الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{فَكَانَ قَابَ قَوۡسَيۡنِ أَوۡ أَدۡنَىٰ} (9)

{ فَكَانَ } منه { قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } أي : بل أدنى ، وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع .

قال أهل المعاني : في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : ثم تدلّى فدنا ؛ لأن التدلّي : الدنوّ ، ولكنه سامع حسن ؛ لأن التدلّي يدل على الدنوّ ، والدنو يدل على التدلّي ، وإنمّا تدلى للدنوّ ودنا للتدلّي ، وقال آخرون : معناه ثم دنا الرب سبحانه من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلّى فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، وأصل التدلىّ : النزول إلى الشيء حتى يقرب منه ، فوضع موضع القرب ، قال لبيد :

فتدلّيت عليه قافلا *** وعلى الأرض غيابات الطفل

وهذا معنى قول أنس ورواية أبي سلمة عن ابن عباس .

وأخبرني عقيل بن محمد أنّ أبا الفرج البغدادي ، أخبرهم عن محمد بن جرير قال : حدّثنا الربيع قال : حدّثنا ابن وهب عن سليمان بن بلال عن شريك بن أبي نمر قال : سمعت أنس بن مالك يحدّثنا عن ليلة المسرى أنّه عرج جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء السابعة ، ثم علا به بما لا يعلمه إلاّ الله ( عز وجل ) حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار ربّ العزة فتدلّى ، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إليه ما شاء ، ودنوّ الله من العبد ودنوّ العبد منه بالرتبة والمكانة والمنزلة وإجابة الدعوة وإعطاء المنية ، لا بالمكان والمسافة والنقلة ، كقوله سبحانه :

{ فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] .

وقال بعضهم : معناه : ثم دنا جبريل من ربّه عزّوجل فكان منه قاب قوسين أو أدنى ، وهذا قول مجاهد ، يدلّ عليه ما روي في الحديث : " إنه أقرب الملائكة من جبرائيل الى الله سبحانه " .

وقال الضحاك : ثم دنا محمد من ربّه عز وجل فتدلّى فأهوى للسجود ، فكان منه قاب قوسين أو أدنى ، وقيل : ثم دنا محمد من ساق العرش فتدلّى ، أي : جاور الحجب والسرادقات ، لا نقلة مكان ، وهو قائم بإذن الله كالمتعلق بالشيء لا يثبت قدمه على مكان ، وهذا معنى قول الحسين بن الفضل .

ومعنى قوله { قَابَ قَوْسَيْنِ } قدر قوسين عربيتين عن ابن عباس وعطاء ، والقاب والقيب والقاد والقيد عبارة عن مقدار الشيء ، ونظيره من الكلام زير وزار . قال صلى الله عليه وسلم " لقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدينا وما فيها " .

وقال مجاهد : معناه حيث الوتر من القوس ، وقال سعيد بن المسيب : القاب صدر القوس العربية حيث يشدّ عليه السير الذي يتنكّبه صاحبه ، ولكل قوس قاب واحد ، فأخبر أنّ قرب جبرئيل من محمد صلى الله عليه وسلم عند الوحي كقرب قاب قوسين .

وقال أهل المعاني : هذا إشارة إلى تأكيد المحبة والقربة ورفع المنزلة والرتبة ، وأصله أنّ الحليفَين والمحبَّين في الجاهلية كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد والوفاء خرجا بقوسيهما والصفا بينهما يريدان بذلك أنّهما متظاهران متحاميان يحامي كل واحد منهما عن صاحبه .

وقيل : هذا تمثيل في تقريب الشيء من الشيء ، وهو مستعمل في أمثال العرب وأشعارهم ، وقال سفيان بن سلمة وسعيد بن جبير وعطاء وابن إسحاق الهمداني : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } قدر ذراعين ، والقوس : الذراع يقاس بها كل شيء ، وهي لغة بعض أهل الحجاز . { أَوْ أَدْنَى } بل أقرب .

وقال بعض : إنّما قال { أَوْ أَدْنَى } ؛ لأنه لم يردْ أن يجعل لذلك حدّاً محصوراً .

وسئل أبو العباس بن عطاء عن هذه الآية فقال : كيف أصف لكم مقاماً انقطع عنه جبريل وميكائيل وإسرافيل ، ولم يكن إلاّ محمد وربّه ؟ وقال الكسائي : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } أراد قوساً واحداً كقول الشاعر :

ومَهْمَهَيْنِ قَذَقَيْنِ مَرْتَيْنْ *** قطعته بالسّمْتِ لا بالسّمْتَيْنْ

أراد مهمهاً واحداً .

وقال بعض أهل المعاني : معنى قوله : { فتدلّى } فتدلّل من الدلال كقولهم : ( تظني بمعنى تظنن ) وأملى وأملل بمعنى واحد .