( قالوا : يا أبانا ، إنا ذهبنا نستبق ، وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب . وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين . وجاءوا على قميصه بدم كذب ، قال : بل سولت لكم أنفسكم أمرا ، فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون ) . .
لقد ألهاهم الحقد الفائر عن سبك الكذبة ، فلو كانوا أهدأ أعصابا ما فعلوها منذ المرة الأولى التي يأذن لهم فيها يعقوب باصطحاب يوسف معهم ! ولكنهم كانوا معجلين لا يصبرون ، يخشون ألا تواتيهم الفرصة مرة أخرى . كذلك كان التقاطهم لحكاية الذئب المكشوفة دليلا على التسرع ، وقد كان أبوهم يحذرهم منها أمس ،
وهم ينفونها ، ويكادون يتهكمون بها . فلم يكن من المستساغ أن يذهبوا في الصباح ليتركوا يوسف للذئب الذي حذرهم أبوهم منه أمس ! وبمثل هذا التسرع جاءوا على قميصه بدم كذب لطخوه به في غير إتقان ، فكان ظاهر الكذب حتى ليوصف بأنه كذب . .
وجاءوا أباهم عشاء يبكون ، قالوا : يا أبانا ، إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب . .
ويحسون أنها مكشوفة ، ويكاد المريب أن يقول خذوني ، فيقولون :
( وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ) . .
أي وما أنت بمطمئن لما نقوله ، ولو كان هو الصدق ، لأنك تشك فينا ولا تطمئن لما نقول .
يقول تعالى مخبرا عن الذي اعتمده إخوة يوسف بعدما ألقوه في غيابة الجب : أنهم{[15085]} رجعوا إلى أبيهم في ظلمة الليل يبكون ، ويظهرون الأسف والجزع على يوسف ويتغممون لأبيهم ، وقالوا معتذرين عما وقع فيما زعموا : { إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أي : نترامى ، { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا } أي : ثيابنا وأمتعتنا ، { فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ } وهو الذي كان [ قد ]{[15086]} جزع منه ، وحذر عليه .
وقولهم : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } تلطفٌ عظيم في تقرير ما يحاولونه ، يقولون : ونحن نعلم أنك لا تصدقنا - والحالة هذه - لو كنا عندك صادقين ، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك ، لأنك خشيت أن يأكله الذئب ، فأكله الذئب ، فأنت معذور في تكذيبك لنا ؛ لغرابة ما وقع ، وعجيب ما اتفق لنا في أمرنا هذا .
{ وَجَآءُوَا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ * قَالُواْ يَأَبَانَا إِنّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لّنَا وَلَوْ كُنّا صَادِقِينَ } .
يقول جلّ ثناؤه : وجاء إخوة يوسف أباهم ، بعد ما ألقوا يوسف في غيابة الجبّ ، { عِشاءً يَبْكُونَ } . وقيل : إن معنى قوله : { نَسْتَبِقُ } : ننتضل من السباق . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أقبلوا على أبيهم عشاء يبكون . فلما سمع أصواتهم ، فزع ، وقال : ما لكم يا بنيّ ؟ هل أصابكم في غنمكم شيء ؟ قالوا : لا ، قال : فما فعل يوسف ؟ قالوا : { يا أبانا إنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فأكَلَهُ الذَئْبُ } ، فبكى الشيخ ، وصاح بأعلى صوته ، وقال : أين القميص ؟ فجاءوه بالقميص عليه دم كذب ، فأخذ القميص ، فطرحه على وجهه ، ثم بكى حتى تخضب وجهه من دم القميص .
وقوله : { وَما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا } ، يقولون : وما أنت بمصدّقنا على قيلنا : إن يوسف أكله الذئب ، { وَلَوْ كُنّا صَادِقِينَ } . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السديّ : { وَما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ } ، لَنا قال : بمصدّق لنا . . . { وَلَوْ كُنّا صَادِقِينَ } ، إما خبر عنهم أنهم غير صادقين ، فذلك تكذيب منهم أنفسهم ، أو خبر منهم عن أبيهم أنه لا يصدقهم لو صدَقوه ، فقد علمت أنهم لو صَدقوا أباهم الخبر صَدّقهم ؟ قيل : ليس معنى ذلك بواحد منهما ، وإنما معنى ذلك : وما أنت بمصدّق لنا ولو كنا من أهل الصدق الذين لا يتهمون لسوء ظنك بنا وتهمتك لنا .
وروي أن يعقوب لما سمع بكاءهم قال : ما بالكم أجرى في الغنم شيء ؟ قالوا : لا ، قال فأين يوسف ؟ قالوا : { ذهبنا نستبق } ؛ فبكى وصاح وقال : أين قميصه ؟ - وسيأتي قصص ذلك .
