والجانب الثاني من التعريف بهذا الخلق من عباد الله تتضمنه الآية الثانية :
( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ، وللبسنا عليهم ما يلبسون ) . .
إنهم يقترحون أن ينزل الله - سبحانه - ملكا على رسوله [ ص ] يصدقه في دعواه . . ولكن الملائكة خلق آخر غير الخلق الإنساني . خلق ذو طبيعة خاصة يعلمها الله . وهم - كما يقول الله عنهم ، ونحن لا علم لنا بهم إلا مما يقوله عنهم الذي خلقهم - لا يستطيعون أن يمشوا في الأرض بهيئتهم التي خلقهم الله عليها ؛ لأنهم ليسوا من سكان هذا الكوكب ؛ ولكن لهم - مع ذلك - من الخصائص ما يجعلهم يتخذون هيئة البشر حين يؤدون وظيفة من وظائفهم في حياة البشر ؛ كتبليغ الرسالة ؛ أو التدمير على من يريد الله أن يدمر عليهم من المكذبين ؛ أو تثبيت المؤمنين ، أو قتال أعدائهم وقتلهم . . إلى آخر الوظائف التي يقص القرآن الكريم أنهم يكلفون بها من ربهم ، فلا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
فلو شاء الله أن يرسل ملكا يصدق رسوله ، لتبدى للناس في صورة رجل - لا في صورته الملائكية - وعندئذ يلتبس عليهم الأمر مرة أخرى ! وإذا كانوا يلبسون على أنفسهم الحقيقة ومحمد [ ص ] يقول لهم : أنا محمد الذي تعرفونه أرسلني الله إليكم لأنذركم وأبشركم . . ، فكيف يكون اللبس إذا جاءهم ملك - في صورة رجل لا يعرفونه - يقول لهم : أنا ملك أرسلني الله لأصدق رسوله . . بينما هم يرونه رجلا كأي منهم ؟ ! إنهم يلبسون الحقيقة البسيطة . فلو أرسل الله ملكا لجعله رجلا وللبس عليهم الحقيقة التي يلبسونها ؛ ولما اهتدوا قط إلى يقين !
وهكذا يكشف الله - سبحانه - جهلهم بطبيعة خلائقه ، كما كشف لهم جهلهم في معرفة سنته . . وذلك بالإضافة إلى كشف تعنتهم وعنادهم بلا مبرر ، وبلا معرفة ، وبلا دليل !
والحقيقة الثالثة التي يثيرها النص القرآني في الفكر : هي طبيعة التصور الإسلامي ومقومات هذا التصور - ومن بينها تلك العوالم الظاهرة والمغيبة التي علم الإسلام المسلم أن يدركها أولا ، وأن يتعامل معها أخيرا - ومن بين تلك العوالم المغيبة عالم الملائكة . . وقد جعل الإسلام الإيمان بها مقوما من مقومات الإيمان ، لا يتم الإيمان إلا به . . الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره . .
وقد سبق أن ذكرنا في هذه الظلال ونحن نتحدث عن مطلع سورة البقرة : ما ملخصه أن الإيمان بالغيب نقلة في حياة الإنسان ضخمة ؛ لأن خروجه من دائرة المحسوس الضيقة إلى إدراك أن هناك غيبا مجهولا يمكن وجوده ويمكن تصوره ، هو - بلا شك - نقلة من دائرة الحس الحيواني إلى مجال الإدراك الإنساني . وأن إغلاق هذا المجال دون الإدراك الإنساني نكسة به إلى الوراء ؛ وهو ما تحاوله المذاهب المادية الحسية ؛ وتدعوه " تقدمية " ! وسنتحدث - إن شاء الله - بشيء من التفصيل عن " الغيب " عندما نواجه في هذه السورة قوله تعالى : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) . . فنقصر الحديث هنا عن الملائكة ، من عالم الغيب .
لقد تضمن التصور الإسلامي عن عالم الغيب ، أن هناك خلقا من عباد الله اسمهم الملائكة . وأخبرنا القرآن الكريم عن قدر من صفاتهم ، يكفي لهذا التصور ، ويكفي للتعامل معهم في حدوده فهم خلق من خلق الله ، يدين لله بالعبودية ، وبالطاعة المطلقة ؛ وهم قريبون من الله - لا ندري كيف ولا ندري نوع القرب على وجه التحديد - : ( وقالوا : اتخذ الرحمن ولدا . سبحانه ! بل عباد مكرمون ، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ) . . ( ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) . .
وهم يحملون عرش الرحمن ، ويحفون به يوم القيامة كذلك - لا ندري كيف فليس لنا من علم إلا بقدر
ما كشف الله لنا في هذا الغيب - : ( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به . . . ) . . ( وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ، وقضى بينهم بالحق وقيل : الحمد لله رب العالمين ) . .
وهم خزنة الجنة وخزنة النار ، يستقبلون أهل الجنة بالسلام والدعاء ، ويستقبلون أهل النار بالتأنيب والوعيد : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا ، حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها ، وقال لهم خزنتها : ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا ؟ قالوا : بلى ! ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين : قيل : ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين . وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا ، حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها ، وقال لهم خزنتها : سلام عليكم ، طبتم فادخلوها خالدين . ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ) . .
