غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَكَانَ قَابَ قَوۡسَيۡنِ أَوۡ أَدۡنَىٰ} (9)

1

ثم زاد تأكيداً بقوله { فكان قاب قوسين } قال أهل العربية . هو من باب حذف المضافات أي فكان مقدار مسافة قرب جبرائيل عليه السلام مثل " قاب قوسين " . والقاب والقيب والقاد والقيد والقيس كلها المقدار . والعرب تقدر الأشياء بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع وغيرها . وفي الحديث " لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين " وقال صلى الله عليه وسلم " لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها " والقد السوط . وقوله { أو أدنى } أي في تقديركم كقوله { مائة ألف أو يزيدون } [ الصافات : 147 ] وقال بعضهم : الضمير في { فاستوى } لمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن تعليم جبرائيل إياه كان قبل كماله واستوائه ، فحين تكاملت قواه النظرية والعلمية وصار بالأفق الأعلى أي بالرتبة العليا من المراتب الإنسانية دنا من الأمة فتدلى أي لان لهم ورفق بهم حتى قال { إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ } [ الكهف :110 ] فكان الفرق بينه وبين جبرائيل قليلاً جداً . وعلى هذا يمكن أن يكون الرجحان في الكمال للنبي صلى الله عليه وسلم كما يقول أكثر أهل السنة ، أو بالعكس كما تزعم طائفة منهم ومن غيرهم ، ويحتمل على هذا القول أن يكون الضمير في { دنا } لجبريل والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن زال عن الصفات البشرية من الشهوة والغضب والجهل وبلغ الأفق الأعلى الإنساني ، ولكن نوعيته لم تزل عنه وكذلك جبرائيل .

وإن ترك اللطافة المانعة من الرؤية ونزل إلى الأفق الأدنى من الآفاق الملكية ولكن لم يخرج عن كونه ملكاً فلم يبقى بينهما إلا اختلاف حقيقتهما نظيره { ولقد رآه بالأفق المبين } [ التكوير :23 ] أي رأى جبرائيل وهو أي محمد بالأفق الفارق بين درجة الإنسان ومنزلة الملك كقول القائل : " رأيت الهلال على السطح " أي وأنا على السطح . وقد يجعل ذكر القوس عبارة عن معنى آخر هو أن العرب كانوا إذا عاهدوا فيما بينهم طرحوا قوساً أو قوسين لتأكيد العهد بين الاثنين ، فأخبر الله سبحانه أنه كان بين جبرائيل ومحمد عليه الصلاة والسلام من المحبة وقرب المنزلة مثل ما تعرفونه فيما بينكم عند المعاقدة . وقيل : الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لله والمراد قرب المكان بينهما . وهذا يشبه مذهب المجسمة إلا أن يقال : دنا دنو ألفة ولا دنو زلفة . دنا دنو إكرام لا دنو أجسام ، دنا دنو أنس لا دنو نفس . والقوسان أحدهما صفة الحدوث والأخرى صفة القدم . أخبر بالقصة إكراماً وكتم الإسرار عظاماً .

/خ62