وفي الختام يجيء ذلك الإيقاع الكوني الهائل ، فيربط موضوع السورة وتشريعاتها وتوجيهاتها بقدر الله وقدرة الله ، وعلم الله ، في المجال الكوني العريض :
( الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ، يتنزل الأمر بينهن ، لتعلموا أن الله على كل شيء قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) . .
والسماوات السبع لا علم لنا بحقيقة مدلولها وأبعادها ومساحاتها . وكذلك الأراضي السبع . فقد تكون أرضنا هذه التي نعرفها واحدة منهن والباقيات في علم الله . وقد يكون معنى مثلهن أن هذه الأرض من جنس السماوات فهي مثلهن في تركيبها أو خصائصها . . وعلى أية حال فلا ضرورة لمحاولة تطبيق هذه النصوص على ما يصل إليه علمنا ، لأن علمنا لا يحيط بالكون ، حتى نقول على وجه التحقيق : هذا ما يريده القرآن . ولن يصح أن نقول هكذا إلا يوم يعلم الإنسان تركيب الكون كله علما يقينيا . . وهيهات . . !
فننتفع بإيحاء هذه الإشارة إلى تلك الحقيقة في مجالها النفسي ، وفي إنشاء التصور الإيماني الكوني الصحيح .
والإشارة إلى هذا الكون الهائل : ( سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ) . . يهول الحس ويقف القلب وجها لوجه أمام مشهد من مشاهد قدرة الخالق ، وسعة ملكه ، تصغر أمامه هذه الأرض كلها ، فضلا على بعض ما فيها ، فضلا على حادث من أحداثها . فضلا على دريهمات ينفقها الزوج أو تتنازل عنها الزوجة !
وبين هذه السماوات السبع والأرض أو الأرضين السبع يتنزل أمر الله - ومنه هذا الأمر الذي هم بصدده في هذا السياق . فهو أمر هائل إذن ، حتى بمقاييس البشر وتصوراتهم في المكان والزمان بقدر ما يطيقون التصور . والمخالفة عنه مخالفة عن أمر تتجاوب به أقطار السماوات والأرضين ، ويتسامع به الملأ الأعلى وخلق الله الآخرون في السماوات والأرضين . فهي مخالفة بلقاء شنعاء ، لا يقدم عليها ذو عقل مؤمن ، جاءه رسول يتلو عليه آيات الله مبينات ، ويبين له هذا الأمر ، ليخرجه من الظلمات إلى النور . .
وهذا الأمر يتنزل بين السماوات والأرض ، لينشئ في قلب المؤمن عقيدة أن الله على كل شيء قدير ؛ فلا يعجزه شيء مما يريد . وأنه أحاط بكل شيء علما ؛ فلا يند عن علمه شيء مما يكون في ملكه الواسع العريض ، ولا مما يسرونه في حنايا القلوب .
ولهذه اللمسة قيمتها هنا من وجهين :
الأول أن الله الذي أحاط بكل شيء علما هو الذي يأمر بهذه الأحكام . فقد أنزلها وهو يحيط بكل ظروفهم وملابساتهم ومصالحهم واستعداداتهم . فهي أولى بالاتباع لا يلتفتون عنها أدنى التفات ؛ وهي من وضع العليم المحيط بكل شيء علما .
والثاني أن هذه الأحكام بالذات موكولة إلى الضمائر ، فالشعور بعلم الله واطلاعه على كل شيء هو الضمان لحساسية هذه الضمائر ، في شأن لا يجدي فيه شيء إلا تقوى الله العليم بذات الصدور .
وهكذا تختم السورة بهذا الإيقاع الذي يهول ويروع ، بقدر ما يحرك القلوب لتخبت وتطيع . فسبحان خالق القلوب ، العليم بما فيها من المنحنيات والدروب !
