ثم يمضي في عرض نماذج من أهل الكتاب ؛ فيعرض نموذج المضللين ، الذي يتخذون من كتاب الله مادة للتضليل ، يلوون السنتهم به عن مواضعه ، ويؤولون نصوصه لتوافق أهواء معينة ، ويشترون بهذا كله ثمنا قليلا . . عرضا من عرض هذه الحياة الدنيا : ومن بين ما يلوون السنتهم به ويحرفونه ويؤولونه ما يختص بمعتقداتهم التي ابتدعوها عن المسيح عيسى بن مريم ، مما اقتضته أهواء الكنيسة وأهواء الحكام سواء :
وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ، ويقولون : هو من عند الله وما هو من عند الله ، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون . ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ، ثم يقول للناس . كونوا عبادا لي من دون الله . ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون . ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا . أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ؟ . .
وآفة رجال الدين حين يفسدون ، أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين . وهذهالحال التي يذكرها القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب ، نعرفها نحن جيدا في زماننا هذا . فهم كانوا يؤولون نصوص كتابهم ، ويلوونها ليا ، ليصلوا منها إلى مقررات معينة ، يزعمون أنها مدلول هذه النصوص ، وإنها تمثل ما أراده الله منها . بينما هذه المقررات تصادم حقيقة دين الله في أساسها . معتمدين على أن كثرة السامعين لا تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين ومدلولات هذه النصوص الحقيقية ، وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي يلجئون إليها النصوص إلجاء .
ونحن اليوم نعرف هذا النموذج جيدا في بعض الرجال الذين ينسبون إلى الدين ظلما ! الذين يحترفون الدين ، ويسخرونه في تلبية الأهواء كلها ؛ ويحملون النصوص ويجرون بها وراء هذه الأهواء حيثما لاح لهم أن هناك مصلحة تتحقق ، وأن هناك عرضا من أعراض هذه الحياة الدنيا يحصل ! يحملون هذه النصوص ويلهثون بها وراء تلك الأهواء ، ويلوون اعناق هذه النصوص ليا لتوافق هذه الأهواء السائدة ؛ ويحرفون الكلم عن مواضعه ليوافقوا بينه وبين اتجاهات تصادم هذا الدين وحقائقه الأساسية . ويبذلون جهدا لاهثا في التمحل وتصيد أدنى ملابسة لفظية ليوافقوا بين مدلول آية قرآنية وهوى من الأهواء السائدة التي يهمهم تمليقها . . ( ويقولون هو من عند الله . وما هو من عند الله . ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) . . كما يحكي القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب سواء . فهي آفة لا يختص بها أهل الكتاب وحدهم . إنما تبتلى بها كل أمة يرخص دين الله فيها على من ينتسبون إليه حتى ما يساوي إرضاء هوى من الأهواء التي يعود تمليقها بعرض من أعراض هذه الأرض ! وتفسد الذمة حتى ما يتحرج القلب من الكذب على الله ، تحريف كلماته عن مواضعها لتمليق عبيد الله ، ومجاراة أهوائهم المنحرفة ، التي تصادم دين الله . . وكأنما كان الله - سبحانه - يحذر الجماعة المسلمة من هذا المزلق الوبيء ، الذي انتهى بنزع أمانة القيادة من بني إسرائيل .
يخبر تعالى عن اليهود ، عَليهم لعائن الله ، أن منهم فريقا يُحَرِّفون الكلم عن مواضعه ويُبَدِّلون كلام الله ، ويزيلونه عن المراد به ، ليُوهِموا الجهلة
أنه في كتاب الله كذلك ، وينسبونه إلى الله ، وهو كذب على الله ، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله ؛ ولهذا قال :
{ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
وقال مجاهد ، والشعبي ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس : { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ } يحرفونه .
وهكذا روى{[5239]} البخاري عن ابن عباس : أنهم{[5240]} يحرفون ويزيدون{[5241]} وليس أحد من خلق الله يزيل لفظ كتاب من كتب الله ، لكنهم يحرفونه : يتأولونه على غير تأويله .
وقال وهب بن مُنَبِّه : إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله لم يغير منهما حرف ، ولكنهم يُضِلّونَ بالتحريف والتأويل ، وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } فأما كتب الله فإنها محفوظة ولا تحول .
رواه ابن أبي حاتم ، فإن عَنَى وَهْب ما بأيديهم من ذلك ، فلا شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص ، وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ كبير ، وزيادات كثيرة ونقصان ، ووَهْم فاحش . وهو من باب تفسير المعبر{[5242]} المعرب ، وفَهْم{[5243]} كثير منهم بل أكثرهم ، بل جميعهم فاسد . وأما إن عَنَى كتب الله التي هي كتبه من عنده ، فتلك كما قال محفوظة لم يدخلها شيء .
الضمير في { منهم } ، عائد على أهل الكتاب ، و «الفريق » ، الجماعة من الناس هي مأخوذة من فرق ، إذا فصل وأبان شيئاً عن شيء ، و{ يلوون } معناه : يحرفون ويتحيلون بتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها ، ومثال ذلك قولهم : { سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع }{[3269]} ونحو ذلك وليس التبديل المحض بليٍّ ، وحقيق الليّ في الثياب والحبال ونحوها ، فتلها وإراغتها{[3270]} ، ومنه ليّ العنق ثم استعمل ذلك في الحجج والخصومات والمجادلات تشبيهاً بتلك الإراغة التي في الأجرام فمنه قولهم ، خصم ألوى ومنه قول الشاعر :
فَلَوْ كَانَ فِي لَيْلَى شَذًى مِنْ خُصُومَةٍ . . . لَلَوَّيْتُ أَعْنَاقَ الْخُصُومِ الملاويا{[3271]}
ألْفَيْتَني ألوي بعيداً المستمر{[3272]}
وقرأ جمهور الناس ، «يلوون » ، مضارع لوى ، على وزن فعل بتخفيف العين وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، وشيبة بن نصاح ، «يلَوّون » بتشديد الواو وفتح اللام ، من لوّى ، على وزن فعّل بتشديد العين ، وهو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية ، وقرأ حميد «يلُوْن » بضم اللام وسكون الواو ، وهي في الأصل «يلون » مثل قراءة الجماعة ، فهمزت الواو المضمومة لأنها عرفها في بعض اللغات ، فجاء «يلؤون » فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام فجاء «يلُون » و{ الكتاب } في هذا الموضع التوراة ، وضمير الفاعل في قوله { لتحسبوه } هو للمسلمين قوله { وما هو من عند الله } نفي أن يكون منزلاً كما ادعوا ، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ومنهم بالتكسب ولم تعن الآية إلا لمعنى التنزيل فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله ، وما هو من عند الله ، وقد تقدم نظير قوله تعالى { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } .