43- واذكر - أيها الرسول - حين تفضل الله عليك ، فصور لك في منامك جيش الأعداء في قلة ليطمئنكم على أنكم ستغلبونهم ، فتثبتوا أمام جمعهم ولو ترككم ترونهم كثيراً دون أن يثبتكم بهذه الرؤيا لهبتموهم ، ولترددتم في قتالهم ، ولعجزتم ، وكان التنازع في الإقدام وعدمه ، ولكن الله سلم من ذلك ونجَّى من عواقبه ، إنه عليم بما في القلوب التي في الصدور .
إن وراء هذا التلاقي على غير موعد - بهذه الدقة وبهذا الضبط - لأمراً مقضياً يريد الله تحقيقه في عالم الواقع ، ويدبر له هذا التدبير الخفي اللطيف ؛ ويجعلكم أنتم أداة تحقيقه ، ويهيئ له جميع الظروف التي تيسر لكم القيام به !
أما هذا الأمر المقتضى الذي دبر الله الظروف لتحقيقه فهو الذي يقول عنه :
ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة . .
والهلاك يعبر به عن مدلوله المباشر ، كما يعبر به عن الكفر . وكذلك الحياة فإنها قد تفيد مدلولها المباشر وقد يعبر بها عن الإيمان . . وهذا المدلول الثاني أظهر هنا ، وذلك كما قال الله سبحانه في مثل هذا المعنى : ( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ? ) . . فعبر عن الكفر بالموت وعبر عن الإيمان بالحياة ؛ وجرى في هذا على نظرة الإسلام لحقيقة الكفر وحقيقة الإيمان . هذه النظرة التي أوضحناها بشيء من التفصيل عند استعراض هذه الآية من سورة الأنعام في الجزء الثامن
ووجه ترجيح هذا المدلول هنا أن يوم بدر - كما قال الله سبحانه - كان ( يوم الفرقان )وقد فرق الله فيه بين الحق والباطل - كما ذكرنا منذ قليل - ومن ثم فإن من يكفر بعدها فإنما يكفر في غير شبهة - يكفر عن بينة فيهلك عن بينة - ومن يؤمن بعدها فإنما يؤمن عن بينة واضحة تبرزها المعركة . .
إن الموقعة - بظروفها التي صاحبتها - تحمل بينة لا تجحد ، وتدل دلالة لا تنكر ، على تدبير وراء تدبير البشر ، وعلى قوى وراءها غير قوة البشر . . إنها تثبت أن لهذا الدين رباً يتولى أصحابه متى أخلصوا له وجاهدوا في سبيله وصبروا وثبتوا ، وأنه له كان الأمر إلى القوى المادية الظاهرة ما هزم المشركون ولا انتصرت العصبة المسلمة هذا الانتصار العظيم . .
ولقد قال المشركون أنفسهم لحليفهم الذي أراد أن يمدهم بالرجال وهم ذاهبون للقتال : " فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم ، ولئن كنا إنما نقاتل الله - كما يزعم محمد - فما لأحد بالله من طاقة " ! ولقد علموا - لو كان العلم يجدي - أنهم إنما يقاتلون الله كما قال لهم محمد الصادق الأمين ، وأنه ما لأحد بالله من طاقة . . فإذا هلكوا بعد ذلك بالكفر فإنما يهلكون عن بينة !
هذا ما يتبادر إلى الذهن من معنى هذا التعقيب : ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة
إن وقوع المعركة بين جند الحق وجند الباطل ؛ واستعلاء سلطان الحق في عالم الواقع - بعد استعلائه فيعالم الضمائر - إن هذا كله مما يعين على جلاء الحق للعيون والقلوب ؛ وعلى إزالة اللبس في العقول والنفوس ؛ بحيث يتبين الأمر بهذا الفتح ويتجلى ؛ فلا تعود لمن يختار الهلاك - أي الكفر - شبهة في الحق الذي استعلن واستعلى ؛ كما أن الذي يريد أن يحيا - أي يؤمن - لا يعود لديه شك في أن هذا هو الحق الذي ينصره الله ، ويخذل الطغاة .
