ولقد كان هؤلاء المنفقون وهم كارهون ذوي مال وذوي أولاد ، وذوي جاه في قومهم وشرف . ولكن هذا كله ليس بشيء عند اللّه . وكذلك يجب ألا يكون شيئاً عند الرسول والمؤمنين . فما هي بنعمة يسبغها اللّه عليهم ليهنأوا بها ، إنما هي الفتنة يسوقها اللّه إليهم ويعذبهم بها :
( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ، إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ، وتزهق أنفسهم وهم كافرون ) .
إن الأموال والأولاد قد تكون نعمة يسبغها اللّه على عبد من عباده ، حين يوفقه إلى الشكر على النعمة ، والإصلاح بها في الأرض ، والتوجه بها إلى اللّه ، فإذا هو مطمئن الضمير ، ساكن النفس ، واثق من المصير . كلما أنفق احتسب وشعر أنه قدم لنفسه ذخراً ، وكلما أصيب في ماله أو بنيه احتسب ، فإذا السكينة النفسية تغمره . والأمل في اللّه يسري عنه . . وقد تكون نقمة يصيب اللّه بها عبداً من عباده ، لأنه يعلم من أمره الفساد والدخل ، فإذا القلق على الأموال والأولاد يحول حياته جحيماً ، وإذا الحرص عليها يؤرقه ويتلف أعصابه ، وإذا هو ينفق المال حين ينفقه فيما يتلفه ويعود عليه بالأذي ، وإذا هو يشقى بأبنائه إذا مرضوا ويشقى بهم إذا صحوا . وكم من الناس يعذبون بأبنائهم لسبب من الأسباب !
وهؤلاء الذين كانوا على عهد الرسول - [ ص ] - وأمثالهم في كل زمان ، يملكون الأموال ويرزقون الأولاد ، يعجب الناس ظاهرها ، وهي لهم عذاب على نحو من الأنحاء . عذاب في الحياة الدنيا ، وهم - بما علم اللّه من دخيلتهم - صائرون إلى الهاوية . هاوية الموت على الكفر والعياذ باللّه من هذا المصير .
والتعبير( وتزهق أنفسهم ) يلقي ظل الفرار لهذه النفوس أو الهلاك . ظلاً مزعجاً لا هدوء فيه ولا اطمئنان ، فيتسق هذا الظل مع ظل العذاب في الحياة الدنيا بالأموال والأولاد . فهو القلق والكرب في الدنيا والآخرة . وما يحسد أحد على هذه المظاهر التي تحمل في طياتها البلاء !
يقول تعالى لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه : { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ } كما قال تعالى : { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [ طه : 131 ]
وقال : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 ، 56 ]
وقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قال الحسن البصري : بزكاتها ، والنفقة منها في سبيل الله .
وقال قتادة : هذا من المقدم والمؤخر ، تقديره : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ، [ في الحياة الدنيا ]{[13551]} إنما يريد الله ليعذبهم بها [ في الآخرة ]{[13552]} واختار ابن جرير قول الحسن ، وهو القول القَوي الحسن .
وقوله : { وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } أي : ويريد أن يميتهم حين يميتهم على الكفر ، ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم ، عياذا بالله من ذلك ، وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فيما هم فيه .
{ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } فإن ذلك استدراج ووبال لهم كما قال . { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدائد والمصائب . { وتزهق أنفسهم وهم كافرون } فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع عن النظر في العاقبة فيكون ذلك استدراجا لهم . وأصل الزهوق الخروج بصعوبة .
وقوله تعالى : { فلا تعجبك أموالهم } الآية ، حقر هذا اللفظ شأن المنافقين وعلل إعطاء الله لهم الأموال والأولاد بإرادته تعذيبهم بها ، واختلف في وجه التعذيب فقال قتادة : في الكلام تقديم وتأخير ، فالمعنى «فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة » ، وقال الحسن : الوجه في التعذيب أنه بما ألزمهم فيها من أداء الزكاة والنفقة في سبيل الله .
قال القاضي أبو محمد : فالضمير في قوله { بها } عائد في هذا القول على «الأموال » فقط ، وقال ابن زيد وغيره : «التعذيب » هو بمصائب الدنيا ورزاياها هي لهم عذاب إذ لا يؤجرون عليها ، وهذا القول وإن كان يستغرق قول الحسن فإن قول الحسن يتقوى تخصيصه بأن تعذيبهم بإلزام الشريعة أعظم من تعذيبهم بسائر الرزايا وذلك لاقتران الذلة والغلبة بأوامر الشريعة لهم قوله : { وتزهق أنفسهم } ، يحتمل أن يريد ويموتون على الكفر ، ويحتمل أن يريد «وتزهق أنفسهم » من شدة التعذيب الذي ينالهم{[5704]} ، وقوله { وهم كافرون } جملة في موضع الحال على التأويل الأول ، وليس يلزم ذلك على التأويل الثاني .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.