وقوله : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } أي : فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض ، حتى كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أي : بقدرهما إذا مُدّا . قاله{[27576]} مجاهد ، وقتادة .
وقد قيل : إن المراد بذلك بُعدُ ما بين وتر القوس إلى كبدها .
وقوله : { أَوْ أَدْنَى } قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه ، كقوله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] ، أي : ما هي بألين من الحجارة ، بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة . وكذا قوله : { يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [ النساء : 77 ] ، وقوله : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] ، أي : ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة ، أو يزيدون عليها . فهذا تحقيق للمخبر به لا شك ولا تردد{[27577]} ، فإن هذا ممتنع هاهنا ، وهكذا هذه الآية : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } .
وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم ، إنما هو جبريل ، عليه السلام ، هو قول أم المؤمنين عائشة ، وابن مسعود ، وأبي ذر ، وأبي هريرة ، كما سنورد أحاديثهم قريبا إن شاء الله . وروى مسلم في صحيحه ، عن ابن عباس أنه قال : " رأى محمد ربه بفؤاده مرتين " {[27578]} . فجعل هذه إحداهما . وجاء في حديث شريك بن أبي نمر ، عن أنس في حديث الإسراء : " ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى " ولهذا تكلم{[27579]} كثير من الناس في متن هذه الرواية ، وذكروا أشياء فيها من الغرابة ، فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى ، لا أنها تفسير لهذه الآية ؛ فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء ؛ ولهذا قال بعده : { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } ، فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض .
وقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني ، حدثنا زر بن حبيش قال : قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت جبريل له ستمائة جناح " {[27580]} .
وقال ابن وهب : حدثنا ابن لَهِيعة ، عن أبي الأسود ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : كان أولَ شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى في منامه جبريل بأجياد ، ثم إنه خرج ليقضي حاجته فصرخ به جبريل : يا محمد ، يا محمد . فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينا وشمالا فلم ير شيئًا {[27581]} - ثلاثا - ثم رفع بصره فإذا هو ثان إحدى رجليه مع {[27582]} الأخرى على أفق السماء فقال : يا محمد ، جبريل ، جبريلُ - يُسكّنه - فهرب النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل في الناس ، فنظر فلم ير شيئًا ، ثم خرج من الناس ، ثم نظر فرآه ، فدخل في الناس فلم ير شيئًا ، ثم خرج فنظر فرآه ، فذلك قول الله عز وجل : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . [ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى{[27583]} ] } إلى قوله : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } يعني جبريل إلى محمد ، { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } : ويقولون : القاب نصف الأصبع . وقال بعضهم : ذراعين كان بينهما .
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث ابن وهب {[27584]} . وفي حديث الزهري عن أبي سلمة ، عن جابر شاهد لهذا .
وروى البخاري عن طَلْق بن غنام ، عن زائدة ، عن الشيباني قال : سألت زرًّا عن قوله :
{ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } قال : حدثنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح{[27585]} .
وقال ابن جرير : حدثني ابن بَزِيع البغدادي ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله : { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلتا {[27586]} رفرف ، قد ملأ ما بين السماء والأرض {[27587]} .
و : { قاب } معناه : قدر . وقال قتادة وغيره : معناه من طرف العود إلى طرفه الآخر . وقال الحسن ومجاهد : من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المقبض .
وقرأ محمد بن السميفع اليماني : «فكان قيس قوسين » ، والمعنى قريب من { قاب } ، ومن هذه اللفظة قول النبي عليه السلام : «لقاب قوس أحدكم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها »{[10688]} وفي حديث آخر : «لقاب قوس أحدكم في الجنة » .
وقوله : { أو أدنى } معناه : على مقتضى نظر البشر ، أي لو رآه أحدكم لقال في ذلك قوسان أو أدنى من ذلك ، وقال أبو زيد ليست بهذه القوس ، ولكن قدر الذراعين أو أدنى ، وحكى الزهراوي عن ابن عباس أن القوس في هذه الآية ذراع تقاس به الأطوال ، وذكره الثعلبي وأنه من لغة الحجاز .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فكان} منه {قاب قوسين} يعني قدر ما بين طرفي القوس من قسي العرب {أو أدنى} يعني أدنى أو أقرب من ذلك. حدثنا عبد الله، قال: سمعت أبا العباس يقول: {قاب قوسين}، يعني قدر طول قوسين من قسي العرب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَى "يقول: فكان جبرائيل من محمد صلى الله عليه وسلم على قدر قوسين، أو أدنى من ذلك، يعني: أو أقرب منه... وقيل: إن معنى قوله: "فَكانَ قَابَ قَوْسَيْنِ" أنه كان منه حيث الوتر من القوس... عن عبد الله "فكان قاب قوسين أو أدنى": قال: دنا جبريل عليه السلام منه حتى كان قدر ذراع أو ذراعين...
واختلف أهل التأويل في المعنى بقوله: "فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَى"؛
فقال بعضهم: في ذلك، بنحو الذي قلنا فيه...
وقال آخرون: بل الذي دنا فكان قاب قوسين أو أدنى: جبريل من ربه...
وقال آخرون: بل كان الذي كان قاب قوسين أو أدنى: محمد من ربه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: القاب هو صدر القوس أي كان قدر صدر القوس من الوَتَر مرتين، وقال بعضهم: أي قدر قوسين حقيقة...
فتقول: أي الوجوه كان ففيه دليل أنه لم يكن جبرائيل عليه السلام يبعُد من رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث لا يحيط به لأن الشيء إذا بَعُد عن البصر يعرفه بالاجتهاد، ولا يدركه حقيقة، وكذلك إذا قرُب منه حتى إذا ماسّه، والتصق به، قصُر البصر عن إدراكه، وإذا كان بين البُعد والقُرب أحاط به، وأدركه، فيُخبر الله تعالى أنه أحاط به علما، وأدركه حقيقة، لا أن كانت معرفته إياه بطريق الاجتهاد، والله أعلم. وقوله تعالى: {أو أدنى} قال أهل التأويل: حرف أو حرف شكٍّ. وذلك غير محتمل من الله تعالى، ولكن معناه على الإيجاب، أي بل أدنى. وقال بعضهم: {أو أدنى} في اجتهادكم ووهمِكم، لو نظرتم إليهما لقُلتم: إنهما بالقُرب والدُّنوّ قدر قوسين أو أدنى...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
... والمقصود تمثيل ملكة الاتصال وتحقيق استماعه لما أوحي إليه بنفي البعد الملبس...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{أَوْ أَدْنَى} قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم، إنما هو جبريل، عليه السلام، هو قول أم المؤمنين عائشة، وابن مسعود، وأبي ذر، وأبي هريرة، كما سنورد أحاديثهم قريبا إن شاء الله. وروى مسلم في صحيحه، عن ابن عباس أنه قال: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين". فجعل هذه إحداهما. وجاء في حديث شريك بن أبي نمر، عن أنس في حديث الإسراء: " ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى " ولهذا تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية، وذكروا أشياء فيها من الغرابة، فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى، لا أنها تفسير لهذه الآية؛ فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء؛ ولهذا قال بعده: {وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}، فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض. وروى البخاري عن طَلْق بن غنام، عن زائدة، عن الشيباني قال: سألت زرًّا عن قوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} قال: حدثنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذا يدل على كمال المباشرة للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأنه لا واسطة بينه وبين جبريل عليه السلام.