وهذا يعود بنا إلى ما قدمناه في الجزء التاسع - في التعريف بسورة الأنفال - من الحديث عن ضرورة الجهاد لتحطيم قوى الشر وسلطان الطاغوت ؛ وإعلاء راية الحق وسلطان الله . . فهذا مما يعين على جلاء الحق : ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة . . كما أن هذه اللفتة تساعدنا على تفهم أبعاد الإيحاء الذي يعطيه قول الله تعالى ، في هذه السورة : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم . . . )فإعداد القوة والإرهاب بها مما يعين على جلاء الحق في أنماط من القلوب . لا تستيقظ ولا تتبين إلا على إيقاعات القوة التي تحمل الحق وتنطلق به لإعلان تحرير " الإنسان " في " الأرض " كما أسلفنا .
والتعقيب على ذلك الجانب من التدبير الإلهي في المعركة ، وعلى غاية هذا التدبير التي تحققت فعلاً هو : ( وإن الله لسميع عليم ) . . .
فهو - سبحانه - لا يخفى عليه شيء مما يقول فريق الحق أو فريق الباطل ؛ ولا شيء مما يخفونه في صدورهم وراء الأقوال والأفعال ؛ وهو يدبر ويقدر باطلاعه على الظواهر وعلمه بالسرائر ، وهو السميع العليم . .
قال مجاهد : أراه الله إياهم في منامه{[13029]} قليلا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك ، فكان تثبيتا لهم .
وكذا قال ابن إسحاق وغير واحد . وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه رآهم بعينه التي ينام بها .
وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يوسف بن موسى المدبر ، حدثنا أبو قتيبة ، عن سهل السراج ، عن الحسن في قوله : { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا } قال : بعينك .
وهذا القول غريب ، وقد صرح بالمنام هاهنا ، فلا حاجة إلى التأويل الذي لا دليل عليه{[13030]}
وقوله : { وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ } أي : لجبنتم عنهم واختلفتم فيما بينكم ، { وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ } أي : من ذلك : بأن أراكهم قليلا { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بما تجنه الضمائر ، وتنطوي عليه الأحشاء ، فيعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلََكِنّ اللّهَ سَلّمَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } .
يقول تعالى ذكره : وإن الله يا محمد سميع لما يقول أصحابك ، عليم بما يضمرونه ، إذ يريك الله عدوّك وعدوّهم فِي مَنامِكَ قَلِيلاً يقول : يريكهم في نومك قليلاً فتخبرهم بذلك ، حتى قويت قلوبهم واجترءوا على حرب عدوّهم . ولو أراك ربك عدوّك وعدوّهم كثيرا لفشل أصحابك ، فجبنوا وخافوا ، ولم يقدروا على حرب القوم ، ولتنازعوا في ذلك ولكن الله سلمهم من ذلك بما أراك في منامك من الرؤيا ، إنه عليم بما تخفيه الصدور ، لا يخفى عليه شيء مما تضمره القلوب .
وقد زعم بعضهم أن معنى قوله : إذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً : أي في عينك التي تنام بها ، فصيرّ المنام هو العين ، كأنه أراد : إذ يريكهم الله في عينك قليلاً .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً قال : أراه الله إياهم في منامه قليلاً ، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك ، فكان تثبيتا لهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
وقال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً . . . الاَية فكان أوّل ما أراه من ذلك نعمة من نعمه عليهم ، شجعهم بها على عدوّهم ، وكفاهم بها ما تخوف عليهم من ضعفهم لعلمه بما فيهم .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ فقال بعضهم : معناه : ولكن الله سلم للمؤمنين أمرهم حتى أظهرهم على عدوّهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ يقول : سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوّهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولكن الله سلم أمره فيهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ قال : سلم أمره فيهم .
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن عباس ، وهو أن الله سلم القوم بما أرى نبيه صلى الله عليه وسلم في منامه من الفشل والتنازع ، حتى قويت قلوبهم واجترءوا على حرب عدوّهم وذلك أن قوله : وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ عقيب قوله : وَلَوْ أرَاكَهُمْ كَثِيرا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الأمْرِ فالذي هو أولى بالخبر عنه ، أنه سلمهم منه جلّ ثناؤه ما كان مخوفا منه لو لم يُرِ نبيه صلى الله عليه وسلم من قلة القوم في منامه .
