ويضرب للمنافقين الذين أغروا إخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب بالمقاومة ، فانتهوا بهم إلى تلك النهاية البائسة . يضرب لهم مثلا بحال دائمة . حال الشيطان مع الإنسان ، الذي يستجيب لإغرائه فينتهي وإياه إلى شر مصير :
( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان : اكفر . فلما كفر قال : إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين . فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها ، وذلك جزاء الظالمين ) . .
وصورة الشيطان هنا ودوره مع من يستجيب له من بني الإنسان ، تتفقان مع طبيعته ومهمته . فأعجب العجب أن يستمع إليه الإنسان . وحاله هو هذا الحال !
وهي حقيقة دائمة ينتقل السياق القرآني إليها من تلك الواقعة العارضة . فيربط بين الحادث المفرد والحقيقة الكلية ، في مجال حي من الواقع ؛ ولا ينعزل بالحقائق المجردة في الذهن . فالحقائق المجردة الباردة لا تؤثر في المشاعر ، ولا تستجيش القلوب للاستجابة . وهذا فرق ما بين منهج القرآن في خطاب القلوب ، ومنهج الفلاسفة والدارسين والباحثين !
وبهذا المثل الموحي تنتهي قصة بني النضير . وقد ضمت في ثناياها وفي أعقابها هذا الحشد من الصور والحقائق والتوجيهات . واتصلت أحداثها المحلية الواقعة بالحقائق الكبرى المجردة الدائمة . وكانت رحلة في عالم الواقع وفي عالم الضمير ، تمتد إلى أبعد من حدود الحادث ذاته ، وتفترق روايتها في كتاب الله عن روايتها في كتب البشر بمقدار ما بين صنع الله وصنع البشر من فوارق لا تقاس ! !
وقوله تعالى : { كمثل الشيطان } معناه مثل هاتين الفرقتين من المنافقين وبني النضير { كمثل الشيطان } والإنسان ، فالمنافقون مثلهم الشيطان وبنو النضير مثلهم الإنسان ، وذهب مجاهد وجمهور من المتأولين إلى أن { الشيطان } و «الإنسان » في هذه الآية أسماء جنس لأن العرف أن يعمل هذا شياطين بناس كما يغوي الشيطان الإنسان ثم يفر منه بعد أن يورطه ، كذلك أغوى المنافقون بني النضير وحرضوهم على الثبوت ووعدوهم النصر ، فلما نشب بنو النضير وكشفوا عن وجوههم تركهم المنافقون في أسوأ حال ، وذهب قوم من رواة القصص أن هذا شيطان مخصوص مع عابد من العباد مخصوص ، وذكر الزجاج أن اسمه برصيص ، قالوا إنه استودع امرأة وقيل سيقت إليه ليشفيها بدعائه من الجنون فسول له الشيطان الوقوع عليها فحملت ، فخشي الفضيحة ، فسول له قتلها ودفنها ، ففعل ثم شهره ، فلما استخرجت المرأة وحمل العابد شر حمل وهو قد قال : إنها قد ماتت فقمت عليها ودفنتها ، فلما وجدت مقتولة علموا كذبه فتعرض له الشيطان فقال له : اكفر واسجد لي وأنجيك ، ففعل وتركه عند ذلك .
وقال :{ إني بريء منك } ، وهذا كله حديث ضعيف ، والتأويل الأول هو وجه الكلام وقول الشيطان : { إني أخاف الله } ، رياء من قوله وليست على ذلك عقيدته ، ولا يعرف الله حق معرفته ولا يحجزه خوفه عن سوء يوقع فيه ابن آدم من أول إلا آخر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ضرب مثلا، حين غروا اليهود فتبرؤوا منهم عند الشدة وأسلموهم، فقال:
{كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{كَمَثلِ الشّيْطانِ إذْ قالَ للإنْسانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قال إنّي بَرِيءٌ مِنْكَ إنّي أخافُ اللّهَ رَبّ العَالمِينَ}: مثل هؤلاء المنافقين الذين وعدوا اليهود من النضير النصرة، إن قوتلوا، أو الخروج معهم إن أُخرجوا، ومثل النضير في غرورهم إياهم بإخلافهم الوعد، وإسلامهم إياهم عند شدّة حاجتهم إليهم، وإلى نُصرتهم إياهم، كمثل الشيطان الذي غرّ إنْسانا، ووعده على اتباعه وكفره بالله، النصرة عند الحاجة إليه، فكفر بالله واتبعه وأطاعه، فلما احتاج إلى نُصرته، أسلمه وتبرأ منه، وقال له: إني أخاف الله ربّ العالمين في نُصرتك.
