هذه خاتمة السورة ، وخاتمة المطاف لتلك الجولات في شتى الآفاق ، تلك الجولات التي نحس أننا عائدون منها بعد سياحات طويلة في آفاق الكون ، وجوانب النفس ، وعوالم الفكر والشعور والتأملات . عائدون منها في مثل الإجهاد من طول التطواف ، وضخامة الجني ، وامتلاء الوطاب !
هذه خاتمة السورة التي تضمنت تلك الجولات حول العقيدة في مسائلها الرئيسية الكبيرة : توحيد الربوبية والقوامة والحاكمية ، ونفي الشركاء والشفعاء ، ورجعة الأمر كله إلى الله ، وسننه المقدرة التي لا يملك أحد تحوليها ولا تبديلها . والوحي وصدقه ، والحق الخالص الذي جاء به . والبعث واليوم الآخر والقسط في الجزاء . . .
هذه القواعد الرئيسية للعقيدة التي دار حولها سياق السورة كله ، وسيقت القصص لإيضاحها ، وضربت الأمثال لبيانها . .
ها هي ذي كلها تلخص في هذه الخاتمة ، ويكلف الرسول [ ص ] أن يعلنها للناس إعلاناً عاماً ، وأن يلقي إليهم بالكلمة الأخيرة الحاسمة : أنه ماض في خطته ، مستقيم على طريقته ، حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين .
( قل : يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ، ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ، وأمرت أن أكون من المؤمنين ) . .
قل : يا أيها الناس جميعاً ، وإن كان الذين يتلقون الخطاب إذ ذاك هم مشركي قريش ، إن كنتم في شك من أن ديني الذي أدعوكم إليه هو الحق ، فإن هذا لا يحولني عن يقيني ، ولا يجعلني أعبد آلهتكم التي تعبدونها من دون الله . .
( ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ) . .
أعبد الله الذي يملك آجالكم وأعماركم . وإبراز هذه الصفة لله هنا له قيمته وله دلالته ، فهو تذكير لهم بقهر الله فوقهم ، وانتهاء آجالهم إليه ، فهو أولى بالعبادة من تلك الآلهة التي لا تحيي ولا تميت . .
يقول تعالى لرسوله محمد ، صلوات الله وسلامه عليه : قل : يا أيها الناس إن كنتم في شك من صحة ما جئتكم من الدين الحنيف ، الذي أوحاه الله إلي ، فها أنا لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ، ولكن أعبد الله وحده لا شريك له ، وهو الذي يتوفاكم كما أحياكم ، ثم إليه مرجعكم ؛ فإن كانت آلهتكم التي تدعون من دون الله{[14446]} حقا ، فأنا لا أعبدها{[14447]} فادعوها فلتضرني ، فإنها لا تضر ولا تنفع ، وإنما الذي بيده الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له ، وأمرت أن أكون من المؤمنين .
{ قل يا أيها الناس } خطاب لأهل مكة . { إن كنتم في شك من ديني } وصحته . { فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم } فهذا خلاصة ديني اعتقادا وعملا فاعرضوها على العقل الصرف وانظروا فيها بعين الانصاف لتعلموا صحتها وهو أني لا اعبد ما تخلقونه وتعبدونه ، ولكن أعبد خالقكم الذي هو يوجدكم ويتوفاكم . وإنما خص التوفي بالذكر للتهديد . { وأُمرت أن أكون من المؤمنين } بما دل عليه العقل ونطق به الوحي ، وحذف الجار من أن يجوز أن يكون من المطرد مع أن وأن يكون من غيره كقوله :
أمرتُك الخير فافعل ما أُمرت به *** فقد تركتك ذا مال وذا نسبِ .
هذه الجملة متصلة المعنى بجملة : { قُل انظروا ماذا في السماوات والأرض } [ يونس : 101 ] ، إذ المقصود من النظر المأمور به هُنالك النظرُ للاستدلال على إثبات الوحدانية ، فإن جحودهم إيّاها هو الذي أقدمهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : إن الله بعثه بإثباتها وأبطل الإشراك ، فلما أمرهم بالنظر المؤدي إلى إثبات انفراده تعالى بالإلهية أعقبه بأن يخبرهم بأنهم إن استمروا على الشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابت على ما جاء به وأن دلائل صحة دينه بينة للناظرين . والمراد ب« الناس » في هذا الخطاب المشركون من أهل مكة ، أو جميع أمة الدعوة الذين لمَّا يستجيبوا للدعوة .