{ إذ يُريكَهم الله في منامك قليلا } مقدر باذكر أو بدل ثان من يوم الفرقان ، أو متعلق بعليم أي يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك في رؤياك وهو أن تخبر به أصحابك فيكون تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوهم . { ولو أراكهم كثيرا لفشلتم } لجبنتم . { ولتنازعتم في الأمر } في أمر القتال وتفرقت آراؤكم بين الثبات والفرار . { ولكن الله سلّم } أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع . { إنه عليم بذات الصدور } يعلم ما سيكون فيها وما يغير أحوالها .
المهدوي { إذ } نصب بتقدير : واذكر .
قال القاضي أبو محمد : أو بدل من { إذ } المتقدمة وهو أحسن ، وتظاهرت الروايات أن هذه الآية نزلت في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأى فيها عدد الكفار قليلاً فأخبر بذلك أصحابه فقويت نفوسهم وحرضوا على اللقاء{[5383]} ، فهذا معنى قوله { في منامك } أي في نومك قاله مجاهد وغيره .
وروي عن الحسن أن معنى قوله { في منامك } أي في عينك إذ هي موضع النوم ، وعلى هذا التأويل تكون الرواية في اليقظة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القول ضعيف ، وعليه فسر النقاش وذكره عن المازني ، والضمير على التأويلين من قوله { يريكهم } عائد على الكفار من أهل مكة ، ومما يضعف ما روي عن الحسن أن معنى هذه الآية يتكرر في التي بعدها ن لأن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب في الثانية أيضاً ، وقد تظاهرت الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم ، انتبه وقال لأصحابه «أبشروا فلقد نظرت إلى مصارع القوم » ونحو هذا ، وقد كان علم أنهم ما بين التسعمائة إلى الألف ، فكيف يراهم ببصره بخلاف ما علم ، والظاهر أنه رآهم في نومه قليلاً قدرهم وحالهم وبأسهم مهزومين مصروعين ، ويحتمل أنه رآهم قليلاً عددهم ، فكان تأويل رؤياه انهزامهم ، فالقلة والكثرة على الظاهر مستعارة في غير العدد ، كما قالوا : المرء كثير بأخيه ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، والفشل الخور عن ألأمر ، إما بعد التلبس وإما بعد العزم على التلبس و { لتنازعتم } أي لتخالفتم و { في الأمر } يريد في اللقاء والحرب و { سلم } لفظ يعم كل متخوف اتصل بالأمر أو عرض في وجهه فسلم الله من ذلك كله ، وعبر بعض الناس أن قال «سلم لكم أمركم » ونحو هذا مما يندرج فيما ذكرناه وقوله { إنه عليم بذات الصدور } أي بإيمانكم وكفركم مجاز بحسب ذلك ، وقرأ الجمهور من الناس «ولكنَّ الله سلم » بشد النون ونصب المكتوبة{[5384]} وقرأت فرقة «ولكن اللهُ » برفع المكتوبة .
{ إذ يريكهم الله } بدل من قوله : { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } [ الأنفال : 42 ] فإنّ هذه الرؤيا ممّا اشتمل عليه زمان كونهم بالعدوة الدنيا لوقوعها في مدّة نزول المسلمين بالعدوة من بدر ، فهو بدل من بدل .
والمنام مصدر ميمي بمعنى النوم ، ويطلق على زمن النوم وعلى مكانه .
ويتعلق قوله : { في منامك } بفعل { يريكهم } ، فالإراءة إراءة رؤيا ، وأسندت الإراءة إلى الله تعالى ؛ لأنّ رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وحي بمدلولها ، كما دلّ عليه قوله تعالى ، حكاية عن إبراهيم وابنه { قال يا بُنَيّ إنّيَ أرى في المنام أنِّي أذْبَحُك فانْظُر ماذا ترى قال يا أبَتِ افعل ما تؤمر } [ الصافات : 102 ] فإنّ أرواح الأنبياء لا تغلبها الأخلاط ، ولا تجول حواسهم الباطنة في العبث ، فما رؤياهم إلاّ مكاشفات روحانية على عالم الحقائِق .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى رؤيا منامٍ ، جيشَ المشركين قليلاً ، أي قليل العَدد وأخبر برؤياه المسلمين فتشجّعوا للقاء المشركين ، وحملوها على ظاهرها ، وزال عنهم ما كان يخامرهم من تهيّب جيش المشركين . فكانت تلك الرؤيا من أسباب النصر ، وكانت تلك الرؤيا منّة من الله على رسوله والمؤمنين ، وكانت قِلة العدد في الرؤيا رَمزاً وكناية عن وهن أمر المشركين لا عن قلّة عددهم .