يقول تعالى مخبرا عن قدرته التامة وسلطانه العظيم ليكون ذلك باعثًا على تعظيم ما شرع من الدين القويم { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } كقوله تعالى إخبارًا عن نوح أنه قال لقومه { أَلَمْ تَرَوا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } [ نوح : 15 ] وقال تعالى { تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ والأرْضُ وَمَن فِيهنَّ } [ الإسراء : 44 ] . وقوله تعالى { وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ } أي سبعا أيضا ، كما ثبت في الصحيحين " من ظلم قيدَ شِبر من الأرض طُوِّقه من سبع أرضين " {[29008]} وفي صحيح البخاري " خُسِف به إلى سبع أرضين " -{[29009]} وقد ذُكِرت طُرقه وألفاظه وعزوه في أول " البداية والنهاية " {[29010]} عند ذكر خلق الأرض ولله الحمد والمنة .
ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم فقد أبعد النَّجْعَة ، وأغرق في النزع وخالف القرآن والحديث بلا مستند . وقد تقدم في سورة الحديد عند قوله : { هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظَّاهِرُ والْبَاطِنُ } [ الآية : 3 ] ذكر الأرضين السبع ، وبعد ما بينهن وكثافة كل واحدة منهن خمسمائة عام وهكذا قال ابن مسعود وغيره ، وكذا في الحديث الآخر " ما السماوات السبع وما فيهن وما بينهن والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة " {[29011]} . وقال ابن جرير حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا وَكِيع حدثنا الأعمش عن إبراهيم بن مُهَاجِر عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ } قال لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم وكفركم تكذيبكم بها .
وحدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب بن عبد الله بن سعد القُميّ الأشعري عن جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي عن سعيد بن جبير ، قال : قال رجل لابن عباس { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ } الآية . فقال : ابن عباس ما يؤمنك إن أخبرتك بها فتكفر . وقال ابن جرير حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مُرَّة عن أبي الضُّحى عن ابن عباس في هذه الآية { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ } قال عمرو قال في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من الخلق .
وقال ابن المثنى في حديثه في كل سماء إبراهيم{[29012]} وقد وروى البيهقي في كتاب الأسماء والصفات هذا الأثر عن ابن عباس بأبسط من هذا [ السياق ]{[29013]} فقال : أنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أحمد بن يعقوب حدثنا عبيد بن غنام النخعي أنا علي بن حكيم حدثنا شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس قال { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ } قال سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى .
ثم رواه البيهقي من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قول الله عز وجل { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ } قال في كل أرض نحو إبراهيم عليه السلام .
ثم قال البيهقي إسناد هذا عن ابن عباس صحيح وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا والله أعلم .
قال الإمام أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتابه التفكر والاعتبار حدثني إسحاق بن حاتم المدائني حدثنا يحيى بن سليمان عن عثمان بن أبي دهرس قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى أصحابه وهم سكوت لا يتكلمون فقال : " ما لكم لا تتكلمون ؟ " فقالوا : نتفكر في خلق الله عز وجل قال " فكذلك فافعلوا تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا فيه فإن بهذا المغرب أرضا بيضاء نورها ساحتها{[29014]} - أو قال ساحتها{[29015]} نورها - مسيرة الشمس أربعين يومًا بها خلقُ{[29016]} الله تعالى لم يعصُوا الله طَرفة عين قطّ " قالوا فأين الشيطان عنهم ؟ قال " ما يدرون خلق الشيطان أم لم يخلق ؟ " قالوا أمن ولد آدم ؟ قال " لا يدرون خلق آدم أم لم يخلق ؟ " {[29017]}
وهذا حديث مرسل وهو منكر جدًّا وعثمان بن أبي دهرش ذكره ابن أبي حاتم في كتابه فقال : روى عن رجل من آل الحكم بن أبي العاص وعنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سليم الطائفي وابن المبارك سمعت أبي يقول ذلك . {[29018]}
القول في تأويل قوله تعالى : { اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ يَتَنَزّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنّ لّتَعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنّ اللّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَيْءٍ عِلْمَا } .
يقول تعالى ذكره : اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ لا ما يعبده المشركون من الاَلهة والأوثان التي لا تقدر على خلق شيء .
