84- ولقد أرسلنا إلى قوم مدين{[96]} أخاهم في النسب والمودة والتراحم شُعيبا ، قال لهم : يا قوم اعبدوا الله - وحده - ليس لكم من يستحق العبادة غيره ، ولا تنقصوا المكيال والميزان حين تبيعون لغيركم ما يُكال ويُوزن ، إني أراكم يرجى منكم الخير ، بالشكر والطاعة لله ، وإعطاء الناس حقوقهم كاملة ، وإني أخاف عليكم إذا لم تشكروا خيره وتطيعوا أمره ، أن يحل بكم عذاب يوم لا تستطيعون أن تفلتوا من أهواله ، لأنها تحيط بالمعذبين فيها فلا يجدون سبيلا إلى الخلاص منها .
( وإلى مدين أخاهم شعيبا . قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . . ) .
إنها الدينونة لله وحده قاعدة العقيدة الأولى . وقاعدة الحياة الأولى . وقاعدة الشريعة الأولى . وقاعدة المعاملات الأولى . . القاعدة التي لا تقوم بغيرها عقيدة ولا عبادة ولا معاملة . .
( ولا تنقصوا المكيال والميزان ، إني أراكم بخير ، وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ، ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين . بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين . وما أنا عليكم بحفيظ ) . .
والقضية هنا هي قضية الأمانة والعدالة - بعد قضية العقيدة والدينونة - أو هي قضية الشريعة والمعاملات التي تنبثق من قاعدة العقيدة والدينونة . . فقد كان أهل مدين - وبلادهم تقع في الطريق من الحجاز إلى الشام - ينقصون المكيال والميزان ، ويبخسون الناس أشياءهم ، أي ينقصونهم قيمة أشيائهم في المعاملات . وهي رذيلة تمس نظافة القلب واليد ، كما تمس المروءة والشرف . كما كانوا بحكم موقع بلادهم يملكون أن يقطعوا الطريق على القوافل الذاهبة الآيبة بين شمال الجزيرة وجنوبها . ويتحكموا في طرق القوافل ويفرضوا ما يشاءون من المعاملات الجائزة التي وصفها الله في هذه السورة .
ومن ثم تبدو علاقة عقيدة التوحيد والدينونة لله وحده بالأمانة والنظافة وعدالة المعاملة وشرف الأخذ والعطاء ، ومكافحة السرقة الخفية سواء قام بها الأفراد أم قامت بها الدول . فهي بذلك ضمانة لحياة إنسانية أفضل ، وضمانة للعدل والسلام في الأرض بين الناس . وهي الضمانة الوحيدة التي تستند إلى الخوف من الله وطلب رضاه ، فتستند إلى أصل ثابت ، لا يتأرجح مع المصالح والأهواء . .
إن المعاملات والأخلاق لا بد أن تستند إلى أصل ثابت لا يتعلق بعوامل متقلبة . . هذه هي نظرة الإسلام . وهي تختلف من الجذور مع سائر النظريات الاجتماعية والأخلاقية التي ترتكن إلى تفكيرات البشر وتصوراتهم وأوضاعهم ومصالحهم الظاهرة لهم !
وهي حين تستند إلى ذلك الأصل الثابت ينعدم تأثرها بالمصالح المادية القريبة ؛ كما ينعدم تأثرها بالبيئة والعوامل السائدة فيها .
فلا يكون المتحكم في أخلاق الناس وقواعد تعاملهم من الناحية الأخلاقية هو كونهم يعيشون على الزراعة أو يعيشون على الرعي أو يعيشون على الصناعة . . إن هذه العوامل المتغيرة تفقد تأثيرها في التصور الأخلاقي وفي قواعد المعاملات الأخلاقية ، حين يصبح مصدر التشريع للحياة كلها هو شريعة الله ؛ وحين تصبح قاعدة الأخلاق هي إرضاء الله وانتظار ثوابه وتوقي عقابه ، وكل ما يهرف به أصحاب المذاهب الوضيعة من تبعية الأخلاق للعلاقات الاقتصادية وللطور الاجتماعي للأمة يصبح لغوا في ظل النظرة الأخلاقية الإسلامية !