و { نستبق } معناه : على الأقدام أي نجري غلاباً ، وقيل : بالرمي أي ننتضل . وهو نوع من المسابقة ، قاله الزجاج .
وقولهم : { وما أنت بمؤمن } أي بمصدق ؛ ومعنى الكلام : أي لو كنا موصوفين بالصدق ؛ وقيل المعنى : ولو كنت تعتقد ذلك فينا في جميع أقوالنا قديماً لما صدقتنا في هذه النازلة خاصة لما لحقك فيها من الحزن ونالك من المشقة ولما تقدم من تهمتك لنا .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ذكره الزجاج وغيره ، ويحتمل أن يكون قولهم : { ولو كنا صادقين } ، بمعنى : وإن كنا صادقين - وقاله المبرد - كأنهم أخبروا عن أنفسهم أنهم صادقون في هذه النازلة فهو تمادٍ منهم في الكذب ويكون بمنزلة قوله : { أو لو كنا كارهين }{[6596]} بمعنى أو إن كنا كارهين .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا المثال عندي نظر ، وتخبط الرماني في هذا الموضع ، وقال : ألزموا أباهم عناداً ونحو هذا مما لا يلزم لأنهم لم يقولوا : وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين في معتقدك ، بل قالوا : وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين فيما نعتقد نحن ، وأما أنت فقد غلب عليك سوء الظن بنا . ولا ينكر أن يعتقد الأنبياء عليهم السلام صدق الكاذب وكذب الصادق ما لم يوح إليهم ، فإنما هو بشر ، كما قال صلى الله عليه وسلم : «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه . . » الحديث{[6597]} . فهذا يقتضي أنه جوز على نفسه أن يصدق الكاذب . وكذلك قد صدق عليه السلام عبد الله بن أبيّ حين حلف على مقالة زيد بن أرقم وكذب زيداً ، حتى نزل الوحي ، فظهر الحق{[6598]} ، فكلام اخوة يوسف إنما هو مغالطة ومحاجة لا إلزام عناد .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 16]
يقول جلّ ثناؤه: وجاء إخوة يوسف أباهم، بعد ما ألقوا يوسف في غيابة الجبّ، {عِشاءً يَبْكُونَ}. وقيل: إن معنى قوله: {نَسْتَبِقُ}: ننتضل من السباق...
وقوله: {وَما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا}، يقولون: وما أنت بمصدّقنا على قيلنا: إن يوسف أكله الذئب، {وَلَوْ كُنّا صَادِقِينَ}... وما أنت بمصدّق لنا ولو كنا من أهل الصدق الذين لا يتهمون لسوء ظنك بنا وتهمتك لنا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذا القول منهم له في الظاهر عظيم لأنهم قالوا: (وما أنت بمؤمن لنا) في هذا وما كنا صادقين عندك من قبل في غير هذا. أو يكون قوله: (وما أنت بمؤمن لنا) أي تتهمنا، ولا تصدقنا، لأنه اتهمهم حين (قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب) [الآية: 13] فاعترضت له التهمة وليس في الاتهام تكذيب إنما في الوقف؛ لأن من ائتمن آخر في شيء، ثم اتهمه فيه، لا يكون في اتهامه إياه تكذيب. فعلى ذلك قولهم: (وما أنت بمؤمن لنا) أي تتهمنا بما سبقت من التهمة (ولو كنا صادقين).
