ثم نشهد - بعين الخيال - فإذا صحاف من ذهب وأكواب يطاف بها عليهم . وإذا لهم في الجنة ما تشتهيه الأنفس . وفوق شهوة النفوس التذاذ العيون ، كمالاً وجمالاً في التكريم :
( يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب . وفيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ) . .
ومع هذا النعيم . ما هو أكبر منه وأفضل . التكريم بالخطاب من العلي الكريم :
( وأنتم فيها خالدون . وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون . لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون )فما بال المجرمين الذين تركناهم منذ هنيهة يتلاحون ويختصمون ?
{ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ } أي : زبادي آنية الطعام ، { وَأَكْوَابٍ } وهي : آنية الشراب ، أي : من ذهب لا خراطيم لها ولا عُرَى ، { وَفِيهَا مَا تَشْهِي الأنْفُسُ } - وقرأ بعضهم : " تشتهيه
الأنفس " - { وَتَلَذُّ الأعْيُنُ } أي : طيب الطعم والريح وحسن المنظر .
قال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، أخبرني إسماعيل بن أبي سعيد{[26123]} ، عن{[26124]} عكرمة - مولى ابن عباس - أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل الجنة بعده أحد ، يفسح له في بصره مسيرة مائة عام في قصور من ذهب ، وخيام من لؤلؤ ، ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدى عليه ويراح بسبعين ألف صحفة من ذهب ، ليس فيها صحفة إلا فيها لون ليس في الأخرى ، مثله شهوته في آخرها كشهوته في أولها ، لو نزل به جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطي ، لا ينقص ذلك مما أوتي شيئا " {[26125]} .
وقال{[26126]} ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا عمرو بن سواد السرحي ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن عقيل بن خالد ، عن الحسن ، عن أبي هريرة : أن أبا أمامة ، رضي الله عنه ، حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم - وذكر الجنة - فقال : " والذي نفس محمد بيده ، ليأخذن أحدكم اللقمة فيجعلها في فيه ، ثم يخطر على باله طعام آخر ، فيتحول الطعام الذي في فيه على الذي اشتهى " ثم قرأ : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ{[26127]} الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } {[26128]} .
وقال{[26129]} الإمام أحمد : حدثنا حسن - هو ابن موسى - حدثنا سُكَيْن بن عبد العزيز ، حدثنا الأشعث الضرير ، عن شهر بن حَوْشَب ، عن أبي هريرة{[26130]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أدنى أهل الجنة منزلة إن له لسبع درجات ، وهو على السادسة وفوقه السابعة ، وإن له ثلثمائة خادم ، ويغدى عليه ويراح كل يوم بثلثمائة صحفة - ولا أعلمه إلا قال : من ذهب - في كل صحفة لون ليس في الأخرى ، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره ، ومن الأشربة ثلاثمائة إناء ، في كل إناء لون ليس في الآخر ، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره ، وإنه يقول : يا رب ، لو أذنت لي لأطعمت أهل الجنة وسقيتهم ، لم ينقص مما عندي شيء ، وإن له من الحور العين لاثنين وسبعين زوجة ، سوى أزواجه من الدنيا ، وإن الواحدة منهن ليأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض " {[26131]} .
{ وَأَنْتُمْ فِيهَا } أي : في الجنة { خَالِدُونَ } أي : لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولا .
جملة { يطاف عليهم بصحاف } الخ معترضة بين أجزاء القول فليس في ضمير { عليهم } التفات بل المقام لضمير الغيبة .
والصحاف : جمع صحفة ، وهي : إناء مستدير واسع الفم ينتهي أسفله بما يقارب التكوير . والصحفة : إناء لوضع الطعام أو الفاكهة مثل صحاف الفغفوري الصيني تسَع شِبْع خمسة ، وهي دون القصعة التي تسع شِبْع عشرة . وقد ورد أن عمر بن الخطاب اتخذ صِحافاً على عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فلا يؤتى إليه بفاكهة أو طُرْفَة إلا أرسل إليهن منها في تلك الصحاف .