( ولا تنقصوا المكيال والميزان . إني أراكم بخير ) . .
فقد رزقكم الله رزقا حسنا ، فلستم في حاجة إلى هذه الدناءة لتزيدوا غنى ، ولن يفقركم أو يضركم أن لا تنقصوا المكيال والميزان . . بل إن هذا الخير ليهدده ما أنتم عليه من غش في المعاملة ، أو غصب في الأخذ والعطاء .
( وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ) . .
إما في الآخرة عند الله . وإما في هذه الأرض حين يؤتي هذا الغش والغصب ثمارهما المرة في حالة المجتمع وفي حركة التجارة . وحين يذوق الناس بعضهم بأس بعض ، في كل حركة من الحركات اليومية وفي كل تعامل وفي كل احتكاك .
يقول تعالى : ولقد أرسلنا إلى مدين - وهم قبيلة من العرب ، كانوا يسكنون بين الحجاز والشام ، قريبًا من بلاد معان ، في بلد يعرف بهم ، يقال لها " مدين " فأرسل الله إليهم شعيبا ، وكان من أشرفهم{[14857]} نسبًا . ولهذا قال : { أَخَاهُمْ شُعَيْبًا } يأمرهم بعبادة الله تعالى وحده ، وينهاهم عن التطفيف{[14858]} في المكيال والميزان { إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ } أي : في معيشتكم ورزقكم فأخاف أن تُسلَبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله ، { وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ } {[14859]} أي : في الدار الآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنّيَ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مّحِيطٍ } .
يقول تعالى ذكره : وَ أرسلنا إلى ولد مَدْيَنَ أخاهُمْ شُعَيْبا ، فلما أتاهم ، قالَ : { يا قَوْمِ اعْبُدوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غيرُهُ } . يقول : أطيعوه ، وتَذَللّوا له بالطاعة لما أمركم به ونهاكم عنه ، ما لَكُمْ مِنْ إلهٍ غَيْرُهُ . يقول : ما لكم من معبود سواه يستحق عليكم العبادة غيره . { وَلا تَنْقصُوا المِكْيالَ والمِيزانَ } . يقول : ولا تنقصوا الناس حقوقهم في مكيالكم وميزانكم ، إنّي أرَاكمْ بِخَيْرٍ .
واختلف أهل التأويل في الخير الذي أخبر الله عن شعيب أنه قال لمدين : إنه يراهم به ؛ فقال بعضهم : كان ذلك رُخْص السعر وحذرهم غَلاءه . ذكر من قال ذلك :
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا عبد الله بن داود الواسطي ، قال : حدثنا محمد بن موسى ، عن الذيال بن عمرو ، عن ابن عباس : إنّي أرَاكُمْ بِخَيْرٍ ، قال : رُخْص السعر . { وإنّي أخافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ } ، قال : غلاء سعر .
حدثني أحمد بن عليّ النصري ، قال : ثني عبد الصمد بن عبد الوراث ، قال : حدثنا صالح بن رستم ، عن الحسن ، وذكر قوم شعيب ، قال : { إنّي أرَاكُمْ بِخَيْرٍ } ، قال : رُخْص السعر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن أبي عامر الخراز ، عن الحسن ، في قوله : { إنّي أرَاكُمْ بِخَيْرٍ } ، قال : الغنى ورُخْص السعر .