ولذلك جعلها الله في رؤيا النوم دون الوحي ، لأنّ صور المَرائي المنامية تكَون رموزاً لمعان فلا تُعَدُّ صورتها الظاهرية خلفاً ، بخلاف الوحي بالكلام .
وقد حكاها النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين ، فأخذوها على ظاهرها ، لعلمهم أنّ رؤيا النبي وحي ، وقد يكون النبي قد أطلعه الله على تعبيرها الصائِب ، وقد يكون صرفه عن ذلك فظنّ كالمسلمين ظاهرها ، وكلّ ذلك للحكمة . فرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم لم تخطىء ولكنها أوهمتهم قلّة العَدد ، لأنّ ذلك مرغوبهم والمقصود منه حاصل ، وهو تحقّق النصْر ، ولو أخبروا بعدد المشركين كما هو لجبنُوا عن اللقاء فضعفت أسباب النصر الظاهرة المعتادة التي تكسبهم حسن الأحدوثة . ورؤيا النبي لا تخطىء ، ولكنها قد تكون جارية على الصورة الحاصلة في الخارج ، كما ورد في حديث عائشة في بدء الوحي : أنّه كان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فَلَق الصبح ، وهذا هو الغالب ، وخاصّة قبل ابتداء نزول المَلك بالوحي ، وقد تكون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم رمزية وكناية كما في حديث رؤياه بَقَراً تُذبح ، ويُقال له : الله خير ، فلم يعْلَم المراد حتّى تبيّن له أنّهم المؤمنون الذين قُتلوا يوم أُحد . فلمّا أراد الله خذل المشركين وهزمهم أرى نبيئه المشركين قليلاً كناية بأحد أسباب الانهزام ، فإنّ الانهزام يجيء من قلّة العدد . وقد يُمسك النبي عليه الصلاة والسلام عن بيان التعبير الصحيح لحكمة ، كما في حديث تعْبير أبي بكر رؤيا الرجل الذي قصّ رؤياه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول النبي له : " أصبتَ بعضاً وأخطأت بعضاً " وأبى أن يبيّن له ما أصاب منها وما أخطأ . ولو أخبر الله رسوله ليُخبر المؤمنين بأنّهم غالبون المشركون لآمنوا بذلك إيماناً عقلياً لا يحصل منه ما يحصل من التصوير بالمحسوس ، ولو لم يخبره ولم يُرِه تلك الرؤيا لكان المسلمون يحسبون للمشركين حساباً كبيراً . لأنّهم معروفون عندهم بأنّهم أقوى من المسلمين بكثير .
وهذه الرؤيا قد مضت بالنسبة لزمن نزول الآية ، فالتعبير بالفعل المضارع لاستحضار حالة الرؤيا العجيبة .
والقليل هنا قليل العَدد بقرينة قوله : { كثيرا } . أراه إيّاهم قليلي العدد ، وجعل ذلك في المكاشفة النومية كناية عن الوهن والضعف . فإنّ لغة العقول والأرواح أوسع من لغة التخاطب ، لأنّ طريق الاستفادة عندها عقلي مستند إلى محسوس ، فهو واسطة بين الاستدلال العقلي المحض وبين الاستفادة اللغوية .
وأخبر ب « قليل » و« كثير » وكلاهما مفرد عن ضمير الجمع لما تقدّم عند قوله تعالى : { معه ربيون كثير } [ آل عمران : 146 ] .
ومعنى : { ولو أراكهم كثيراً لفشلتم } أنّه لو أراكهم رؤيا مماثلة للحالة التي تبصرها الأعين ؛ لدخل قلوبَ المسلمين الفشلُ ، أي إذا حدثهم النبي بما رأى ، فأراد الله إكرام المسلمين بأن لا يدخل نفوسهم هلع ، وإن كان النصر مضموناً لهم .