و ( في ) من قوله : { في شك } للظرفية المجازية المستعملة في التمكن تشبيهاً لتمكن الصفة بتمكن الظرف من المظروف من جهة الإحاطة .
وعلق الظرف بذات الدين ، والمراد الشك في حالة من أحواله وهي الحالة الملتبسة بهم أعني حالة حقيته .
و ( من ) في قوله : { من ديني } للابتداء المجازي ، أي شككٍ آتتٍ من ديني . وهو ابتداء يَؤول إلى معنى السببية ، أي إن كنتم شاكين شكاً سببه ديني ، أي يتعلق بحقيته ، لأن الشك يُحمل في كل مقام على ما يناسبه ، كقوله : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك } [ يونس : 94 ] . وقد تقدم آنفاً . وقوله : { وإن كنتم في ريب مما نَزّلنا على عبدنا } [ البقرة : 23 ] .
والشك في الدين هو الشك في كونه حقاً ، وكونِه من عند الله . وإنما يكون هذا الشك عند عدم تصور حقيقة هذا الدين بالكنه وعدم الاستدلال عليه ، فالشك في صدقه يستلزم الشك في ماهيته لأنهم لو أدركوا كنهه لمَا شكُّوا في حقيته .
وجملة : { فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله } واقعة موقع جواب الشرط ودالة عليه في المعنى . فالتقدير الجواب : فأنا على يقين من فساد دينكم ، فلا أتبعه ، فلا أعبد الذين تعبدونهم ولكن أعبد الله .
ولما كان مضمون هذه الجملة هو أصل دين الإسلام . فيجوز أن يكون في الآية معنى ثان ، أي إن كنتم في شك من معرفة هذا الدين فخلاصته أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكني أعبد الله وحده ، فيكون في معنى قوله تعالى : { قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون } [ الكافرون : 1 ، 2 ] ثم قوله : { لكم دينكم ولي دين } [ الكافرون : 6 ] فيتأتى في هذه الآية غرضان . فيكون المراد بالناس في قوله : { قل يأيها الناس } جميع أمة الدعوة الذين لم يُسلموا .
والذين يعبدونهم الأصنام . وعوملت الأصنام معاملة العقلاء فأطلق عليها اسم الموصول الذي لجماعة العقلاء مجاراة لما يعتقدونه فيها من العقل والتدبير . ونظير هذا في القرآن كثير .
واختيار صلة التوفّي هنا في نعت اسم الجلالة لما فيها من الدلالة على كمال التصرف في المخلوق فإن المشركين لم يبلغ بهم الإشراك إلى ادعاء أن الأصنام تُحيي وتميت .
واختيار ذلك من بين الصفات الخاصة بالله تعالى تعريض بتذكيرهم بأنهم مُعَرَّضون للموت فيقصّرون من طغيانهم .
والجمع بين نفي أن يَعبد الأصنام ، وبين إثبات أنه يعبد الله ؛ يقوم مقام صيغة القصر لو قال : فلا أعبد إلا اللّهَ ، فوجه العدول عن صيغة القصر : أنّ شأنَها أن يطوى فيها الطرف المنفي للاستغناء عنه بالطرف المثبَت لأنه المقصود . وذلك حين يكون الغرض الأصلي هو طرف الإثبات ، فأما إذا كان طرف النفي هو الأهم كما هنا وهو إبطال عبادة الأصنام أوّلاً عدل على صيغة القصر إلى ذكر صيغتي نفي وإثبات . فهو إطناب اقتضاه المقام ، كقول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو السموأل :
تسيل على حد الظُبَات نفوسنا *** وليست على غير الظُبات تسيل
و { أمرت } عطف على جملة : { فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله } .
و { أن أكون } متعلق ب { أمرت } بحذف حرف الجر . وهو الباء التي هي لتعدية فعل ( أمرت ) ، و ( أن ) مصدرية لأن نصب الفعل المضارع بعدها يعين أنها مصدرية ويمنع احتمال أنها تفسيرية .