وقال آخرون : عنى بذلك : إني أرى لكم مالاً وزينة من زين الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { إنّي أرَاكُمْ بِخَيْر } ، قال : يعني : خير الدنيا وزينتها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّي أرَاكُمْ بِخَيْرٍ } : أبصر عليهم قِشْرا من قِشْر الدنيا وزينتها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { إنّي أرَاكُمْ بِخَيْرٍ } ، قال : في دنياكم ، كما قال الله تعالى : إنْ تَرَكَ خَيْرا سماه خيرا ؛ لأن الناس يسمون الماء خيرا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما أخبر الله عن شعيب أنه قال لقومه ، وذلك قوله : { إنّي أرَاكُمْ بِخَيْرٍ } ، يعني : بخير الدنيا . وقد يدخل في خير الدنيا : المال وزينة الحياة الدنيا ورخص السعر ، ولا دلالة على أنه عنى بقيله ذلك : بعض خيرات الدنيا دون بعض ، فذلك على كلّ معاني خيرات الدنيا التي ذكر أهل العلم أنهم كانوا أوتوها . وإنما قال ذلك شعيب ، لأن قومه كانوا في سعة من عيشهم ورخص من أسعارهم كثيرة أموالهم ، فقال لهم : لا تنقصوا الناس حقوقهم في مكاييلكم وموازينكم ، فقد وسّع الله عليكم رزقكم ، وَإنّي أخافُ عَليكُم بمخالفتكم أمر الله وبخسكم الناس أموالهم في مكاييلكم وموازينكم عذابَ يومٍ مُحيطٍ . يقول : أن ينزل بكم عذاب يوم محيط بكم عذابه . فجعل المحيط نعتا لليوم ، وهو من نعت العذاب ، إذ كان مفهوما معناه ، وكان العذاب في اليوم ، فصار كقولهم جُبّتك محترقة .
قوله : { وإلى مدين أخاهم شعيباً } إلى قوله { من إله غيره } نظير قوله : { وإلى ثمود أخاهم صالحاً } [ هود : 61 ] الخ .
أحدها : إصلاح الاعتقاد ، وهو من إصلاح العقول والفكر .
وثالثها : صلاح الأعمال والتصرفات في العالم بأن لا يفسدوا في الأرض .
ووسط بينهما الثاني : وهو شيء من صلاح العمل خص بالنهي لأنّ إقدامهم عليه كان فاشياً فيهم حتّى نسوا ما فيه من قبح وفساد ، وهذا هو الكف عن نقص المكيال والميزان .
فابتدأ بالأمر بالتوحيد لأنه أصل الصلاح ثم أعقبه بالنهي عن مظلمة كانت متفشية فيهم ، وهي خيانة المكيال والميزان . وقد تقدّم ذلك في سورة الأعراف . وهي مفسدة عظيمة لأنها تجمع خصلتي السرقة والغدْر ، لأن المكتال مسترسل مستسلم . ونهاهم عن الإفساد في الأرض وعن نقص المكيَال والميزان فعزّزه بالأمر بضده وهو إيفاؤهما .
وجملة { إني أراكم بخير } تعليل للنهي عن نقص المكيال والميزان . والمقصود من { إني أراكم بخير } أنكم بخير . وإنما ذكر رؤيته ذلك لأنها في معنى الشهادة عليهم بنعمة الله عليهم فحقّ عليهم شكرها . والباء في { بخير } للملابسة .
والخير : حسن الحالة . ويطلق على المال كقوله : { إن ترك خيراً } [ البقرة : 180 ] . والأوْلى حمله عليه هنا ليكون أدخل في تعليل النهي ، أي أنكم في غنى عن هذا التطفيف بما أوتيتم من النعمة والثروة . وهذا التعليل يقتضي قبْح ما يرتكبونه من التطفيف في نظر أهل المروءة ويقطع منهم العذر في ارتكابه . وهذا حثّ على وسيلة بقاء النعمة .
ثم ارتقى في تعليل النهي بأنه يخاف عليهم عذاباً يحل بهم إمّا يوم القيامة وإما في الدنيا . ولصلوحيته للأمرين أجمله بقوله : { عذاب يوم محيط } . وهذا تحذير من عواقب كفران النعمة وعصيان وَاهِبِهَا .
و { محيط } وصف ل { يوم } على وجه المجاز العقلي ، أي محيط عذابه ، والقرينة هي إضافة العذاب إليه .