وهم يتعاملون مع أهل الأرض في صور شتى :
فهم يقومون عليهم حفظة بأمر الله ؛ يتابعونهم ويسجلون عليهم كل ما يصدر عنهم ؛ ويتوفونهم إذا جاء أجلهم : ( وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ) . . ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفطونه . . من أمر الله . . ) . . ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) . .
وهم يبلغون الوحي إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم . . وقد أعلمنا الله - سبحانه - أن جبريل عليه السلام هو الذي يقوم منهم بهذه الوظيفة : ( ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده : أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ) . . ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) . . ووصفه - سبحانه - بأنه ذو مرة [ أي قوة ] وأن رسول الله [ ص ] رآه على هيئته الملائكية مرتين اثنتين ، بينما جاءه في صور شتى في مرات الوحي التالية : والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى . علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى . ولقد رآه نزلة أخرى . عند سدرة المنتهى . عندها جنة المأوى . إذ يغشى السدرة ما يغشى . ما زاغ البصر وما طغى . لقد رأى من آيات ربه الكبرى . . . . .
وهم يتنزلون على المؤمنين بالتثبيت والمدد والتأييد في معركتهم الكبرى مع الباطل والطاغوت : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) . . ( إذ تقول للمؤمنين : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين . بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين . وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به ، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم . . ) . . ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة : أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ، فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ) . .
وهم مشغولون بأمر المؤمنين ، يسبحون ربهم ، ويستغفرون للذين آمنوا من ذنوبهم ، ويدعون ربهم لهم دعاء المحب المشفق المشغول بشأن من يحب : لذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ، ويستغفرون للذين آمنوا ، ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ، وقهم عذاب الجحيم . ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ، إنك أنت العزيز الحكيم . وقهم السيئات ، ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته ، وذلك هو الفوز العظيم . . وهم كذلك يبشرون المؤمنين بالجنة عند قبض أرواحهم ، ويستقبلونهم بالبشرى في الآخرة ويسلمون عليهم في الجنة : ( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ، يقولون : سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) . . ( . . جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ، سلام عليكم بما صبرتم ، فنعم عقبى الدار ) . .
وهم يستقبلون الكافرين في جهنم بالتأنيب والوعيد - كما سبق - ويقاتلونهم في معارك الحق كذلك . وكذلك هم يستلون أرواحهم في تعذيب وتأنيب ومهانة : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم : أخرجوا أنفسكم ، اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون . . ( فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ! ) . .
ولقد كان لهم شأن مع البشر منذ نشأة أبيهم آدم ، كما أن هذه الصلة امتدت في طول الحياة وعرضها حتى مجال الحياة الباقية على النحو الذي أشرنا إليه في المقتطفات القرآنية السابقة . وشأن الملائكة مع النشأة الإنسانية يرد في مواضع شتى ، كالذي جاء في سورة البقرة : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة . قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ قال : إني أعلم ما لا تعلمون . وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة ، فقال : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . قالوا : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم . قال : يا آدم أنبئهم بأسمائهم ، فلما أنبأهم بأسمائهم قال : ألم أقل لكم : إني أعلم غيب السماوات والأرض ، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وإذ قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين . . ) . .
فهذا المجال الفسيح الذي تتصل فيه حياة البشر بهذا الملأ الأعلى ، هو فسحة في التصور ، وفسحة في إدراك حقائق هذا الوجود ، وفسحة في الشعور ، وفسحة في الحركة النفسية والفكرية ، يتيحها التصور الإسلامي للمسلم ؛ والقرآن يعرض عليه هذا المجال الفسيح ، وعالم الغيب المتصل بما هو فيه من عالم الشهود .
والذين يريدون أن يغلقوا على " الإنسان " هذا المجال . . ومجال عالم الغيب كله . . إنما يريدون به أقبح الشر . . يريدون أن يغلقوا عالمه على مدى الحس القريب المحدود ؛ ويريدون بذلك أن يزجوا به في عالم البهائم ؛ وقد كرمه الله بقوة التصور ؛ التي يملك بها أن يدرك ما لا تدركه البهائم ؛ وأن يعيش في بحبوحة من المعرفة ، وبحبوحة من الشعور ! وأن ينطلق بعقله وقلبه إلى مثل هذا العالم ؛ وأن يتطهر وهو يرف بكيانه كله في مثل هذا النور !
والعرب في جاهليتهم - على كل ما في هذه الجاهلية من خطأ في التصور - كانوا [ من هذا الجانب ] أرقى من أهل الجاهلية [ العلمية ! ] الحديثة ؛ الذين يسخرون من الغيب كله ! ويعدون الإيمان بمثل هذه العوالم الغيبية سذاجة غيرعلمية ! ويضعون " الغيبية " في كفة ، و " العلمية " في الكفة الأخرى ! وسنناقش عند مواجهة قوله تعالى : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو )هذه الدعوى التي لا سند لها من العلم ، كما أنه لا سند لها من الدين . أما هنا فنكتفي بكلمة مختصرة عن شأن الملائكة .