وأريد بالمؤمنين عقائب هذا اللقب الذين آمنوا بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن والبعث فإذا أطلق لفظ المؤمنين انصرف إلى القوم الذين اتصفوا بالإسلام ، ولذلك لا يقدر للمؤمنين متعلق . وفي جعل النبي صلى الله عليه وسلم من جملة المؤمنين تشريف لهذا الجمع وتنويه به .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك الذين عجبوا أن أوحيت إليك إن كنتم في شكّ أيها الناس من ديني الذي أدعوكم إليه فلم تعلموا أنه حقّ من عند الله: فإني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله من الآلهة والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عني شيئا، فتشكوا في صحته. وهذا تعريض ولحن من الكلام لطيف. وإنما معنى الكلام: إن كنتم في شكّ من ديني، لا ينبغي لكم أن تشكوا فيه، وإنما ينبغي لكم أن تشكوا في الذي أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تعقل شيئا ولا تضرّ ولا تنفع، فأما ديني فلا ينبغي لكم أن تشكوا فيه، لأني أعبد الله الذي يقبض الخلق فيميتهم إذا شاء وينفعهم ويضرّ من يشاء وذلك أن عبادة من كان كذلك لا يستنكرها ذو فطرة صحيحة، وأما عبادة الأوثان فينكرها كل ذي لبّ وعقل صحيح.
وقوله:"وَلكِنْ أعْبُدُ اللّهَ الّذِي يَتَوَفّاكُمْ" يقول: ولكن أعبد الله الذي يقبض أرواحكم فيميتكم عند آجالكم. "وأُمِرْتُ أنْ أكُونَ مِنَ المُؤمِنِينِ "يقول: وهو الذي أمرني أن أكون من المصدّقين بما جاءني من عنده.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله: (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي): الذي أدين به، أو إن كنتم في شك من ديني الذي أدعوكم إليه.
(فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي: إذا شككتم في ديني الذي أدعوكم إليه كنتم شاكين في دينكم الذي أنتم عليه، فتركتم ديني الذي أنا عليه بالشك، ثم تدعونني إلى دينكم الذي أنتم عليه بالشك، يذكر سفههم بتركهم إجابته بالشك ودعائهم إياه بالشك إلى دينهم، لأن الشك يوجب الوقف في الأشياء، ولا يوجب الدعاء إليه إنما يوجب الدعاء إليه بطلان غيره لا الشك، هذا -واللَّه أعلم- محتمل وهو يخرج على وجهين أيضًا: أحدهما: على الإضمار، والآخر على المنابذة، والإضمار ما ذكرنا: إن كنتم في شك من ديني الذي أدين به وأدعوكم إليه فإني لا أشك فيه، هذا وجه الإضمار، ووجه المنابذة: يقول إن كنتم في شك مما أعبد وأدين به، فلا تعبدون ذلك ولا تدينون به، فأنا لا أعبد ما تعبدون ولا أدين ما تدينون؛ وهو كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ): والتوفي هو النهاية والغاية، في الإضرار، وما تعبدون من الأصنام دونه لا يملكون توفيكم ولا الإضرار بكم إن لم تعبدوها، يذكر سفههم ويلزمهم الحجة أن الذي يتوفاهم هو المستحق للعبادة لا الأصنام التي تعبدونها.
وقوله- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)...يحتمل الإيمان نفسه على ما نهي أن يكون من المشركين أو الشاكين؛ فعلى ذلك أمر أن يكون من المؤمنين المخلصين له المسلمين أنفسهم، واللَّه أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) أن يقول للخلق "يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني "فإن ديني أن "لا أعبد الذين تعبدون من دون الله" أي إن كنتم في شك مما أذهب إليه من مخالفتكم فإني أظهره لكم وأبرء مما أنتم عليه وأعرفكم ما أمرت به وهو أن أكون مؤمنا بالله وحده وأن أقيم وجهي للدين حنيفا.
