إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلَوۡ جَعَلۡنَٰهُ مَلَكٗا لَّجَعَلۡنَٰهُ رَجُلٗا وَلَلَبَسۡنَا عَلَيۡهِم مَّا يَلۡبِسُونَ} (9)

{ وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً } على أن الضميرَ الأول للتقدير المفهومِ من فحوى الكلام بمعونة المقام ، وإنما لم يجعل للملك المذكور قبله بأن يعكس ترتيب المفعولين ويقال : ولو جعلناه نذيراً لجعلناه رجلاً مع فهم المراد منه أيضاً لتحقيق أن مناطَ إبرازِ الجعل الأول في معرِض الفرض والتقدير ، ومدارَ استلزامِه الثانيَ إنما هو مَلَكيةُ النذير ، لا نذيريّة المَلَك ، وذلك لأن الجعل حقُّه أن يكون مفعولُه الأولُ مبتدأ والثاني خبراً ، لكونه بمعنى التصييرِ المنقول من ( صار ) الداخِلِ على المبتدأ والخبر . ولا ريب في أن مصَبّ الفائدة ومدارَ اللزوم بين طَرَفي الشرطية هو محمولُ المقدَّمِ لا موضوعُه ، فحيث كانت امتناعيةً أريد بها بيانُ انتفاءِ الجعْلِ الأول لاستلزامه المحذور الذي هو الجعل الثاني وجب أن يُجعلَ مدارُ الاستلزام في الأول مفعولاً ثانياً لا محالة ، ولذلك جَعَل مُقابِلَه في الجعل الثاني كذلك ، إبانةً لكمال التنافي بينهما الموجبِ لانتفاء الملزوم ، والضمير الثاني للملك لا لما رجع إليه الأول . والمعنى : لو جعلنا النذيرَ الذي اقترحوه ملكاً لمثّلنا ذلك المَلكَ رجلاً لما مر من عدم استطاعةِ الآحاد لمُعاينَةِ الملك على هيكله ، وفي إيثار ( رجلاً ) على ( بشراً ) إيذانٌ بأن الجعلَ بطريق التمثيل لا بطريق قلب الحقيقة ، وتعيينٌ لما يقع به التمثيل ، وقوله تعالى : { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم } عطفٌ على جواب لو مبنيّ على الجواب الأول ، وقرئ بحذف لام الجواب اكتفاءً بما في المعطوف عليه ، يقال : لَبَستُ الأمرَ على القوم ألبِسُه إذا شبّهتُه وجعلته مُشكِلاً عليهم ، وأصله الستر بالثوب ، وقرئ الفعلان بالتشديد للمبالغة ، أي ولَخلّطنا عليهم بتمثيله رجلاً { ما يَلْبِسُونَ } على أنفسهم حينئذ بأن يقولوا له : إنما أنت بشرٌ ولست بمَلَك ، ولو استُدل على مَلَكيته بالقرآن المعجزِ الناطقِ بها أو بمعجزاتٍ أُخَرَ غيرِ مُلجئةٍ إلى التصديق لكذّبوه كما كذبوا النبي عليه الصلاة والسلام ، ولو أظهر لهم صورته الأصلية لزم الأمر الأول ، والتعبير عن تمثيله تعالى رجلاً باللَّبْس إما لكونه في صورة اللبس ، أو لكونه سبباً لِلَبْسِهم ، أو لوقوعه في صُحبته بطريق المشاكلة ، وفيه تأكيدٌ لاستحالة جعل النذيرِ مَلَكاً كأنه قيل : لو فعلناه لفعلنا ما لا يليق بشأننا من لَبْس الأمر عليهم ، وقد جُوِّز أن يكونَ المعنى وللبسنا عليهم حينئذ مثلَ ما يلبِسون على أنفسهم الساعةَ في كفرهم بآيات الله البينة .