النفس بالفساد في الأرض ؛ وجعل كلا منهما مبررا للقتل ، واستثناء من صيانة حق الحياة ؛ وتفظيع جريمة إزهاق الروح . . ذلك أن أمن الجماعة المسلمة في دار الإسلام ، وصيانة النظام العام الذي تستمتع في ظله بالأمان ، وتزاول نشاطها الخير في طمأنينة . . ذلك كله ضروري كأمن الأفراد . . بل أشد ضرورة ؛ لأن أمن الأفراد لا يتحقق إلا به ؛ فضلا على صيانة هذا النموذج الفاضل من المجتمعات ، وإحاطته بكل ضمانات الاستقرار ؛ كيما يزاول الأفراد فيه نشاطهم الخير ، وكيما تترقى الحياة الإنسانية في ظله وتثمر ، وكيما تتفتح في جوه براعم الخير والفضيلة والإنتاج والنماء . . وبخاصة أن هذا المجتمع يوفر للناس جميعا ضمانات الحياة كلها ، وينتشر من حولهم جوا تنمو فيه بذور الخير وتذوي بذور الشر ، ويعمل على الوقاية قبل أن يعمل على العلاج ، ثم يعالج ما لم تتناوله وسائل الوقاية . ولا يدع دافعا ولا عذرا للنفس السوية أن تميل إلى الشر وإلى الاعتداء . . فالذي يهدد أمنه - بعد ذلك كله - هو عنصر خبيث يجب استئصاله ؛ ما لم يثب إلى الرشد والصواب . .
فالآن يقرر عقوبة هذا العنصر الخبيث ، وهو المعروف في الشريعة الإسلامية بحد الحرابة :
( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون في الأرض فسادا ، أن يقتلوا أو يصلبوا ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، أو ينفوا من الأرض . . . ذلك لهم خزي في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم . إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) . .
وحدود هذه الجريمة التي ورد فيها هذا النص ، هي الخروج على الإمام المسلم الذي يحكم بشريعة الله ، والتجمع في شكل عصابة ، خارجة على سلطان هذا الإمام ، تروع أهل دار الإسلام ؛ وتعتدي على أرواحهم وأموالهم وحرماتهم . ويشترط بعض الفقهاء أن يكون ذلك خارج المصر بعيدا عن مدى سلطان الإمام . ويرى بعضهم أن مجرد تجمع مثل هذه العصابة ، وأخذها في الاعتداء على أهل دار الإسلام بالقوة ، يجعل النص منطبقاعليها . سواء خارج المصر أو داخلة . وهذا هو الأقرب للواقع العملي ومجابهته بما يستحقه .
وهؤلاء الخارجون على حاكم يحكم بشريعة الله ؛ المعتدون على أهل دار الإسلام المقيمين للشريعة [ سواء كانوا مسلمين أو ذميين أو مستأمنين بعهد ] لا يحاربون الحاكم وحده ، ولا يحاربون الناس وحدهم . إنما هم يحاربون الله ورسوله . حينما يحاربون شريعته ، ويعتدون على الأمة القائمة على هذه الشريعة ، ويهددون دار الإسلام المحكومة بهذه الشريعة . كما أنهم بحربهم لله ورسوله ، وحربهم لشريعته وللأمة القائمة عليها وللدار التي تطبقها ، يسعون في الأرض فسادا . . فليس هناك فساد أشنع من محاولة تعطيل شريعة الله ، وترويع الدار التي تقام فيها هذه الشريعة . .
إنهم يحاربون الله ورسوله . . وإن كانوا إنما يحاربون الجماعة المسلمة والإمام المسلم . فهم قطعا لا يحاربون الله - سبحانه - بالسيف ، وقد لا يحاربون شخص رسول الله - بعد اختياره الرفيق الأعلى - ولكن الحرب لله ورسوله متحققة ، بالحرب لشريعة الله ورسوله ، وللجماعة التي ارتضت شريعة الله ورسوله ، وللدار التي تنفذ فيها شريعة الله ورسوله .
كما أن للنص - في صورته هذه - مفهوما آخر متعينا كهذا المفهوم - هو أن السلطان الذي يحق له - بأمر الله - أن يأخذ الخارجين عليه بهذه العقوبات المقررة لهذه الجريمة ، هو السلطان الذي يقوم على شريعة الله ورسوله ، في دار الإسلام المحكومة بشريعة الله ورسوله . . وليس أي سلطان آخر لا تتوافر له هذه الصفة ، في أية دار أخرى لا يتوافر لها هذا الوصف . .