إن قيل: لم قال "إن كنتم في شك من ديني" مع اعتقادهم بطلان دينه؟ قلنا عنه ثلاثة أجوبة: أحدها -أن يكون على وجه التقدير أي من كان شاكا في أمري وهو مصمم على أمره فهذا حكمه. والثاني- أنهم في حكم الشاك للاضطراب الذي يجدون نفوسهم عليه عند ورود الآيات. والثالث -أن فيهم الشاك فغلب ذكرهم. وإنما جعل جواب (إن كنتم في شك) (لا أعبد) وهو لا يعبد غير الله شكوا أو لم يشكوا، لأن المعنى لا تطمعوا أن تشككوني بشككم حتى أعبد غير الله كعبادتكم، كأنه قيل: إن كنتم في شك من ديني، فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله بشككم، ولكن أعبدالله الذي يتوفاكم أي الذي أحياكم ثم يقبضكم وهو الذي يحق له العبادة دون أوثانكم ودون كل شيء سواه.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم} يأخذ أرواحكم وفي هذا تهديد لهم لأن وفاة المشركين ميعاد عذابهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يا أَيُّهَا الناس} يا أهل مكة {إِن كُنتُمْ فِي شَكّ مّن دِينِي} وصحته وسداده، فهذا ديني فاسمعوا وصفه، واعرضوه على عقولكم، وانظروا فيه بعين الإنصاف، لتعلموا أنه دين لا مدخل فيه للشكّ، وهو أني لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون من هو إلهكم وخالقكم {ولكن أَعْبُدُ الله الذى يَتَوَفَّاكُمْ} وإنما وصفه بالتوفي، ليريهم أنه الحقيق بأن يخاف ويتقى، فيعبدون دونه ما لا يقدر على شيء {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} يعني أنّ الله أمرني بذلك، بما ركب فيّ من العقل، وبما أوحى إليّ في كتابه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
مخاطبة عامة للناس أجمعين إلى يوم القيامة يدخل تحتها كل من اتصف بالشك في دين الإسلام، وهذه الآية يتسق معناها بمحذوفات يدل عليها هذا الظاهر الوجيز، والمعنى: إن كنتم في شك من ديني، فأنتم لا تعبدون الله، فاقتضت فصاحة الكلام وإيجازه اختصار هذا كله، ثم صرح بمعبوده وخص من أوصافه {الذي يتوفاكم} لما فيها من التذكير للموت وقرع النفوس به، والمصير إلى الله بعده والفقد للأصنام التي كانوا يعتقدونها ضارة ونافعة.
اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل على أقصى الغايات وأبلغ النهايات، أمر رسوله بإظهار دينه وبإظهار المباينة عن المشركين لكي تزول الشكوك والشبهات في أمره وتخرج عبادة الله من طريقة السر إلى الإظهار فقال: {قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني}.
واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن هؤلاء الكفار ما كانوا يعرفون دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الخبر إنهم كانوا يقولون فيه قد صبأ وهو صابئ فأمر الله تعالى أن يبين لهم أنه على دين إبراهيم حنيفا مسلما لقوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا} ولقوله: {وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا} ولقوله: {لا أعبد ما تعبدون} والمعنى: أنكم إن كنتم لا تعرفون ديني فأنا أبينه لكم على سبيل التفصيل...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وفي ذكر هذا الوصف الوسط الدال على التوفي. دلالة على البدء وهو الخلق، وعلى الإعادة، فكأنه أشار إلى أنه يعبد الله الذي خلقكم ويتوفاكم ويعيدكم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تقدم الفطام عن الميل لمن يطلب الآيات، وكان طلبهم لها إنما هو على وجه الشك، وإن لم يكن على ذلك الوجه، فإنه فعل الشاك غالباً وتقدمت أجوبة لهم، وختم ذلك بتهديدهم وبشارة المؤمنين الموجبة لثباتهم، ناسبه كل المناسبة أن اتبعت بالأمر بجواب آخر دال على ثباته صلى الله عليه وسلم وأنه مظهر دينه رضي من رضي وسخط من سخط، لأن البيان قد وصل إلى غايته في قوله تعالى: {قل يا أيها الناس} أي الذين هم في حيز الاضطراب، لم ترقهم هممهم إلى رتبة الثبات {إن كنتم} أي كوناً هو كالجبلة منغمسين {في شك} كائن {من} جهة {ديني} تطلبون لنزوله -بعد تكفل العقل بالدلالة عليه- إنزال الآيات، فأنا لست على شك من صحة ديني وبطلان دينكم فاعرضوه على عقولكم وانظروا ما فيه من الحكم مستحضرين ما لدينكم من الوهي الذي تقدم بيانه في قوله تعالى {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق} [يونس: 59] ونحوه {فلا أعبد} أي الآن ولا في مستقبل الزمان {الذين تعبدون} أي الآن أو بعد الآن {من دون الله} أي الملك الأعظم لعدم قدرتهم على شيء من ضري، فلا تطمعوا في أنه يحصل لي شك بسبب حصول الشك لكم، فإذاً لا أعبد غير الله أصلاً.