وقوله : وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ يقول : وخلق من الأرض مثلهنّ لما في كلّ واحدة منهنّ مثل ما في السموات من الخلق . ذكر من قال ذلك :
حدثني عمرو بن علي ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس ، قال في هذه الاَية : اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ قال عمرو : قال : في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من الخلق . وقال ابن المثنى : في كلّ سماء إبراهيم .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ قال : لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم وكفركم تكذيبكم بها .
حدثنا أبو كُريب ، قال : حدثنا أبو بكر ، عن عاصم ، عن زِرّ ، عن عبد الله ، قال : خلق الله سبع سموات غلظ كلّ واحدة مسيرة خمس مئة عام ، وبين كلّ واحدة منهنّ خمس مئة عام ، وفوق السبع السموات الماء ، والله جلّ ثناؤه فوق الماء ، لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم . والأرض سبع ، بين كل أرضين خمس مئة عام ، وغلظ كلّ أرض خمس مئة عام .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يعقوب بن عبد الله بن سعد القُمى الأشعري ، عن جعفر بن أبي المُغيرة الخزاعي ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال رجل لابن عباس اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ . . . الاَية ، فقال ابن عباس : ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر .
قال : ثنا عباس ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : هذه الأرض إلى تلك مثل الفسطاط ضربته في فلاة ، وهذه السماء إلى تلك السماء ، مثل حلقة رميت بها في أرض فلاة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، قال : السماء أوّلها موج مكفوف والثانية صخرة والثالثة حديد والرابعة نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب ، والسابعة ياقوتة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا جرير بن حازم ، قال : ثني محمد بن قيس ، عن مجاهد ، قال : هذا البيت الكعبة رابع أربعة عشر بيتا في كل سماء بيت ، كل بيت منها حذو صاحبه ، لو وقع وقع عليه ، وإن هذا الحرم حرمي بناؤه من السموات السبع والأرضين السبع .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : اللّه الذّي خَلَق سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمن الأرض مِثْلَهُنّ خلق سبع سموات وسبع أرضين في كلّ سماء من سمائه ، وأرض من أرضه ، خلق من خلقه وأمر من أمره ، وقضاء من قضائه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : بينا النبيصلى الله عليه وسلم جالس مرّة مع أصحابه ، إذا مرّت سحابة ، قال النبيصلى الله عليه وسلم أتَدْرُون ما هَذَا هَذِهِ العَنانُ ، هَذِهِ رَوَايا الأرْضِ يَسُوقُها اللّهُ إلى قَوْم لا يَعْبُدُونَه قال : أتَدْرُونَ ما هَذِهِ السّماءُ ؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : هذه السّماءُ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ ، وَسَقْفٌ مَحْفُوظٌ ثم قال : أتَدْرُون ما فَوْقَ ذلكَ ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فَوْقَ ذلكَ سَماءٌ أُخْرَى ، حتى عدّ سبع سموات وهو يقول : أتَدْرُونَ ما بَيْنَهُما خَمْس مئَة سَنَة ثُم قال : أتَدْرُونَ ما فَوْقَ ذلكَ ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فَوْقَ ذلكَ العَرْشُ ، قال : أتَدْرُونَ ما بَيْنَهُما ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : بَيْنَهُما خَمْسُ مِئَةِ سَنَة ثم قال : أتدرون ما هَذِهِ الأرْضُ ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : تَحْتَ ذلكَ أرْضٌ ، قال : أتَدْرُونَ كَمْ بَيْنَهُما ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : بَيْنَهُما مَسِيرَةُ خَمْسِ مِئَةِ سَنَةٍ ، حتى عدّ سبع أرضين ، ثم قال : وَالّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَوْ دُلّيَ رَجُلٌ يِحَبْلٍ حتى يَبْلُغَ أسْفَلَ الأرضِينَ السّابِعَةِ لَهَبَطَ على اللّهِ ثم قال : هُوَ الأوّلُ والاَخِرُ والظّاهِرُ والباطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : التقى أربعة من الملائكة بين السماء والأرض ، فقال بعضهم لبعض : من أين جئت ؟ قال أحدهم : أرْسلني ربي من السماء السابعة ، وتركته ثم قال الاَخر : أرسلني ربي من الأرض السابعة وتركته ثم قال الاَخر : أرسلني ربي من المشرق وتركته ثم قال الاَخر : أرسلني ربي من المغرب وتركته ثمّ .