والأكواب : جمع كُوب بضم الكاف وهو إناء للشراب من ماء أو خمر مستطيل الشكل له عنق قصير في أعلى ذلك العنق فمه وهو مصبّ ما فيه ، وفمه أضيق من جوفه ، والأكثر أن لا تكون له عروة يُمسَك منها فيمسك بوضع اليد على عنقه ، وقد تكون له عروة قصيرة ، وهو أصغر من الإبريق إلا أنه لا خرطوم له ولا عروة في الغالب . وأما الإبريق فله عروة وخرطوم .
وحذف وصف الأكواب لدلالة وصف صحاف عليه ، أي وأكواب من ذهب . وهذه الأكواب تكون للماء وتكون للخمر .
وجملة { وفيها ما تشتهيه الأنفس } الخ حال من { الجنة } ، هي من بقية القول .
وضمير { فيها } عائد إلى { الجنة } ، وقد عمّ قوله : { ما تشتهيه الأنفس } كلّ ما تتعلق الشهوات النفسية بنواله وتحصيله ، والله يخلق في أهل الجنة الشهوات اللائقة بعالم الخلود والسمو .
و { تَلَذُّ } مضارع لَذّ بوزن عَلِم : إذا أحسّ لذة ، وحق فعله أن يكون قاصراً فيعدّى إلى الشيء الذي به اللّذة بالباء فيقال : لذ به ، وكثر حذف الباء وإيصال الفعل إلى المجرور بنفسه فينتصب على نزع الخافض ، وكثر ذلك في الكلام حتى صار الفعل بِمَنزلة المتعدي فقالوا : لذّهُ . ومنه قوله هنا : { وتلذّ الأعين } التقدير ، وتلذُّهُ الأعين . والضمير المحذوف هو رابط الصلة بالموصول . ولذة الأعين في رؤية الأشكال الحسنة والألوان التي تنشرح لها النفس ، فلذّة الأعين وسيلة للذة النفوس فعطف { وتلَذّ الأعين } على { ما تشتهيه الأنفس } عطف ما بينه وبين المعطوف عليه عمومٌ وخصوص ، فقد تشتهي الأنفس ما لا تراه الأعين كالمحادثة مع الأصحاب وسماعِ الأصوات الحسنة والموسيقى . وقد تبصر الأعين ما لم تسبق للنفس شهوة رؤيتِه أو ما اشتهت النفس طعمه أو سمعه فيؤتى به في صور جميلة إكمالاً للنعمة . و { الأنفس } فاعل { تلَذّ } وحْذف المفعول لظهوره من المقام .
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر { ما تشتهيه } بهاء ضمير عائد إلى { ما } الموصولة وكذلك هو مرسوم في مصحف المدينة ومصحف الشام ، وقرأه البَاقون { ما تشتهي } بحذف هاء الضمير ، وكذلك رُسم في مصحف مكة ومصحف البصرة ومصحف الكوفة . والمروي عن عاصم قارىء الكوفة روايتان : إحداهما أخذ بها حفص والأخرى أخذ بها أبو بكر . وحذف العائد المتصل المنصوب بفعل أو وصف من صلة الموصول كثير في الكلام .
وقوله : { وأنتم فيها خالدون } بشارة لهم بعدم انقطاع الحَبْرة وسعة الرزق ونيل الشهوات ، وجيء فيه بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والثبات تأكيداً لحقيقة الخلود لدفع توهم أن يراد به طول المدة فحسب .
وتقديم المجرور للاهتمام ، وعطف على بعض ما يقال لهم مقول آخر قُصد منه التنويه بالجنة وبالمؤمنين إذ أُعطوها بسبب أعمالهم الصالحة ، فأشير إلى الجنة باسم إشارة البعيد تعظيماً لشأنها وإلا فإنها حاضرة نصب أعينهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.