المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَلَوۡ جَعَلۡنَٰهُ مَلَكٗا لَّجَعَلۡنَٰهُ رَجُلٗا وَلَلَبَسۡنَا عَلَيۡهِم مَّا يَلۡبِسُونَ} (9)

{ ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } فإن أهل التأويل مجمعون أن ذلك لأنهم لم يكونوا يطيقون رؤية الملك في صورته ، فالأولى في قول { لقضي الأمر } أي لماتوا من هول رؤيته ، { ينظرون } معناه يؤخرون ، والنظرة التأخير ، وقوله عز وجل : { ولو جعلناه } الآية المعنى : أنَّا لو جعلناه ملكاً لجعلناه ولا بد في خلق رجل لأنهم لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته ، وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد .

قال القاضي أبو محمد : ومما يؤيد هذا المعنى الحديث الوارد عن الرجلين اللذين صعدا على الجبل يوم بدر ليريا ما يكون في حرب النبي عليه السلام للمشركين ، فسمعا حس الملائكة وقائلاً يقول في السماء ، أقدم حيزوم{[4829]} فمات أحدهما لهول ذلك ، فكيف برؤية ملك في خلقته ، ولا يعارض هذا برؤية النبي عليه السلام لجبريل وغيره في صورهم ، لأن النبي عليه السلام أعطي قوة غير هذه كلها{[4830]} صلى الله عليه وسلم ، { وللبسنا } أي لخلطنا عليهم ما يخلطون به على أنفسهم وعلى ضعفتهم ، أي : لفعلنا لهم في ذلك فعلاً ملبساً ُيَطِّرُق لهم{[4831]} إلى أن يلبسوا به ، وذلك لا يحسن ، ويحتمل الكلام مقصداً آخر ، أي «للبسنا » نحن عليهم كما «يلبسون » هم على ضعفتهم فكنا ننهاهم عن التلبيس ونفعله بهم ، ويقال : لبس الرجل الأمر يلبسه لبساً إذا خلطه ، وقرأ ابن محيصن «ولَبّسنا » بفتح اللام وشد الباء ، وذكر بعض الناس في هذه الآية : أنها نزلت في أهل الكتاب ، وسياق الكلام ومعانيه يقتضي أنها في كفار العرب .


[4829]:- حيزوم: فرس جبريل عليه السلام، وأقدم بفتح الهمزة هو أمر بالإقدام، وهو التقدم في الحرب. والإقدام الشجاعة، وقد تكسر همزة إقدم، ويكون أمرا بالتقدم لا غير، والصحيح الفتح من أقدم. قاله ابن الأثير في كتابه: "النهاية في غريب الحديث والأثر".
[4830]:- يريد: غير قوة البشر، وقد وضح ذلك أبو حيان في "البحر" حين نقل عبارة ابن عطية هذه.
[4831]:- يريد: يسهّل لهم السير في هذا الأمر، يقال: طرّق طريقا بمعنى: سهّله حتى طرقه المارة، وطرّق له: جعل له طريقا- "المعجم الوسيط".