نقرر هذا بوضوح ، لأن بعض أذناب السلطة في كل زمان ، كانوا يفتون لحكام لا يستمدون سلطانهم من شريعة الله ولا يقومون على تنفيذ هذه الشريعة ، ولا يحققون وجود دار إسلام في بلادهم ، ولو زعموا أنهم مسلمون . . كانوا يفتون لهم بأن يأخذوا الخارجين عليهم بهذه العقوبات - باسم شريعة الله - بينما كان هؤلاء الخارجون لا يحاربون الله ورسوله ؛ بل يحاربون سلطة خارجة على الله ورسوله . .
إنه ليس لسلطة لا تقوم على شريعة الله في دار الإسلام ، أن تأخذ الخارجين عليها باسم شريعة الله . . وما لمثل هذه السلطة وشريعة الله ؟ إنها تغتصب حق الألوهية وتدعيه ؛ فما لها تتحكك بقانون الله وتدعيه ؟ !
. . إنما جزاء أفراد هذه العصابات المسلحة ، التي تخرج على سلطان الإمام المسلم المقيم لشريعة الله ؛ وتروع عباد الله في دار الإسلام ، وتعتدي على أموالهم وأرواحهم وحرماتهم . . أن يقتلوا تقتيلا عاديا . أو أن يصلبوا حتى يموتوا [ وبعض الفقهاء يفسر النص بأنه الصلب بعد القتل للترويع والإرهاب ] أو أن تقطع أيديهم اليمنى مع أرجلهم اليسرى . . من خلاف . .
ويختلف الفقهاء اختلافا واسعا حول هذا النص : إن كان للإمام الخيار في هذه العقوبات ، أم أن هناك عقوبة معينة لكل جريمة تقع من الخارجين .
ويرى الفقهاء في مذهب أبى حنيفة والشافعي وأحمد أن العقوبات مرتبة على حسب الجناية التي وقعت . فمن قتل ولم يأخذ مالا قتل ، ومن أخذ المال ولم يقتل قطع ، ومن قتل وأخذ المال قتل وصلب ، ومن أخاف السبيل ولكنه لم يقتل ولم يأخذ مالا نفي :
وعند مالك أن المحارب إذا قتل فلا بد من قتله وليس للإمام تخيير في قطعه ولا في نفيه ، وإنما التخيير في قتله أو صلبه ، وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه ، وإنما التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف . وأما إذا أخاف السبيل فقط ، فالإمام مخير في قتله أو صلبه أو قطعة أو نفيه . . ومعنى التخيير عندمالك أن الأمر راجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام . فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه ، لأن القطع لا يدفع ضرره . وإن كان لا رأي له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعة من خلاف . وإن كان ليس له شيء من هاتين الصفتين أخذ بأيسر ذلك وهو النفي والتعزير .
ونحن نختار رأي الإمام مالك في الفقرة الأخيرة منه ، وهي أن العقوبة قد توقع على مجرد الخروج وإخافة السبيل . لأن هذا إجراء وقائي المقصود منه أولا منع وقوع الجريمة ، والتغليظ على المفسدين في الأرض الذين يروعون دار الإسلام ؛ ويفزعون الجماعة المسلمة القائمة على شريعة الله في هذه الدار . وهي أجدر جماعة وأجدر دار بالأمن والطمأنينة والسلام .
كذلك يختلفون في معنى النفي من الأرض . . هل هو النفي من الأرض التي ارتكب فيها جريمته ؟ أم هو النفي من الأرض التي يملك فيها حريته وذلك بحبسه . أم هو النفي من الأرض كلها ولا يكون ذلك إلا بالموت ؟
ونحن نختار النفي من أرض الجريمة ، إلى مكان ناء يحس فيه بالغربة والتشريد والضعف ؛ جزاء ما شرد الناس وخوفهم وطغى بقوته فيهم . حيث يصبح في منفاه عاجزا عن مزاولة جريمته بضعف عصبيته ، أو بعزله عن عصابته !
( ذلك لهم خزي في الدنيا . . ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) . .
فالجزاء الذي يلقونه إذن في الدنيا لا يسقط عنهم العذاب في الآخرة ، ولا يطهرهم من دنس الجريمة كبعض الحدود الأخرى . وهذا كذلك تغليظ للعقوبة ، وتبشيع للجريمة . . ذلك أن الجماعة المسلمة في دار الإسلام يجب أن تعيش آمنة . وذلك أن السلطة المسلمة القائمة على شريعة الله يجب أن تكون مطاعة . فهذا هو الوسط الخير الرفيع الذي يجب توفير الضمانات كلها لازدهاره . . وهذا هو النظام العادل الكامل الذي يجب أن يصان من المساس به . .