وقوله : يَتَنَزّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنّ يقول تعالى ذكره : يتنزّل أمر الله بين السماء السابعة والأرض السابعة ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يَتَنَزّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنّ قال : بين الأرض السابعة إلى السماء السابعة .
وقوله : لِتَعْلَمُوا أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ يقول تعالى ذكره : ينزل قضاء الله وأمره بين ذلك كي تعلموا أيها الناس كنه قدرته وسلطانه ، وأنه لا يتعذّر عليه شيء أراده ، ولا يمتنع عليه أمر شاءه ، ولكنه على ما يشاء قدير وأنّ اللّهَ قَدْ أحاطَ بِكُلّ شَيْء عِلْما يقول جلّ ثناؤه : ولتعلموا أيها الناس أن الله بكل شيء من خلقه محيط علما ، لا يعزُب عنه مثقالُ ذرّة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . يقول جلّ ثناؤه : فخافوا أيها الناس المخالفون أمر ربكم عقوبته ، فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع ، وهو على ذلك قادر ، ومحيط أيضا بأعمالكم ، فلا يخفي عليه منها خاف ، وهو محصيها عليكم ، ليجازيكم بها . يوم تجزى كلّ نفس ما كسبت .
الله الذي خلق سبع سماوات مبتدأ وخبر ومن الأرض مثلهن أي وخلق مثلهن في العدد من الأرض وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر يتنزل الأمر بينهن أي يجري أمر الله وقضاؤه بينهن وينفذ حكمه فيهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما علة ل خلق أو ل يتنزل أو مضمر يعمهما فإن كلا منهما يدل على كمال قدرته وعلمه .
لا خلاف بين العلماء أن السموات سبع ، لأن الله تعالى قال : { سبعاً طباقاً }{[11175]} [ الملك : 3 ، نوح : 15 ] وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهن في حديث الإسراء ، وقال لسعد : «حكمت بحكم الملك من فوق سبع أرقعة »{[11176]} ، ونطقت بذلك الشريعة في غير ما موضع ، وأما { الأرض } فالجمهور على أنها سبع أرضين ، وهو ظاهر هذه الآية ، وأن المماثلة إنما هي في العدد ، ويستدل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من غصب شبراً من أرض طوقه من سبع أرضين »{[11177]} ، إلى غير هذا مما وردت به روايات ، وروي عن قوم من العلماء أنهم قالوا : الأرض واحدة ، وهي مماثلة لكل سماء بانفرادها في ارتفاع جرمها ، وقر أن فيها عالماً يعبد كما في كل سماء عالم يعبد ، وقرأ الجمهور : «مثلَهن » بالنصب ، وقرأ عاصم : «مثلُهن » برفع اللام ، و { الأمر } هنا الوحي وجميع ما يأمر به تعالى من يعقل ومن لا يعقل ، فإن الرياح والسحاب وغير ذلك مأمور كلها ، وباقي السورة وعظ ، وحض على توحيد لله عز وجل ، وقوله تعالى : { على كل شيء قدير } عموم معناه الخصوص في المقدورات ، وقوله { بكل شيء } عموم على إطلاقه .
اسم الجلالة خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو الله . وهذا من حذف المسند إليه لمتابعة الاستعمال كما سماه السكاكي ، فإنه بعد أن جرى ذكر شؤون من عظيم شؤون الله تعالى ابتداء من قوله : { واتقوا الله ربكم } [ الطلاق : 1 ] إلى هنا ، فقد تكرر اسم الجلالة وضميره والإِسناد إليه زهاء ثلاثين مرة فاقتضى المقام عقب ذلك أن يُزاد تعريف الناس بهذا العظيم ، ولمَّا صار البساط مِليئاً بذكر اسمه صح حذفه عند الإِخبار عنه إيجازاً وقد تقدم قوله تعالى : { رب السماوات والأرض وما بينهما } في سورة مريم ( 65 ) ، وكذلك عند قوله : صم بكم عمي } [ البقرة : 18 ] ، وقوله : { مقام إبراهيم } في سورة البقرة ( 125 .