وقد اختلف أهل التأويل في الإنسان الذي قال الله جلّ ثناؤه" إذْ قالَ للإنْسانِ اكْفُرْ "هو إنسان بعينه، أم أريد به المثل لمن فعل الشيطان ذلك به؟
فقال بعضهم: عُنِي بذلك إنسان بعينه.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك الناس كلهم، وقالوا: إنما هذا مثل ضُرِب للنضير في غرور المنافقين إياهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {إني بريء منك} يجوز أن يكون في الآخرة حين يقول: {ما أنا 22 بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل} [إبراهيم:]. ويجوز أن يكون في الدنيا، وهو قوله: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون} الآية [الأنفال: 48].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كَمَثَلِ الشيطان} إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة، والمراد استغواؤه قريشاً يوم بدر؛ وقوله لهم: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ} إلى قوله {إِنِّي بريء مِّنكَم} [الأنفال: 48].
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فالمنافقون مثلهم الشيطان، وبنو النضير مثلهم الإنسان. وذهب مجاهد وجمهور من المتأولين إلى أن الشيطان والإنسان في هذه الآية أسماء جنس، لأن العرف أن يعمل هذا شياطين بناس، كما يغوي الشيطان الإنسان، ثم يفر منه بعد أن يورطه، كذلك أغوى المنافقون بني النضير، وحرضوهم على الثبوت، ووعدوهم النصر، فلما نشب بنو النضير وكشفوا عن وجوههم، تركهم المنافقون في أسوأ حال.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وليس قول الشيطان: {إني أخاف الله رب العالمين} حقيقة، إنما هو على وجه التبرؤ من الإنسان، فهو تأكيد لقوله تعالى: {إني بريء منك}.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ولم ينفعه ذلك كما قال.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{كمثل} أي مثل الكل: الواعدين بالنصر والمغترين بوعدهم، مع علمهم بأن الله كتب في الذكر: {لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21] في إخلافهم الوعد وإسلامهم إياهم عند ما حق الأمر، يشبه مثل {الشيطان} أي البعيد من كل خير لبعده من الله المحترق بعذابه، والشيطان هنا مثل المنافقين.
{إذا قال للإنسان} وهو هنا مثل اليهود: {اكفر} أي بالله، بما زين له ووسوس إليه من اتباع الشهوات القائم مقام الأمر.
ولما كان الإنسان بما يساعد تزيين الشيطان عليه من شهواته وحُظوظه وأخلاقه يطيع أمره غالباً قال: {فلما كفر} أي أوجد الكفر على أي وجه كان، ودلت الفاء على إسراعه في متابعة تزيينه.
{قال} أي الشيطان الذي هو هنا عبارة عن المنافقين: {إني بريء منك} أي ليس بيني وبينك علاقة في شيء أصلاً، ظناً منه أن هذه البراءة تنفعه شيئاً مما استوجبه المأمور بقبوله لأمره، وذلك كناية عن أنه فعل معه من الإعراض عنه والتمادي في كل ما يدل على إهماله من أكد البراءة منه، وذلك كما فعل المنافقون باليهود؛ جرؤوهم على أمر ينهى وهو الإقامة في بلدهم، فلما نصبوا الحرب طمعاً في نصرهم، فعل المنافقون بتباطؤهم عنهم فعل المتبرئ منهم، فكان ذلك أشد عليهم مما لو لم يطمعوهم في نصرهم؛ لأن هذا بمنزله انهزامهم عنهم من الصف الموجب لانهزامهم لا محالة.
ثم علل البراءة بقوله: {إني أخاف الله} أي الملك الذي لا أمر لأحد معه فلا تطاق صولته.
ثم شرح ذلك بقوله: {رب العالمين} أي الذي أوجدهم من العدم ورباهم بما يدل على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى، فلا يغني أحد من خلقه عن أحد شيئاً إلا بإذنه، وهو لا يغفر أصلاً لمن يقدح ربوبيته، ولا سيما إن نسبها إلى غيره.