اقتضى المعنى في هذه الآية كون { إنما } حاصرة الحصر التام ، واختلف الناس في سبب هذه الآية ، فروي عن ابن عباس والضحاك أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض .
قال القاضي أبو محمد : ويشبه أن تكون نازلة بني قريظة حين هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال عكرمة ، والحسن : نزلت الآية في المشركين .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا ضعف ، لأن توبة المشرك نافعة بعد القدرة عليه وعلى كل حال ، وقال أنس بن مالك وجرير بن عبد الله وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير وعبد الله بن عمر وغيرهم : إن الآية نزلت في قوم من عكل وعرينة{[4522]} قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا ثم إنهم مرضوا واستوخموا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا في لقاح الصدقة ، وقال اشربوا من ألبانها وأبوالها . فخرجوا فيها فلما صحوا قتلوا الرعاء واستاقوا الإبل فجاء الصريخ فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر فنودي في الناس يا خيل الله اركبي ، فركب رسول الله على أثرهم فُأخذوا ، وقال جرير بن عبد الله فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى إذا أدركناهم ، وقد أشرفوا على بلادهم فجئنا بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، قال جميع الرواة فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمر أعينهم{[4523]} ، ويروى وسمل ، وتركهم في جانب الحرة يستسقون فلا يسقون ، وفي حديث جرير ، فكانوا يقولون الماء ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : النار{[4524]} ، وفي بعض الروايات عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقهم بالنار بعدما قتلهم ، قال أبو قلابة ، هؤلاء كفروا وقتلوا وأخذوا الأموال وحاربوا الله ورسوله ، وحكى الطبري عن بعض أهل العلم أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ووقفت الأمر على هذه الحدود ، وقال بعضهم : وجعلها الله عتاباً لنبيه صلى الله عليه وسلم على سمل الأعين ، وحكى عن جماعة من أهل العلم أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل لأن ذلك وقع في المرتدين .
قال القاضي أبو محمد : لا سيما وفي بعض الطرق أنهم سملوا أعين الرعاة{[4525]} قالوا ، وهذا الآية هي في المحارب المؤمن ، وحكى الطبري عن السدي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمل أعين العرنيين وإنما أراد ذلك فنزلت الآية ناهية عن ذلك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف تخالفه الروايات المتظاهرة ، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام ، واختلفوا فيمن هو الذي يستحق اسم الحرابة ، فقال مالك بن أنس رحمه الله ، المحارب عندنا من حمل على الناس السلاح في مصر أو برية فكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا دَخل ولا عداوة{[4526]} ، وقال بهذا القول جماعة من أهل العلم ، وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل العلم ، لا يكون المحارب إلا القاطع على الناس في خارج الأمصار ، فأما في المصر فلا .
قال القاضي أبو محمد : يريدون أن القاطع في المصر يلزمه حد ما اجترح من قتل أو سرقة أو غصب ونحو ذلك ، والحرابة ُرتب أدناها إخافة الطريق فقط لكنها توجب صفة الحرابة ، ثم بعد ذلك أن يأخذ المال مع الإخافة ثم بعد ذلك أن يقتل مع الإخافة ثم بعد ذلك أن يجمع ذلك كله ، فقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء : في أي رتبة كان المحارب من هذه الرتب فالإمام مخير فيه في أن يعاقبه بما رأى من هذه العقوبات ، واستحسن أن يأخذ في الذي لم يقتل بأيسر العقوبات .
قال القاضي أبو محمد : لا سيما إن كانت زلة ولم يكن صاحب شرور معروفة ، وأما إن قتل فلا بد من قتله ، وقال ابن عباس رضي الله عنه والحسن وأبو مجلز وقتادة وغيرهم من العلماء : بل لكل رتبة من الحرابة رتبة من العقاب ، فمن أخاف الطرق فقط فعقوبته النفي ، ومن أخذ المال ولم يقتل فعقوبته القطع من خلاف . ومن قتل دون أخذ مال فعقوبته القتل ، ومن جمع الكل قتل وصلب ، وحجة هذا القول أن الحرابة لا تخرج عن الإيمان ودم المؤمن حرام إلا بإحدى ثلاث : ارتداد أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس ، فالمحارب إذا لم يقتل فلا سبيل إلى قتله ، وقد روي عن ابن عباس والحسن أيضاً وسعيد بن المسيب وغيرهم مثل قول مالك : إن الإمام مخير ، ومن حجة هذا القول أن ما كان في القرآن «أو . أو » ، فإنه للتخيير ، كقوله تعالى : { ففدية من صيام أوصدقة أو نسك }{[4527]} وكآية كفارة اليمين وآية جزاء الصيد .