فالجملة على هذا الوجه مستأنفة استئنافاً ابتدائياً .
والموصول صفة لاسم الجلالة وقد ذُكرت هذه الصلة لما فيها من الدلالة على عظيم قدرته تعالى ، وعلى أن الناس وهم من جملة ما في الأرض عبيده ، فعليهم أن يتقوه ، ولا يتعدوا حدوده ، ويحاسبوا أنفسهم على مدى طاعتهم إياه فإنه لا تخفى عليه خافية ، وأنه قدير على إيصال الخير إليهم إن أطاعوه وعقابهم إن عصوه .
وفيه تنويه بالقرآن لأنه من جملة الأمر الذي يتنزل بين السماء والأرض .
والسبع السماوات تقدم القول فيها غير مرة ، وهي سبع منفصل بعضها عن الآخر لقوله تعالى في سورة نوح ( 15 ) : { ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً }
وقوله : { ومن الأرض مثلهن } عطف على { سبع سموات } وهو يحتمل وجهين : أحدهما أن يكون المعطوف قوله : { من الأرض } على أن يكون المعطوف لفظ الأرض ويكون حرف { مِن } مزيداً للتوكيد بناء على قول الكوفيين والأخفش أنه لا يشترط لزيادة { من } أن تقع في سياق النفي والنهي والاستفهام والشرط وهو الأحق بالقبول وإن لم يكن كثيراً في الكلام ، وعدمُ الكثرة لا ينافي الفصاحة ، والتقدير : وخلق الأرض ، ويكون قوله : { مثلهن } حالاً من { الأرض } .
ومماثلة الأرض للسماوات في دلالة خلقها على عظيم قدرة الله تعالى ، أي أن خلْق الأرض ليس أضعف دلالة على القدرة من خلق السماوات لأن لكل منهما خصائص دالة على عظيم القدرة .
وهذا أظهر ما تُؤَوَّلُ به الآية .
وفي إفراد لفظ { الأرض } دون أن يُؤتى به جمعاً كما أُتي بلفظ السماوات إيذان بالاختلاف بين حاليهما .
والوجه الثاني : أن يكون المعطوف { مثلهن } ويكون قوله : { ومن الأرض } بياناً للمثل فمصدق { مثلهن } هو { الأرض } . وتكون { مِن } بيانية وفيه تقديم البيان على المبيّن ، وهو وارد غير نادر .
فيجوز أن تكون مماثلة في الكُروية ، أي مثل واحدة من السماوات ، أي مثل كوكب من الكواكب السبعة في كونها تسير حول الشمس مثل الكواكب فيكون ما في الآية من الإِعجاز العلمي الذي قدمنا ذكره في المقدمة العاشرة .
وجمهور المفسرين جعلوا المماثلة في عدد السبع وقالوا : إن الأرض سبع طبقات فمنهم من قال هي سبع طبقات مُنبسطة تفرق بينها البحار .
وهذا مروي عن ابن عباس من رواية الكلبي عن أبي صالح عنه ، ومنهم من قال هي سبع طباق بعضُها فوق بعض وهو قول الجمهور . وهذا يقرب من قول علماء طبقات الأرض ( الجيولوجيا ) ، من إثبات طبقات أرضية لكنها لا تصل إلى سبع طبقات .
وفي « الكشاف » « قيل ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه » اه . وقد علمت أنها لا دلالة فيها على ذلك .
وقال المازري في كتابه « المُعلم » على « صحيح مسلم » عند قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الشفعة : « من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه من سبع أرضين يوم القيامة » .
