ويلي ذلك التهديد بعذاب الآخرة ، تهديد الذين يأكلون الأموال بينهم بالباطل ، معتدين ظالمين . تهديدهم بعذاب الآخرة ؛ بعد تحذيرهم من مقتلة الحياة الدنيا ودمارها . الآكل فيهم والمأكول ؛ فالجماعة كلها متضامنة في التبعة ؛ ومتى تركت الأوضاع المعتدية الظالمة ، التي تؤكل فيها الأموال بالباطل تروج فيها فقد حقت عليها كلمة الله في الدنيا والآخرة :
( ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما ، فسوف نصليه نارا ، وكان ذلك على الله يسيرا ) .
وهكذا يأخذ المنهج الإسلامي على النفس أقطارها - في الدنيا والآخرة - وهو يشرع لها ويوجهها ؛ ويقيم من النفس حارسا حذرا يقظا على تلبية التوجيه ، وتنفيذ التشريع ؛ ويقيم من الجماعة بعضها على بعض رقيبا لأنها كلها مسؤولة ؛ وكلها نصيبها المقتلة والدمار في الدنيا ، وكلها تحاسب في الآخرة على إهمالها وترك الأوضاع الباطلة تعيش فيها . . ( وكان ذلك على الله يسيرا ) فما يمنع منه مانع ، ولا يحول دونه حائل ، ولا يتخلف ، متى وجدت أسبابه ، عن الوقوع !
أي : ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه متعديا فيه ظالما في تعاطيه ، أي : عالما بتحريمه متجاسرا على انتهاكه { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ] }{[7204]} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، فَلْيحذَرْ منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد .
{ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانا } فقال بعضهم : معنى ذلك : ومن يقتل نفسه ، بمعنى : ومن يقتل أخاه المؤمن عدوانا وظلما { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نارا } . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء أرأيت قوله : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانا وَظُلْما فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نارا } في كل ذلك ، أو في قوله : { وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } ؟ قال : بل في قوله : { وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ومن يفعل ما حرّمته عليه من أوّل هذه السورة إلى قوله : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلكَ } من نكاح من حرّمت نكاحه ، وتعدّى حدوده ، وأكل أموال الأيتام ظلما ، وقتل النفس المحرّم قتلها ظلما بغير حقّ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ومن يأكل مال أخيه المسلم ظلما بغير طيب نفس منه وقتل أخاه المؤمن ظلما ، فسوف نصليه نارا .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال معناه : ومن يفعل ما حرّم الله عليه من قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها } . . . إلى قوله : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ } من نكاح المحرّمات ، وعضل المحرّم عضلها من النساء ، وأكل المال بالباطل ، وقتل المحرّم قتله من المؤمنين ، لأن كل ذلك مما وعد الله عليه أهله العقوبة .
فإن قال قائل : فما منعك أن تجعل قوله : { ذَلِكَ } معنيا به جميع ما أوعد الله عليه العقوبة من أول السورة ؟ قيل : منع ذلك أن كل فصل من ذلك قد قرن بالوعيد ، إلى قوله : { أُولَئِكَ أعْتَدْنا لَهُمْ عَذَابا ألِيما } ولا ذكر للعقوبة من بعد ذلك على ما حرّم الله في الاَي التي بعده ، إلى قوله : { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نارا } . فكان قوله : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ } معنيا به ما قلنا مما لم يقرن بالوعيد مع إجماع الجميع على أن الله تعالى قد توعد على كل ذلك أولى من أن يكون معنيا به ما سلف فيه الوعيد بالنهي مقرونا قبل ذلك .
وأما قوله : { عُدْوَانا } فإنه يعني به : تجاوزا لما أباح الله له إلى ما حرّمه عليه ، { وَظُلْما } يعني : فعلاً منه ذلك بغير ما أذن الله به ، وركوبا منه ما قد نهاه الله عنه . وقوله : { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارا } يقول : فسوف نورده نارا يصلي بها فيحترق فيها . { وكانَ ذلكَ على اللّهِ يَسِيرا } يعني : وكان إصلاء فاعل ذلك النار وإحراقه بها على الله سهلاً يسيرا ، لأنه لا يقدر على الامتناع على ربه مما أراد به من سوء . وإنما يصعب الوفاء بالوعيد لمن توعده على من كان إذا حاول الوفاء به قدر المتوعد من الامتناع منه ، فأما من كان في قبضة موعده فيسير عليه إمضاء حكمه فيه والوفاء له بوعيده ، غير عسير عليه أمر أراده به .
{ ومن يفعل ذلك } إشارة إلى القتل ، أو ما سبق من المحرمات . { عدوانا وظلما } إفراطا في التجاوز عن الحق وإتيانا بما لا يستحقه . وقيل أراد بالعدوان التعدي على الغير ، وبالظلم ظلم النفس بتعريضها للعقاب . { فسوف نصليه نارا } ندخله إياها . وقرئ بالتشديد من صلى ، وبفتح النون من صلاة يصليه . ومنه شاة مصلية ، ويصليه بالياء والضمير لله تعالى أو لذلك من حيث إنه سبب الصلي . { وكان ذلك على الله يسيرا } لا عسر فيه ولا صارف عنه .
وقوله : { ومن يفعل ذلك } أي المذكورَ : من أكل المال بالباطل والقتل . وقيل : الإشارة إلى مَا ذكر من قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } [ النساء : 19 ] لأنّ ذلك كلّه لم يرد بعده وعيد ، وورد وعيد قبله ، قاله الطبري . وإنّما قيّده بالعدوان والظلم ليخرج أكل المال بوجه الحقّ ، وقتلُ النفس كذلك ، كقتل القاتل ، وفي الحديث : « فإذا قالوها عصَمُوا منّي دماءَهم وأموالَهم إلاّ بحقِّها » . والعدوان بضَمّ العين مصدر بوزن كفران ، ويقال بكسر العين وهو التسلّط بشدّة ، فقد يكون بظلم غالباً ، ويكون بحقّ ، قال تعالى : { فلا عدوان إلا على الظالمين } [ البقرة : 193 ] وعطف قوله : { وظلماً } على { عدواناً } من عطف الخاصّ على العامّ .
و ( سوف ) حرف يدخل على المضارع فيمحّضه للزمن المستقبل ، وهو مرادف للسين على الأصحّ ، وقال بعض النحاة : ( سوف ) تدل على مستقبل بعيد وسمّاه : التسويف ، وليس في الاستعمال ما يشهد لهذا ، وقد تقدّم عند قوله : { وسيصلون سعيراً } في هذه السورة [ النساء : 10 ] . و ( نُصليه ) نجعلُه صاليا أو محترقا ، وقد مضى فعل صَلِي أيضاً ، ووجهُ نصب ( نارا ) هنالك ، والآية دلّت على كُلِّيَتَيْن من كليّات الشريعة : وهما حفظ الأموال ، وحفظ الأنفس ، من قسم المناسب الضروري .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.