اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَكَانَ قَابَ قَوۡسَيۡنِ أَوۡ أَدۡنَىٰ} (9)

قوله : «فَكان قَابَ » ها هنا مضافان محذوفان يُضْطَرُّ لتقديرهما أي فكان مقدارُ مسافةِ قربه منه مقدارَ مسافةِ قَاب .

وقد فعل أبو علي هذا في قول الشاعر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَقَدْ جَعَلَتْنِي مِنْ خَزِيمَةَ{[53403]} إصْبَعَا{[53404]}

أي ذا مقدار مسافة إصبع .

والقابُ القَدْرُ ؛ يقول : هذا قاب هذا أي قَدْرُهُ . ومثله القِيبُ والقَادُ والقِيدُ والقِيسُ . قال الزمخشري : وقد جاء التقدير بالقوْس والرّمح والسَّوْط والذّراع والباع والخُطْوة ، والشّبر ، والفَتْر ، والإصبع ومنه : «لاَ صَلاةَ إلَى أَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ مِقْدَارَ رُمْحَيْنِ » وفي الحديث : «مِقْدَارُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ وَمَوْضِع قِدِّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا » ، والقِدُّ السَّوْط{[53405]} . وألف «قاب » عن واو . نص عليه أبو البقاء . وأما قِيبٌ{[53406]} فلا دلالة فيه على كونها ياء لأن الواو إذا انكسر ما قبلها قلبت ياء كدِيمَةٍ وقِيمَةٍ .

وذكره الراغب أيضاً في مادة «قوب » إلا أنه قال في تفسيره : هو ما بين المِقْبض والسِّيَة{[53407]} من القَوس{[53408]} . فعلى هذا يكون مقدار نصف القوس ، لأن المقبض في نصفه والسّية{[53409]} هي العَرضة التي يحط فيها الوَتَر . وفيما قاله نظرٌ لا يخفى .

ويروى عن مجاهد أنه من الوتر إلى مقبض القوس في وسطه . وقيل : إن القوس ذراعٌ يقاس به . نُقل ذلك عن ابن عباس ( - رضي الله عنهما{[53410]} - ) وأنه لغة للحجازيين ( والشَّنُوئيّينَ ){[53411]} والقوس معروفةٌ{[53412]} وهي مؤنثة وشذوا في تصغيرها فقالوا : قُوَيْسٌ من غير تأنيث كعُرَيْبٍ وحُرَيْبٍ ويجمع على قِسِيٍّ . وهو مقلوب{[53413]} من قُوُوس{[53414]} .

والقَوْسُ برج في السماء{[53415]} ، فأما القُوسُ - بالضم - فصَوْمَعَةُ الرَّاهِبِ{[53416]} قال الشاعر :

لاسْتَفْتَنَتْنِي وَذَا المِسْحَيْنِ فِي القُوسِ{[53417]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قوله : «أَوْ أَدْنَى » هي كقوله : «أَوْ يَزِيدُونَ » ؛ لأن المعنى فكان يأخذ هذين المقدارين في رأي الرائي أي لتقارب ما بينهما يشك الرائي في ذلك .

و«أَدْنَى » أفعل تفضيل والمفضل عليه محذوف أي أو أَدْنَى مِنْ قَابِ قَوْسَيْنِ .

فصل

روى الشيبانيّ قال : سألت زِرًّا عن قوله تعالى : { قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى } قال : أخبرنا عبد الله يعني ابن مسعود أن محمداً رأى جبريل له ستمائة جَناح . فمعنى الآية : ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فتدلى فنزل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان منه قابَ قَوْسَيْن أو أدنى{[53418]} بل أدنى ؛ وبهذا قال ابن عباس ، والحسنُ ، وقتادة . وقال آخرون : دَنَا الربُّ من محمد - صلى الله عليه وسلم - فتدلى فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى .

قال البغوي : وروينا في قصة المعراج عن شريك بن عبد الله عن أنس : ودنا الجبَّار ربُّ العزة فتدلى حتى كان قاب قوسي أن أدنى . وهذه رواية ابن سلمة عن ابن عباس .