ولما كان سلب عبادته عن غيره ليس صريحاً في إثباتها له قال: {ولكن أعبد الله} أي الجامع لأوصاف الكمال عبادة مستمرة؛ ثم وصفه بما يوجب الحذر منه ويدل على كمال قدرته {الذي يتوفاكم} بانتزاع أرواحكم التي لا شيء عندكم يعدلها. فلا تطمعون -عند إرادته لنزعها- في المحاولة لتوجيه دفاع عن ذلك. وفي هذا الوصف -مع ما فيه من الترهيب- إشارة إلى الدلالة على الإبداء والإعادة، فكأنه قيل: الذي أوجدكم من عدم كما أنتم به مقرون بعدمكم بعد هذا الإيجاد وأنتم صاغرون، فثبت قطعاً أنه قادر على إعادتكم بعد هذا الإعدام بطريق الأولي فاحذروه لتعبدوه كما أعبده فإنه قد أمرني بذلك وأنتم تعرفون غائلة الملك إذا خولف...
ولما قرر ما هو الحقيق بطريق العقل، أتبعه بما ورد من النقل بتأييده وإيجابه بقوله: {وأمرت} أي بأمر جازم ماض ممن لا أمر لأحد معه، وعظم المأمور به بجعله عمدة الكلام بإقامته مقام الفاعل فقال: {أن أكون} أي دائماً كوناً جبلياً، ولما كان السياق لما يحتمل الشك من الأمر الباطن، عبر بالإيمان الذي هو للقلب فقال: {من المؤمنين} أي الراسخين في هذا الوصف.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي} أي إن كنتم في شك من صحة ديني الذي دعوتكم إليه، أو من ثباتي واستقامتي عليه، وترجون تحويلي عنه.
{فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ} أي فلا أعبد في وقت من الأوقات، ولا حال من الأحوال، أحدا من الذين تعبدونهم غير الله، من ملك أو بشر، أو كوكب أو شجر أو حجر، مما اتخذتم من الأصنام والأوثان.
{ولَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوفَّاكُمْ} أي يقبضكم إليه ثم يبعثكم فيحاسبكم ويجزيكم، ولا يفعل أحد غيره هذا ولا يقدر عليه. وإنما قال: {وإن كنتم في شك من ديني} وشرطه يدل على الشك في شكهم، وهو صلى الله عليه وسلم لا يشك فيه، لأنه نزل دينه منزلة ما لا ينبغي أن يشكوا فيه لشدة ظهوره، وتألق نوره، كما بينا مثله في تفسير {وإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] الآية وما بعدها. ووصف الله بتوفيهم دون غيره من صفاته وأفعاله لتذكير كل منهم بما لا يشك فيه من عاقبة أمره، وأنه سيكون كما وعده في الدنيا والآخرة.
{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الذين وعدهم الله بالنجاة من عذابه، وينصرهم على أعدائهم وأعدائه، واستخلافهم في أرضه، وإنه لإيجاز بليغ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه خاتمة السورة التي تضمنت تلك الجولات حول العقيدة في مسائلها الرئيسية الكبيرة: توحيد الربوبية والقوامة والحاكمية، ونفي الشركاء والشفعاء، ورجعة الأمر كله إلى الله، وسننه المقدرة التي لا يملك أحد تحوليها ولا تبديلها. والوحي وصدقه، والحق الخالص الذي جاء به. والبعث واليوم الآخر والقسط في الجزاء... هذه القواعد الرئيسية للعقيدة التي دار حولها سياق السورة كله، وسيقت القصص لإيضاحها، وضربت الأمثال لبيانها.. ها هي ذي كلها تلخص في هذه الخاتمة، ويكلف الرسول [ص] أن يعلنها للناس إعلاناً عاماً، وأن يلقي إليهم بالكلمة الأخيرة الحاسمة: أنه ماض في خطته، مستقيم على طريقته، حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الجملة متصلة المعنى بجملة: {قُل انظروا ماذا في السماوات والأرض}، إذ المقصود من النظر المأمور به هُنالك النظرُ للاستدلال على إثبات الوحدانية، فإن جحودهم إيّاها هو الذي أقدمهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: إن الله بعثه بإثباتها وأبطل الإشراك، فلما أمرهم بالنظر المؤدي إلى إثبات انفراده تعالى بالإلهية أعقبه بأن يخبرهم بأنهم إن استمروا على الشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابت على ما جاء به وأن دلائل صحة دينه بينة للناظرين. والمراد ب« الناس» في هذا الخطاب المشركون من أهل مكة، أو جميع أمة الدعوة الذين لمَّا يستجيبوا للدعوة.
و (في) من قوله: {في شك}... أي إن كنتم شاكين شكاً سببه ديني، أي يتعلق بحقيته، لأن الشك يُحمل في كل مقام على ما يناسبه، كقوله: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك} [يونس: 94]. وقد تقدم آنفاً. وقوله: {وإن كنتم في ريب مما نَزّلنا على عبدنا} [البقرة: 23].