كان شيخنا أبو محمد عبد الحميد كتب إليّ بعدَ فراقي له : هل وقع في الشرع عما يدل على كون الأرض سبعاً ، فكتبت إليه قولُ الله تعالى : { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن } وذكرت له هذا الحديث فأعاد كتابه إليّ يذكر فيه أن الآية محتملة هل مثلهن في الشكل والهيئة أو مثلهن في العدد . وأن الخبر من أخبار الآحاد ، والقرآن إذا احتمل والخبر إذا لم يتواتر لم يصح القطع بذلك ، والمسألة ليست من العمليات فيتمسك فيها بالظواهر وأخبارِ الآحاد ، فأعدت إليه المجاوبة أحتج لبعد الاحتمال عن القرآن وبسطتُ القول في ذلك وترددتُ في آخر كتابي في احتماللِ ما قال . فقطع المجاوبة اهـ .
وأنت قد تبينت أن إفراد الأرض مشعر بأنها أرض واحدة وأن المماثلة في قوله : { مثلهن } راجعة إلى المماثلة في الخلق العظيم ، وأما الحديث فإنه في شأن من شؤون الآخرة وهي مخالفة للمتعارف ، فيجوز أن يطوق الغاصب بالمقدار الذي غصبه مضاعفاً سبع مرات في الغِلظ والثقل ، على أن عدد السبع يجوز أن يراد به المبالغة في المضاعفة . ولو كان المراد طبقات معلومة لقال : طوقه من السبع الأرضين بصيغة التعريف . وكلام عبد الحميد أدخل في التحقيق من كلام المازري .
وعلى مجاراة تفسير الجمهور لقوله : { ومن الأرض مثلهن } من المماثلة في عدد السبع ، فيجوز أن يقال : إن السبع سبع قطع واسعة من سطح الأرض يفصل بينها البحار نسميها القارات ولكن لا نعني بهذه التسمية المعنى الاصطلاحي في كتب الجغرافيا القديمة أو الحديثة بل هي قارات طبيعية كان يتعذر وصول سكان بعضها إلى بعضها الآخَر في الأزمان التي لم يكن فيها تنقّل بحري وفيما بعدها مما كان ركوب البحر فيها مهولاً . وهي أن آسيا مع أوروبا قارة ، وإفريقيا قارة ، وأستراليا قارة ، وأميركا الشمالية قارة ، وأميركا الجنوبية قارة ، وجرولندة في الشمال ، والقارة القطبية الجنوبية . ولا التفات إلى الأجزاء المتفرقة من الأرض في البحار ، وتكون { من } تبعيضية لأن هذه القارات الاصطلاحية أجزاء من الأرض .
واللام في قوله { لتعلموا } لام كي وهي متعلقة ب{ خلق } .
والمعنى : أن مما أراده الله من خلقه السماوات والأرض ، أن يعلم الناس قدرة الله على كل شيء وإحاطة علمه بكل شيء . لأن خلق تلك المخلوقات العظيمة وتسخيرها وتدبير نظامها في طول الدهر يدل أفكار المتأملين على أن مبدعها يقدر على أمثالها فيستدلوا بذلك على أنه قدير على كل شيء لأن دلالتها على إبداع ما هو دونها ظاهرة ، ودلالتها على ما هو أعظم منها وإن كانت غير مشاهدة ، فقياس الغائب على الشاهد يدل على أن خالق أمثالها قادر على ما هو أعظم . وأيضا فإن تدبير تلك المخلوقات بمثل ذلك الإتقان المشاهد في نظامها ، دليل على سعة علم مبدعها وأحاطته بدقائق ما هو دونها ، وأن من كان علمه بتلك المثابة لا يظن بعلمه إلا الإحاطة بجميع الأشياء .
فالعلم المراد من قوله { لتعلموا } صادق على علمين : علم يقيني مستند إلى أدلة يقينية مركبة من الدلالة الحسية والعقلية ، وعلم ظني مستند إلى الأدلة الظنية والقرائن . وكلا العلمين موصل إلى الاستدلال في الاستدلال الخطابي بفتح الخاء .