وقال مجاهد : دنا جبريل من ربه . وقال الضحاك : دنا محمد من ربه . فتدلى فأهوى للسجود فكان منه قاب قوسين أو أدنى . وتقدم الكلام على القاب . والقوس ما يرمى به في قول مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء عن ابن عباس فأخبر أنه كان بين جبريل وبين محمد - عليهما الصلاة والسلام - مقدارُ قَوْسَيْن . وقال مجاهد : معناه حيث الوتر من القوس وهذا إشارة إلى تأكيد القرب ، والأصل فيه أن الخَلِيفَتَيْن{[53419]} من العرب كانا إذا تعاقدا على الصفاء والعهد خرجا بقوسهما فألصقاهُ بينهما يريدان بذلك أنهما متظاهران يُحَامِي كل واحد منهما عن صاحبه . وقال عبد الله بن مسعود : قاب قوسين قَدْرَ ذراعين . وهو قول سعيدِ بنِ جبير ، وشقيقِ بنِ سلمة ، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء «أو أدنى » بل أقْرَبُ{[53420]} .

وإنما ضرب المثل بالقوس لأنها لا تختلف بالقاب{[53421]} .


[53403]:كذا في القرطبي والكشاف والبحر وفي (ب)، بينما في (أ) مسافة. وهو تحريف.
[53404]:عجز بيت من الطويل صدره: فأدرك إبقاء العرادة ظلعُها *** .................... وهو مختلف في قائله. ونسبه في شرح شواهد الكشاف لحسان "رضي الله عنه" وإبقاء الفرس ما تبقيه من العدو إلى أن تقرب من المقصد. والعَرَادة اسم فرس القائل. والظلع –بتسكين اللام- الغمز في المشي. والمعنى أنها لما وصلتني إلى العدو والذي هو خزيمة وبقي بيني وبينه قدر مسافة إصبع عرض لها طلع وهو داء في الرجل ففات مني وهرب. والشاهد: إصبعا فهنا مضاف محذوف أي مقدار مسافة إصبع فحذف. وانظر القرطبي 17/89 والكشاف 4/29 وشرح شواهده 453، وروح المعاني 27/48 والبحر 8/158.
[53405]:وانظر الكشاف 4/28 وانظر اللسان قيب وقوب وقيس وقوس.
[53406]:قال في اللسان: والقِيب بمعنى القدر وعينها واو من قولهم: قوبوا في الأرض أي أثروا فيها بوطئهم ثم قال: "وقوّب الشيء قلعه من أصله وتقوّب الشيء إذا انقلع من أصله". وانظر اللسان قوب 3768.
[53407]:سِيَة القوس طرف قابِها، وقيل: رأسها. وقيل: ما اعوجّ من رأسها والنسب إليه سيويّ. وانظر اللسان سيا 2173.
[53408]:مفردات الراغب قوب 414.
[53409]:في النسختين الشّية وهو تحريف. ولعل الناسخ ظن أن الشدة شين.
[53410]:زيادة من (أ) وانظر البحر 8/158.
[53411]:ما بين القوسين سقط من (ب) وانظر القرطبي 17/91 قال: وهي لغة لبعض الحاجزيين. وقيل هي لغة أزد شنوءة.
[53412]:في (ب) معروف.
[53413]:قلبا مكانيا.
[53414]:على فُعول. وبعد القلب أصبح على "فُلوعٍ" بتقديم اللام على العين.
[53415]:اللسان "قوس" 3774.
[53416]:وقيل: رأس الصومعة. وقيل: موضع الراهب. وقيل: هو الراهب بعينه. وانظر المرجع السابق.
[53417]:عجز بيت من البسيط لجرير وصدره: لا وصل إذ صرفت هند ولو وقفت *** ......................... والشاهد: في كلمة القوس فمعناها صاحب الصومعة أو الراهب أو رأس الصومعة، وانظر البيت في الديوان 391، والقرطبي 17/91، واللسان قوس وبعد البيت: قد كنت تربا لنا يا هند فاعتبري *** ماذا يريبك من شيبي وتقويسي أي قد كنت تربا من أترابي، وشبت كما شبت فما بالك يريبك سيبي ولا يريبني شيبك؟!
[53418]:معالم التنزيل 6/256.
[53419]:كذا في النسختين وفي البغوي: الحليفتين. وهو الأقرب والمراد.
[53420]:وانظر في هذا تفسير العلامتين البغوي والخازن في معالم التنزيل ولباب التأويل 6/257.
[53421]:قاله القرطبي في الجامع 17/90.