ثم ينتقل بهم من الإزجاء الرخي للاضطراب العتي . حين ينسى الركب في الفلك المتناوح بين الأمواج كل قوة وكل سند وكل مجير إلا الله ، فيتجهون إليه وحده في لحظة الخطر لا يدعون أحدا سواه : ( ضل من تدعون إلا إياه ) . .
ولكن الإنسان هو الإنسان ، فما إن تنجلي الغمرة ، وتحس قدماه ثبات الأرض من تحته حتى ينسى لحظة الشدة ، فينسى الله ، وتتقاذفه الأهواء وتجرفه الشهوات ، وتغطي على فطرته التي جلاها الخطر : ( فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ) إلا من اتصل قلبه بالله فأشرق واستنار .
يخبر تعالى أنه إذا مس الناس ضرّ ، دعوه منيبين إليه ، مخلصين له الدين ؛ ولهذا قال : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } أي : ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله ، كما اتفق لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة ، فذهب هاربًا ، فركب في البحر ليدخل الحبشة ، فجاءتهم{[17661]} ريح عاصف ، فقال القوم بعضهم لبعض : إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعو الله وحده . فقال عكرمة في نفسه : والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره ، فإنه لا ينفع في البر غيره ، اللهم لك عليّ عهد ، لئن أخرجتني منه لأذهبن فَأضعن{[17662]} يدي في يديه{[17663]} ، فلأجدنه رءوفًا رحيمًا . فخرجوا من البحر ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن{[17664]} إسلامه ، رضي الله عنه وأرضاه .
وقوله : { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ } أي : نسيتم ما عرفتم من توحيده في البحر ، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له .
{ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا } أي : سَجِيَّتُه هذا ، ينسى النعم ويجحدها ، إلا من عصم الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا مَسّكُمُ الْضّرّ فِي الْبَحْرِ ضَلّ مَن تَدْعُونَ إِلاّ إِيّاهُ فَلَمّا نَجّاكُمْ إِلَى الْبَرّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً } .
يقول تعالى ذكره : وإذا نالتكم الشدّة والجهد في البحر ضلّ من تدعون : يقول : فقد تمّ من تدعون من دون الله من الأنداد والاَلهة ، وجار عن طريقكم فلم يغثكم ، ولم تجدوا غير الله مغيثا يغيثكم دعوتموه ، فلما دعوتموه وأغاثكم ، وأجاب دعاءكم ونجاكم من هول ما كنتم فيه في البحر ، أعرضتم عما دعاكم إليه ربكم من خلع الأنداد ، والبراءة من الاَلهة ، وإفراده بالألوهة كفرا منكم بنعمته وكانَ الإنْسانُ كَفُورا يقول : وكان الإنسان إذا جحد لنعم ربه .
و { الضر } لفظ يعم خوف الغرق ، والإمساك في المشي ، وأهول حالاته : اضطرابه وتموجه . وقوله { ضل } معناه تلف وفقد ، وهي عبارة تحقير لمن يدعي إلهاً من دون الله ، والمعنى في هذه الآية أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم أنها شافعة ، وأن لها فضلاً ، وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علماً لا يقدر على مدافعته أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام ، فوفقهم الله من ذلك على حالة البحر . وقوله { أعرضتم } أي لم تفكروا في صنع الله وقت حاجتكم إليه ، وقوله { كفوراً } أي بالنعم . و { الإنسان } هنا للجنس ، وكل أحد لا يكاد يؤدي شكر الله تعالى كما يجب ، وقال الزجاج { الإنسان } يراد به الكفار ، وهذا غير بارع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.