ونسأل : ماذا عند أدعياء العقلية " العلمية " ، من علمهم ذاته ، يحتم عليهم نفي هذا الخلق المسمى بالملائكة ، وإبعاده عن دائرة التصور والتصديق ؟ ماذا لديهم من علم يوجب عليهم ذلك ؟
إن علمهم لا يملك أن ينفي وجود حياة من نوع آخر غير الحياة المعروفة في الأرض في أجرام أخرى ، يختلف تركيب جوها وتختلف طبيعتها وظروفها عن جو الأرض وظروفها . . فلماذا يجزمون بنفي هذه العوالم ، وهملا يملكون دليلا واحدا على نفي وجودها ؟
إننا لا نحاكمهم إلى عقيدتنا ، ولا إلى قول الله سبحانه ! إنما نحاكمهم إلى " علمهم " الذي يتخذونه إلها . . فلا نجد إلا أن المكابرة وحدها - من غير أي دليل من هذا العلم - هي التي تقودهم إلى هذا الإنكار " غير العلمي " ! المجرد أن هذه العوالم غيب ؟ لقد نرى حين نناقش هذه القضية أن الغيب الذي ينكرونه هو الحقيقة الوحيدة التي يجزم هذا " العلم " اليوم بوجودها ؛ حتى في عالم الشهادة الذي تلمسه الأيدي وتراه العيون .
وقوله : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ } أي : ولو أنزلنا مع الرسول البَشَرِيّ ملكًا ، أي : لو بعثنا إلى البشر رسولا ملكيًا{[10576]} لكان على هيئة رجل لتُفْهَم{[10577]} مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه ، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما يلبسون{[10578]} على أنفسهم في قبول رسالة البشري ، كما قال تعالى : { قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا } [ الإسراء : 95 ] ، فمن رحمة الله{[10579]} تعالى بخلقه أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق رسلا منهم ، ليدعو بعضهم بعضا ، وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض في المخاطبة والسؤال ، كما قال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } الآية [ آل عمران : 164 ] .
قال الضحاك ، عن ابن عباس في [ قوله : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا } ]{[10580]} الآية . يقول : لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل ؛ لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ } أي : ولخلطنا عليهم ما يخلطون . وقال الوالبي عنه : ولشبهنا عليهم .
{ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون } جواب ثان إن جعل الهاء للمطلوب ، وإن جعل للرسول فهو جواب اقتراح ثان ، فإنهم تارة يقولون لولا أنزل عليه ملك ، وتارة يقولون لو شاء ربنا لأنزل ملائكة . والمعنى ولو جعلنا قرينا لك ملكا يعاينونه أو الرسول ملكا لمثلناه رجلا كما مثل جبريل في صورة دحية الكلبي ، فإن القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك في صورته ، وإنما رآهم كذلك الأفراد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوتهم القدسية ، وللبسنا جواب محذوف أي ولو جعلناه رجلا للبسنا أي : لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم فيقولون ما هذا إلا بشر مثلكم . وقرئ " لبسنا " بلام واحدة و " لبسنا " بالتشديد للمبالغة .
{ ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } فإن أهل التأويل مجمعون أن ذلك لأنهم لم يكونوا يطيقون رؤية الملك في صورته ، فالأولى في قول { لقضي الأمر } أي لماتوا من هول رؤيته ، { ينظرون } معناه يؤخرون ، والنظرة التأخير ، وقوله عز وجل : { ولو جعلناه } الآية المعنى : أنَّا لو جعلناه ملكاً لجعلناه ولا بد في خلق رجل لأنهم لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته ، وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد .
قال القاضي أبو محمد : ومما يؤيد هذا المعنى الحديث الوارد عن الرجلين اللذين صعدا على الجبل يوم بدر ليريا ما يكون في حرب النبي عليه السلام للمشركين ، فسمعا حس الملائكة وقائلاً يقول في السماء ، أقدم حيزوم{[4829]} فمات أحدهما لهول ذلك ، فكيف برؤية ملك في خلقته ، ولا يعارض هذا برؤية النبي عليه السلام لجبريل وغيره في صورهم ، لأن النبي عليه السلام أعطي قوة غير هذه كلها{[4830]} صلى الله عليه وسلم ، { وللبسنا } أي لخلطنا عليهم ما يخلطون به على أنفسهم وعلى ضعفتهم ، أي : لفعلنا لهم في ذلك فعلاً ملبساً ُيَطِّرُق لهم{[4831]} إلى أن يلبسوا به ، وذلك لا يحسن ، ويحتمل الكلام مقصداً آخر ، أي «للبسنا » نحن عليهم كما «يلبسون » هم على ضعفتهم فكنا ننهاهم عن التلبيس ونفعله بهم ، ويقال : لبس الرجل الأمر يلبسه لبساً إذا خلطه ، وقرأ ابن محيصن «ولَبّسنا » بفتح اللام وشد الباء ، وذكر بعض الناس في هذه الآية : أنها نزلت في أهل الكتاب ، وسياق الكلام ومعانيه يقتضي أنها في كفار العرب .