والشك في الدين هو الشك في كونه حقاً، وكونِه من عند الله. وإنما يكون هذا الشك عند عدم تصور حقيقة هذا الدين بالكنه وعدم الاستدلال عليه، فالشك في صدقه يستلزم الشك في ماهيته لأنهم لو أدركوا كنهه لمَا شكُّوا في حقيته.
وجملة: {فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله} واقعة موقع جواب الشرط ودالة عليه في المعنى. فالتقدير الجواب: فأنا على يقين من فساد دينكم، فلا أتبعه، فلا أعبد الذين تعبدونهم ولكن أعبد الله.
ولما كان مضمون هذه الجملة هو أصل دين الإسلام. فيجوز أن يكون في الآية معنى ثان، أي إن كنتم في شك من معرفة هذا الدين فخلاصته أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكني أعبد الله وحده، فيكون في معنى قوله تعالى: {قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون} [الكافرون: 1، 2] ثم قوله: {لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6] فيتأتى في هذه الآية غرضان. فيكون المراد بالناس في قوله: {قل يأيها الناس} جميع أمة الدعوة الذين لم يُسلموا.
والذين يعبدونهم الأصنام. وعوملت الأصنام معاملة العقلاء فأطلق عليها اسم الموصول الذي لجماعة العقلاء مجاراة لما يعتقدونه فيها من العقل والتدبير. ونظير هذا في القرآن كثير.
واختيار صلة التوفّي هنا في نعت اسم الجلالة لما فيها من الدلالة على كمال التصرف في المخلوق فإن المشركين لم يبلغ بهم الإشراك إلى ادعاء أن الأصنام تُحيي وتميت.
واختيار ذلك من بين الصفات الخاصة بالله تعالى تعريض بتذكيرهم بأنهم مُعَرَّضون للموت فيقصّرون من طغيانهم.
والجمع بين نفي أن يَعبد الأصنام، وبين إثبات أنه يعبد الله؛ يقوم مقام صيغة القصر لو قال: فلا أعبد إلا اللّهَ، فوجه العدول عن صيغة القصر: أنّ شأنَها أن يطوى فيها الطرف المنفي للاستغناء عنه بالطرف المثبَت لأنه المقصود. وذلك حين يكون الغرض الأصلي هو طرف الإثبات، فأما إذا كان طرف النفي هو الأهم كما هنا وهو إبطال عبادة الأصنام أوّلاً عدل على صيغة القصر إلى ذكر صيغتي نفي وإثبات...
و {أمرت} عطف على جملة: {فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله}.
و {أن أكون} متعلق ب {أمرت} بحذف حرف الجر. وهو الباء التي هي لتعدية فعل (أمرت)، و (أن) مصدرية لأن نصب الفعل المضارع بعدها يعين أنها مصدرية ويمنع احتمال أنها تفسيرية.
وأريد بالمؤمنين عقائب هذا اللقب الذين آمنوا بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن والبعث فإذا أطلق لفظ المؤمنين انصرف إلى القوم الذين اتصفوا بالإسلام، ولذلك لا يقدر للمؤمنين متعلق. وفي جعل النبي صلى الله عليه وسلم من جملة المؤمنين تشريف لهذا الجمع وتنويه به.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وذلك من خلال إشراقة الحياة في قلبي وروحي وفكري التي تطل بي على معرفة الله في أرحب أفقٍ، وأوسع طريق، وأعمق مجال. وبذلك يكون الداعية هنا، منسجماً مع دعوته من موقع الصدق والإيمان، قبل أن يدعو الآخرين إلى الانسجام معها من مواقع التصديق والاقتناع، فيكون قدوةً في حركة الإيمان في الفكر والروح، كما هو قدوةٌ في حركة الممارسة العملية في الحياة، فيلتقي الناس معه في إيمانه، كما يلتقون معه في حياته المنطلقة في شخصيته.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنّ التأكيد هنا على مسألة قبض الروح فقط من بين صفات الله، إمّا لأنّ الإِنسان إِذا كان يشك في كل شيء فإِنّه لا يستطيع أن يشك في الموت، أو لأنّ هذه الآية أرادت أن تنبه هؤلاء إِلى مسألة العذاب والعقوبات المهلكة التي أشير إِليها في الآيات السابقة، ولوحت بالتهديد بالغضب الإِلهي...