فإن قلت : هذا يقتضي أنّ الإراءة كانت متعيّنة ولِمَ لَمْ يَتْرُك الله إراءتَه جيش العدوّ فلا تكونَ حاجة إلى تمثيلهم بعَدد قليل ، قلتُ : يظهر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رجا أن يرى رؤيا تكشف له عن حال العدوّ ، فحقّق الله رجاءه ، وجنّبه ما قد يفضي إلى كدر المسلمين ، أو لعلّ المسلمين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستعلم ربّه عن حال العدوّ .
والفشل : الجبن والوهن . والتنازع : الاختلاف . والمراد بالأمر الخطة التي يجب اتباعها في قتال العدوّ من ثبات أو انجلاء عن القتال .
والتعريف في { الأمر } للعهد وهو أمر القتال وما يقتضيه .
والاستدراك في قوله : { ولكن الله سلم } راجع إلى ما في جملة : { ولو أراكهم كثيراً } من الإشعار بأنّ العدوّ كثير في نفس الأمر ، وأنّ الرؤيا قد تحاكي الصورة التي في نفس الأمر ، وهو الأكثر في مرائي الأنبياء ، وقد تحاكي المعنى الرمزيَّ وهو الغالب في مرائي غير الأنبياء ، مثل رؤيا مَلِك مصر سبعَ بقرات ، ورؤيا صاحبي يوسف في السِّجْن ، وهو القليل في مرائي الأنبياء مثل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنّه هَزَّ سيفاً فانكسر في يده ، فمعنى الاستدْراك رفع ما فرض في قوله : { ولو أراكهم كثيراً } . فمفعول { سلم } ومتعلِّقه محذوفان إيجازاً إذ دلّ عليه قوله : { لفشلتم ولتنازعتم } والتقدير : سَلَّمكم من الفَشَل والتنازع بأن سلمكم من سببهما ، وهو إراءتكم واقِع عدد المشركين ، لأنّ الاطّلاع على كثرة العدوّ يلقي في النفوس تهيّباً له وتخوّفاً منه ، وذلك ينقص شجاعة المسلمين الذين أراد الله أن يوفّر لهم منتهى الشجاعة .
ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : { ولكن الله سلم } دون أن يقول : ولكنّه سلّم ، لقصد زيادة إسناد ذلك إلى الله ، وأنّه بعنايته ، واهتماماً بهذا الحادث .
وجملة : { إنه عليم بذات الصدور } تذييل للمنة ، أي : أوحى إلى رسوله بتلك الرؤيا الرمزية ، لعلمه بما في الصدور البشرية من تأثّر النفوس بالمشاهدات والمحسوسات أكثر ممّا تتأثّر بالاعتقادات ، فعَلِم أنّه لو أخبركم بأنّ المشركين ينهزمون ، واعتقدتم ذلك لصِدْق إيمانكم ، لم يكن ذلك الاعتقاد مثيراً في نفوسكم من الشجاعة والإقدام ما يثيره إعتقادي أنّ عددهم قليل ، لأنّ الاعتقاد بأنّهم ينهزمون لا ينافي توقّع شدّة تَنْزِل بالمسلمين ، من موت وجراح قبل الانتصار ، فأمّا اعتقاد قلّة العدوّ فإنّها تثير في النفوس إقداماً واطمئنان بال ، فلعلمه بذلك أراكهم الله في منامك قليلاً .
ومعنى { ذات الصدور } الأحوال المصاحبة لضمائر النفوس ، فالصدور أطلقت على ما حلّ فيها من النوايا والمضمرات ، فكلمة { ذَات } بمعنى صاحبة ، وهي مؤنث ( ذو ) أحدِ الأسماء الخمسة ، فأصل ألفها الواو ووزنها ( ذَوَت ) انقلبت واوها ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، قال في « الكشّاف » في تفسير سورة [ فاطر : 38 ] في قوله تعالى : { إنه عليم بذات الصدور } هي تأنيث ذُو ، وذُو موضوع لمعنى الصحبة من قوله :
لتَغْنِيَ عَنّي ذَا إنائِك أجمَعا
يعني أنّ ذات الصدور الحالةُ التي قرارتها الصدور فهي صاحبتها وساكنتُها ، فذات الصدور النوايا والخواطر وما يهمّ به المرء وما يدبّره ويكيده .