مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِنِّي لَغَفَّارٞ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا ثُمَّ ٱهۡتَدَىٰ} (82)

وأما كونه غفارا فقوله : { وإني لغفار لمن تاب } وأما الغفران فقوله : { غفرانك ربنا } وأما المغفرة فقوله : { وإن ربك لذو مغفرة للناس } وأما صيغة الماضي فقوله : في حق داود عليه السلام { فغفرنا له ذلك } وأما صيغة المستقبل فقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقوله : { إن الله يغفر الذنوب جميعا } وقوله في حق محمد صلى الله عليه وسلم : { ليغفر لك الله } وأما لفظ الاستغفار فقوله : { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } وفي حق نوح عليه السلام : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا } وفي الملائكة : { ويستغفرون لمن في الأرض } واعلم أن الأنبياء عليهم السلام كلهم طلبوا المغفرة أما آدم عليه السلام فقال : { وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } ، وأما نوح عليه السلام فقال : { وإلا تغفر لي وترحمني } ، وأما إبراهيم عليه السلام فقال : { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } وطلبها لأبيه : { سأستغفر لك ربي } وأما يوسف عليه السلام فقال في إخوته : { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم } وأما موسى عليه السلام ففي قصة القبطي : { رب اغفر لي ولأخي } وأما داود عليه السلام : { فاستغفر ربه أما سليمان عليه السلام : { رب اغفر لي وهب لي ملكا } وأما عيسى عليه السلام : { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقوله :{ واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } وأما الأمة فقوله : { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا } واعلم أن بسط الكلام ههنا أن نبين أولا حقيقة المغفرة ثم نتكلم في كونه تعالى غافرا وغفورا وغفارا ثم نتكلم في أن مغفرته عامة ثم نبين أن مغفرته في حق الأنبياء عليهم السلام كيف تعقل مع أنه لا ذنب لهم ، ويتفرع على هذه الجملة استدلال أصحابنا في إثبات العفو وتقريره أن الذنب إما أن يكون صغيرا أو كبيرا بعد التوبة أو قبل التوبة والقسمان الأولان يقبح من الله عذابهما ويجب عليه التجاوز عنهما وترك القبيح لا يسمى غفرانا فتعين أن لا يتحقق الغفران إلا في القسم الثالث وهو المطلوب ، فإن قيل : هذا يناقض صريح الآية لأنه أثبت الغفران في حق من استجمع أمورا أربعة : التوبة والإيمان والعمل الصالح والاهتداء ، قلنا : إن من تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ثم أذنب بعد ذلك كان تائبا ومؤمنا وآتيا بالعمل الصالح ، ومهتديا ومع ذلك يكون مذنبا فحينئذ يستقيم كلامنا ، وههنا نكتة ، وهي أن العبد له أسماء ثلاثة : الظالم والظلوم والظلام . فالظالم : { فمنهم ظالم لنفسه } والظلوم : { إنه كان ظلوما جهولا } والظلام إذا كثر ذلك منه ، ولله في مقابلة كل واحد من هذه الأسماء اسم فكأنه تعالى يقول : إن كنت ظالما فأنا غافر وإن كنت ظلوما فأنا غفور ، وإن كنت ظلاما فأنا غفار : { وإني لغفار لمن تاب وآمن } .

المسألة التاسعة : كثير اختلاف المفسرين في قوله تعالى : { ثم اهتدى } وسبب ذلك أن من تاب وآمن وعمل صالحا فلا بد وأن يكون مهتديا ، فما معنى قوله ثم اهتدى بعد ذكر هذه الأشياء ؟ والوجوه الملخصة فيه ثلاثة . أحدها : المراد منه الاستمرار على تلك الطريقة إذ المهتدي في الحال لا يكفيه ذلك في الفوز بالنجاة حتى يستمر عليه في المستقبل ويموت عليه ويؤكده قوله تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } وكلمة ثم للتراخي في هذه الآية وليست لتباين المرتبتين بل لتباين الوقتين فكأنه تعالى قال : الإتيان بالتوبة والإيمان والعمل الصالح مما قد يتفق لكل أحد ولا صعوبة في ذلك إنما الصعوبة في المداومة على ذلك والاستمرار عليه . وثانيها : المراد من قوله : { ثم اهتدى } أي علم أن ذلك بهداية الله وتوفيقه وبقي مستعينا بالله في إدامة ذلك من غير تقصير ، عن ابن عباس . وثالثها : المراد من الإيمان الاعتقاد المبني على الدليل والعمل الصالح إشارة إلى أعمال الجوارح بقي بعد ذلك ما يتعلق بتطهير القلب من الأخلاق الذميمة وهو المسمى بالطريقة في لسان الصوفية ، ثم انكشاف حقائق الأشياء له وهو المسمى بالحقيقة في لسان الصوفية فهاتان المرتبتان هما المرادتان بقوله : { ثم اهتدى } .

المسألة العاشرة : منهم من قال : تجب التوبة عن الكفر أولا ثم الإتيان بالإيمان ثانيا واحتج عليه بهذه الآية فإنه تعالى قدم التوبة على الإيمان ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن العمل الصالح غير داخل في الإيمان لأنه تعالى عطف العمل الصالح على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه .