الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَكَانَ قَابَ قَوۡسَيۡنِ أَوۡ أَدۡنَىٰ} (9)

قوله تعالى : " فكان قاب قوسين أو أدنى " أي " كان " محمد من ربه أو من جبريل " قاب قوسين " أي قدر قوسين عربيتين . قال ابن عباس وعطاء والفراء . الزمخشري : فإن قلت كيف تقدير قوله : " فكان قاب قوسين " .

قلت : تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين ، فحذفت هذه المضافات كما قال أبوعلي في قوله{[14354]} :

وقد جعلتْنِي من حَزِيمَةَ إِصْبَعَا

أي ذا مقدار مسافة إصبع " أو أدنى " أي على تقدير كم ، كقوله تعالى : " أو يزيدون{[14355]} " [ الصافات : 147 ] . وفي الصحاح : وتقول بينهما قاب قوس ، وقيب قوس ، وقاد قوس ، وقيد قوس ، أي قدر قوس . وقرأ زيد بن علي " قاد " وقرئ " قيد " و " قدر " . ذكره الزمخشري . والقاب ما بين المقبض والسية . ولكل قوس قابان . وقال بعضهم في قوله تعالى : " قاب قوسين " أراد قابي قوس فقلبه . وفي الحديث : ( ولقاب قوس أحدكم من الجنة ، وموضع قَدِّه خير من الدنيا وما فيها ) والقد السوط . وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها ) . وإنما ضرب المثل بالقوس ، لأنها لا تختلف في القاب . والله أعلم . قال القاضي عياض : اعلم أن ما وقع من إضافة الدنو والقرب من الله أو إلى الله فليس بدنو مكان ولا قرب مدى ، وإنما دنو النبي صلى الله عليه وسلم من ربه وقربه منه : إبانة عظيم منزلته ، وتشريف رتبته ، وإشراق أنوار معرفته ، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته . ومن الله تعالى له : مبرة وتأنيس وبسط وإكرام . ويتأول في قوله عليه السلام : ( ينزل ربنا إلى سماء الدنيا ) على أحد الوجوه : نزول إجمال وقبول وإحسان . قال القاضي : وقوله : " فكان قاب قوسين أو أدنى " فمن جعل الضمير عائدا إلى الله تعالى لا إلى جبريل كان عبارة عن نهاية القرب ، ولطف المحل ، وإيضاح المعرفة ، والإشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه وسلم ، وعبارة عن إجابة الرغبة ، وقضاء المطالب ، وإظهار التحفي ، وإنافة المنزلة والقرب من الله ، ويتأول في قوله عليه السلام : ( من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) قرب بالإجابة والقبول ، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول . وقد قيل : " ثم دنا " جبريل من ربه " فكان قاب قوسين أو أدنى " قاله مجاهد . ويدل عليه ما روي في الحديث : ( إن أقرب الملائكة من الله جبريل عليه السلام ) . وقيل : ( أو ) بمعنى الواو أي قاب قوسين وأدنى . وقيل : بمعنى بل أي بل أدنى . وقال سعيد بن المسيب : القاب صدر القوس العربية ، حيث يشد عليه السير الذي يتنَكَّبُه صاحبه ، ولكل قوس قاب واحد . فأخبر أن جبريل قرب من محمد صلى الله عليه وسلم كقرب قاب قوسين . وقال سعيد بن جبير وعطاء وأبو إسحاق الهمداني وأبو وائل شقيق بن سلمة : ( فكان قاب قوسين ) أي قدر ذراعين ، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء ، وهى لغة بعض الحجازيين . وقيل : هي لغة أزد شنوءة أيضا . وقال الكسائي : قوله : " فكان قاب قوسين أو أدنى " أراد قوسا واحدا ، كقول الشاعر :

ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنِ *** قَطَعْتُهُ بالسَّمْتِ لا بالسَّمْتَيْنِ{[14356]}

أراد مهمها واحدا . والقوس تذكر وتؤنث فمن أنث قال في تصغيرها قويسة ، ومن ذكَّر قال : قويس ، وفي المثل : هو من خير قويسٍ سهما . والجمع قسي قسي وأقواس وقياس ، وأنشد أبو عبيدة :

وَوَتَّرَ الأساورُ القِيَاسَا{[14357]}

والقوس أيضا بقية النّمْر في الجُلّة أي الوعاء . والقوس برج في السماء . فأما القوس بالضم فصومعة الراهب ، قال الشاعر وذكر امرأة :

لاسْتَفْتَنَتْنِي وذا المسْحَينِ في القُوسِ{[14358]}


[14354]:اختلف في القائل. وصدر البيت: *فأدرك إبقاء العرادة ظلعها* وفي ز: "خزيمة" بالخاء المعجمة، وهو تحريف. وحزيمة (بالمهملة): اسم فارس من فرسان العرب. والعرادة: اسم فرس من خيل العرب في الجاهلية.
[14355]:راجع جـ 15 ص 130.
[14356]:السمت: الطريق ومعناه قطعته على طريق واحد.
[14357]:قائله القلاخ بن حزن. وتمامه: *صغدية تنتزع الأنفاسا* والأساور: جمع إسوار وهو المقدم من أساورة الفرس. والصغد: جيل من العجم ويقال إنه اسم بلد. (مادة قوس).
[14358]:قائله جرير. وصدره: *لا وصل إذ صرفت هند ولو وقفت*