وإلى جانب التحذير والإنذار يفتح باب التوبة لمن يخطئ ويرجع :
( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ) . .
والتوبة ليست كلمة تقال ، إنما هي عزيمة في القلب ، يتحقق مدلولها بالإيمان والعمل الصالح . ويتجلى أثرها في السلوك العملي في عالم الواقع . فإذا وقعت التوبة وصح الإيمان ، وصدقه العمل فهنا يأخذ الإنسان في الطريق ، على هدى من الإيمان ، وعلى ضمانة من العمل الصالح . فالاهتداء هنا ثمرة ونتيجة للمحاولة والعمل . .
وإلى هنا ينتهي مشهد النصر والتعقيب عليه . فيسدل الستار حتى يرفع على مشهد المناجاة الثانية إلى جانب الطور الأيمن . .
وقوله : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا } أي : كل من تاب إليّ تبتُ عليه من أي ذنب كان ، حتى إنه تعالى تاب{[19456]} على من عبد العجل من بني إسرائيل .
وقوله : { تَابَ } أي : رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو نفاق أو معصية .
وقوله : { وَآمَنَ } أي : بقلبه{[19457]} { وَعَمِلَ صَالِحًا } أي : بجوارحه .
وقوله : { ثُمَّ اهْتَدَى } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي ثم لم يشكك .
وقال سعيد بن جبير : { ثُمَّ اهْتَدَى } أي : استقام على السنة والجماعة . ورُوي نحوه عن مجاهد ، والضحاك ، وغير واحد من السلف .
وقال قتادة : { ثُمَّ اهْتَدَى } أي : لزم الإسلام حتى يموت .
وقال سفيان الثوري : { ثُمَّ اهْتَدَى } أي : علم أن لهذا{[19458]} ثوابًا .
وثم هاهنا لترتيب الخبر على الخبر ، كقوله : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } [ البلد : 17 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنّي لَغَفّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمّ اهْتَدَىَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن يجب عليه غضبي ، فينزل به . فقد هوى ، يقول فقد تردّى فشقي ، كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ف " َقَدْ هَوَى " يقول : فقد شقِي .
وقوله : " وإنّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ " يقول : وإني لذو غفر لمن تاب من شركه ، فرجع منه إلى الإيمان لي وآمن ، يقول : وأخلص لي الألوهة ، ولم يشرك في عبادته إياي غيري . " وَعمِلَ صَالِحا " يقول : وأدّى فرائضي التي افترضتها عليه ، واجتنب معاصيّ . " ثُمّ اهْتَدَى " يقول : ثم لزم ذلك ، فاستقام ولم يضيع شيئا منه .
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : " وإنّي لَغَفّرٌ لِمَنْ تابَ وآمَنَ وَعمِلَ صَالِحا ثُمّ اهْتَدَى " قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " وإنّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ من الشرك وآمَنَ " يقول : وحّد الله وَعمِلَ صَالِحا يقول : أدّى فرائضي .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وإنّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ من ذنبه وآمَنَ به وَعَمِلَ صَالِحا فيما بينه وبين الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن الربيع وإنّي لَغَفاّرٌ لِمَنْ تابَ من الشرك وآمَنَ يقول : وأخلص لله ، وعمل في إخلاصه .
واختلفوا في معنى قوله : " ثُمّ اهْتَدَى " فقال بعضهم : معناه : لم يشكُك في إيمانه . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " ثُمّ اهْتَدَى " يقول : لم يشكُك .
وقال آخرون : معنى ذلك : ثم لزم الإيمان والعمل الصالح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة " ثُمّ اهْتَدَى " يقول : ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم استقام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن أنس " ثُمّ اهْتَدَى " قال : أخذ بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : بل معناه : أصاب العمل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " وَعمِلَ صَالِحا ثُمّ اهْتَدَى " قال : أصاب العمل .
وقال آخرون : معنى ذلك : عرف أمر مُثيبه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن الكلبيّ " وإنّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ " من الذنب وآمَنَ من الشرك وَعمِلَ صَالِحا أدّى ما افترضت عليه ثُمّ اهْتَدَى عرف مثيبه إن خيرا فخيرا ، وإن شرّا فشرّا . وقال آخرون بما :
حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاريّ ، قال : أخبرنا عمر بن شاكر ، قال : سمعت ثابتا البُنانيّ يقول في قوله : " وإنّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وآمَنَ وَعمِلَ صَالِحا ثُمّ اهْتَدَى " قال : إلى ولاية أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم .
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في ذلك ، من أجل أن الاهتداء هو الاستقامة على هدى ، ولا معنى للاستقامة عليه إلا وقد جمعه الإيمان والعمل الصالح والتوبة ، فمن فعل ذلك وثبت عليه ، فلا شكّ في اهتدائه .
جملة { وإنّي لغَفَّارٌ } إلى آخرها استطراد بعد التحذير من الطغيان في النعمة بالإرشاد إلى ما يتدارك به الطغيان إن وقع بالتوبة والعمل الصالح . ومعنى { تَابَ } : ندم على كفره وآمن وعمل صالحاً .
وقوله { ثُمَّ اهتدى } ( ثم ) فيه للتراخي في الرتبة ؛ استعيرت للدلالة على التباين بين الشيئين في المنزلة كما كانت للتباين بين الوقتين في الحدوث . ومعنى { اهتدى : استمرّ على الهدى وثبت عليه ، فهو كقوله تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ الأحقاف : 13 ] .
والآيات تشير إلى ما جاء في الإصحاح من سفر الخروج « الرب إله رحيم ورؤوف ، بطيء الغضب وكثير الإحسان غافر الإثم والخطيئة ولكنّه لن يبرىء إبراء » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.