وكان هذا كمثل ما يجد الإنسان بعد الوقوع في المعصية من الندم والحيرة، فإذا وجد ذلك وهم بالتوبة، زين له المعصية وصعب عليه أمر التوبة وعسره، وجرأه على المعصية بعينها أو على ما هو أكبر منها، ولا يزال كذلك حتى يتعذر عليه الرجوع فيتحقق هلاكه وهلاك من أوقعه.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
ولا تجد مثلا أشد وقعا على النفوس، ولا أنكى جرحا في القلوب من هذا المثل، لمن اعتبر وادكر، ولكنهم قوم لا يعقلون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يضرب لهم مثلا بحال دائمة. حال الشيطان مع الإنسان، الذي يستجيب لإغرائه فينتهي وإياه إلى شر مصير. وصورة الشيطان هنا ودوره مع من يستجيب له من بني الإنسان تتفقان مع طبيعته ومهمته، فأعجب العجب أن يستمع إليه الإنسان، وحاله هو هذا الحال! وهي حقيقة دائمة ينتقل السياق القرآني إليها من تلك الواقعة العارضة؛ فيربط بين الحادث المفرد والحقيقة الكلية، في مجال حي من الواقع، ولا ينعزل بالحقائق المجردة في الذهن، فالحقائق المجردة الباردة لا تؤثر في المشاعر، ولا تستجيش القلوب للاستجابة. وهذا فرق ما بين منهج القرآن في خطاب القلوب، ومنهج الفلاسفة والدارسين والباحثين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالحق: أن قول الشيطان هذا هو ما في آية {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل} في سورة [إبراهيم: 22].
وقد حكى ابن عباس وغيرهما من السلف في هذه الآية قصة راهب بحكاية مختلفة جعلت كأنها المراد من الإنسان في هذه الآية؛ ذكرها ابن جرير والقرطبي، وضَعَّف ابن عطية أسانيدها، فلئن كانوا ذكروا القصة، فإنما أرادوا أنها تصلح مثالاً لما يقع من الشيطان للإِنسان، كما مال إليه ابنُ كثير.
وظاهر أن هذه المحاجة لا تقع إلا في يوم الجزاء وبعد موت الكافر على الكفر دون من أسلموا.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ}.. وذلك هو مثل المنافقين الذين يضللون الناس في وعودهم الكاذبة، حيث يثيرون الكثير من الأحلام والأوهام، حتى يخيل لهؤلاء الناس أن المنافقين يمثلون الضمانة القوية في ما يعدون أو يتحدثون، فيندفعون إلى ما أثاروه في أحلامهم وأوهامهم بكل ثقةٍ وعزيمةٍ، حتى إذا دخلوا في دائرة اللعبة النفاقية، واجهتهم الحقيقة بأن كل تلك الوعود سراب، ورأوا أن المنافقين يبتعدون عنهم وعن تحمل مسؤوليتهم ويتبرؤون من علاقتهم بكل ما يحدث لهم، لأنهم يخافون من الأخطار المترتبة عليهم من خلال ذلك. وهذا هو الأسلوب الشيطاني في علاقته بالإنسان، فإنه يزين له الكفر بمختلف الوسائل التي يملكها في إثارة الشبهات حول الإيمان، وفي تأكيد الفكر الكافر بطريقته الخاصة، ويضمن له النتائج السعيدة بالخيالات الواسعة والأوهام الرائعة، حتى إذا سقط الإنسان أمام كل تلك الإغراءات الفكرية والتهاويل العاطفية، ووقع في قلب التجربة التي يواجه بها عذاب الله، تبرأ منه، {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} فلا مسؤولية لي بما كفرت وانحرفت، لأنك تملك عقلاً تميز به الصواب من الخطأ، وإرادة تؤكد بها موقفك، فكيف تحمِّلني مسؤولية ما فكرت به وأردت السير فيه؟ {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} فلا أملك معه شيئاً لنفسي فكيف أملكه لك، ولا أستطيع تحمّل أي وضعٍ منحرف عن رضاه وعن إرادته، لأن ما لديّ من المواقف المنحرفة يكفيني، فليتحمل كل شخص مسؤوليته عن موقفه، وهذا هو ما عبرت عنه الآية الكريمة: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُوني وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...نعم، هكذا حال المنافقين حيث يدفعون بحلفائهم من خلال الوعود الكاذبة والمكر والحيلة إلى أتون المعارك والمشاكل ثمّ يتركونهم لوحدهم، ويتخلّون عنهم، لأنّ الوفاء لا يجتمع والنفاق.