قال القاضي أبو محمد : ورجح الطبري القول الآخر وهو أحوط للمفتي ولدم المحارب ، وقول مالك أسُّد للذريعة وأحفظ للناس والطرق ، والمخيف في حكم القاتل ، ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العقوبات استحساناً ، وذكر الطبري عن أنس بن مالك أنه قال سأل رسول الله جبريل عليهما السلام عن الحكم في المحارب ، فقال : من أخاف السبيل وأخذ المال فاقطع يده للأخذ ، ورجله للإخافة ومن قتل فاقتله ، ومن جمع ذلك فاصلبه .
قال القاضي أبو محمد : وبقي النفي للمخيف فقط ، وقوله تعالى : { يحاربون الله } تغليظ جعل ارتكاب نهيه محاربة ، وقيل التقدير يحاربون عباد الله ، ففي الكلام حذف مضاف ، وقوله تعالى : { ويسعون في الأرض فساداً } تبيين للحرابة أي : ويسعون بحرابتهم ، ويحتمل أن يكون المعنى ويسعون فساداً منضافاً إلى الحرابة ، والرابط إلى هذه الحدود إنما هو الحرابة ، وقرأ الجمهور «يقتّلوا ، ُيصلّبوا ، ُتقطّع » بالتثقيل في هذه الأفعال للمبالغة والتكثير ، والتكثير هنا إنما هو من جهة عدد الذين يوقع بهم كالتذبيح في بني إسرائيل في قراءة من ثقل { يذبّحون }{[4528]} وقرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن «يقتلوا ، ويصلبوا ، تقطع » بالتخفييف في الأفعال الثلاثة ، وأما قتل المحارب فبالسيف ضربة العنق ، وأما صلبه فجمهور من العلماء على أنه يقتل ثم يصلب نكالاً لغيره ، وهذا قول الشافعي ، وجمهور من العلماء على أنه يصلب حياً ويقتل بالطعن على الخشبة ، وروي هذا عن مالك وهو الأظهر من الآية وهو الأنكى في النكال ، وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ والرجل الشمال من المفصل ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقطع اليد من الأصابع ويبقي الكف والرجل من نصف القدم ويبقى العقب واختلف العلماء في النفي فقال السدي : هو أن يطلب أبداً بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حدّ الله ويخرج من دار الإسلام ، وروي عن ابن عباس أنه قال : نفيه أن يطلب وقاله أنس بن مالك ، وروي ذلك عن الليث ومالك بن أنس غير أن مالكاً قال : لا يضطر مسلم إلى دخول دار الشرك ، وقال سعيد بن جبير : النفي من دار الإسلام إلى دار الشرك ، وقالت طائفة من العلماء منهم عمر بن عبد العزيز : النفي في المحاربين أن ينفوا من بلد إلى غيره مما هو قاص بعيد ، وقال الشافعي : ينفيه من عمله ، وقال أبو الزناد : كان النفي قديماً إلى َدهَلك وباِضع وهما من أقصى اليمن ، وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة : النفي في المحاربين السجن فذلك إخراجهم من الأرض .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن { الأرض } في هذه الآية هي أرض النازلة ، وقد جنب الناس قديماً الأرض التي أصابوا فيها الذنوب ومنه حديث الذي ناء بصدره نحو الأرض المقدسة{[4529]} ، وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب المنفي مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة وإفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه ، وإن كان غير مخوف الجانب ترك مسرحاً ، وهذا هو صريح مذهب مالك : أن يغرب ويسجن حيث يغرب ، وهذا هو الأغلب في أنه مخوف ، ورجحه الطبري وهو الراجح لأن نفيه من أرض النازلة أو الإسلام هو نص الآية وسجنه بعد بحسب الخوف منه ، فإذا تاب وفهم حاله سرح . وقوله تعالى : { ذلك لهم الخزي } إشارة إلى هذه الحدود التي توقع بهم ، وغلظ الله الوعيد في ذنب الحرابة بأن أخبر أن لهم في الآخرة عذاباً عظيماً مع العقوبة في الدنيا ، وهذا خارج عن المعاصي الذي في حديث عبادة بن الصامت في قول النبي صلى الله عليه وسلم ، «فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو له كفارة » .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب ، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا ، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره ، وهذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة{[4530]} ، أما إن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعد وعظم الذنب ، والخزي في هذه الآية : الفضيحة والذل والمقت .