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قَالُواْ يا أبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أي نتسابق... والمعنى: نتسابق في العدو أو في الرمي. وجاء في التفسير: ننتضل. {بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} بمصدّق لنا {وَلَوْ كُنَّا صادقين} ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة، لشدّة محبتك ليوسف، فكيف وأنت سيء الظن بنا، غير واثق بقولنا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... {قالوا يا أبانا}؛ ولما كانوا عالمين بأنه عليه الصلاة والسلام لا يصدقهم لما له من نور القلب وصدق الفراسة ولما لهم من الريبة، أكدوا فقالوا: {إنا ذهبنا نستبق} أي نوجد المسابقة بغاية الرغبة من كل منا في ذلك {وتركنا يوسف} أخانا {عند متاعنا} أي ما كان معنا مما نحتاج إليه في ذلك الوقت من ثياب وزاد ونحوه {فأكله} أي فتسبب عن انفراده أن أكله {الذئب وما} أي والحال أنك ما {أنت بمؤمن لنا} أي من التكذيب، أي بمصدق {ولو كنا} أي كوناً هو جبلة لنا {صادقين} أي من أهل الصدق والأمانة بعلمك، لأنك لم تجرب علينا قط كذباً، ولا حفظت عنا شيئاً منه جداً ولا لعباً...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق} أي ذهبنا من مكان اجتماعنا إلى السباق يتكلف كل منا أن يسبق غيره، فالاستباق تكلف السبق وهو الغرض من المسابقة والتسابق بصيغتي المشاركة التي يقصد بها الغلب، وقد يقصد لذاته أو لغرض آخر في السبق بصيغتي المشاركة التي يقصد بها الغلب، وقد يقصد لذاته أو لغرض آخر في السبق ومنه {فاستبقوا الخيرات} [البقرة: 148] فهذا يقصد به السبق لذاته لا للغلب، وقوله الآتي في هذه السورة {واستبقا الباب} [يوسف: 25] كان يقصد به يوسف الخروج من الدار هربا من حيث تقصد امرأة العزيز باتباعه إرجاعه، وصيغة المشاركة لا تؤدي هذا المعنى، ولم يفطن الزمخشري علامة اللغة ومن تبعه لهذا الفرق الدقيق. {وتركنا يوسف عند متاعنا} من فضل الثياب وماعون الطعام والشراب [مثلا] يحفظه إذ لا يستطيع مجاراتنا في استباقنا الذي يرهق به قوانا {فأكله الذئب} إذ أوغلنا في البعد عنه فلم نسمع صراخه واستغاثته {وما أنت بمؤمن لنا} أي بمصدق لنا في قولنا هذا لاتهامك إيانا بكراهة يوسف وحسدنا له على تفضيلك إياه علينا في الحب والعطف {ولو كنا صادقين} في الأمر الواقع أو نفس الأمر، أو ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا في هذا الخبر لشدة وجدك بيوسف...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(قالوا: يا أبانا، إنا ذهبنا نستبق، وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب. وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين. وجاءوا على قميصه بدم كذب، قال: بل سولت لكم أنفسكم أمرا، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون).. لقد ألهاهم الحقد الفائر عن سبك الكذبة، فلو كانوا أهدأ أعصابا ما فعلوها منذ المرة الأولى التي يأذن لهم فيها يعقوب باصطحاب يوسف معهم! ولكنهم كانوا معجلين لا يصبرون، يخشون ألا تواتيهم الفرصة مرة أخرى. كذلك كان التقاطهم لحكاية الذئب المكشوفة دليلا على التسرع، وقد كان أبوهم يحذرهم منها أمس، وهم ينفونها، ويكادون يتهكمون بها. فلم يكن من المستساغ أن يذهبوا في الصباح ليتركوا يوسف للذئب الذي حذرهم أبوهم منه أمس! وبمثل هذا التسرع جاءوا على قميصه بدم كذب لطخوه به في غير إتقان، فكان ظاهر الكذب حتى ليوصف بأنه كذب.. فعلوا هذا. وجاءوا أباهم عشاء يبكون، قالوا: يا أبانا، إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب.. ويحسون أنها مكشوفة، ويكاد المريب أن يقول خذوني، فيقولون: (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين).. أي وما أنت بمطمئن لما نقوله، ولو كان هو الصدق، لأنك تشك فينا ولا تطمئن لما نقول...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{نَسْتَبِقُ}: الاستباق: افتعال من السبق، ومنه المسابقة، وهو على ثلاثة أوجه: سباق بالرمي، وسباق على الخيل والإبل، وعلى الأقدام. {مَتَاعِنَا}: المتاع ما يحمله المسافر من زاد ولباس. {قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} في سباق عنيف يغفل الإنسان فيه عن نفسه وعمن حوله، ولم يكن من الممكن ليوسف أن يستبق معنا لصغر سنه وضعف جسمه، {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا} ليقوم بحراسته، وابتعدنا عنه في تراكضنا نحو الهدف، فاستغل الذئب هذه الفرصة، فلم يجد عنده أحداً، ولم يملك أن يدافع عن نفسه، {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} وتلك هي الحقيقة الصارخة التي عشناها بكل ما يختزنه الإنسان من قساوة الألم، وعنف الحزن، وفداحة الخسارة... ولا نملك ما نؤكد به لك هذه الحقيقة {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} لأن الشك يغلب جانب ثقتك بنا، مع أن الأمر محتمل جداً، لكثرة ما تقع فيه أمثال هذه الحوادث، وقد كنت أوّل من أثار المسألة أمامنا على أساس الاحتمال الذي استبعدناه واستقربته، ولكن، ماذا نقول لك أمام حالة الشك التي تنطق بها كل لمحةٍ في عينيك، وكل نبضة في وجهك، وما الطريق التي نرفع فيها عن أنفسنا الشبهة، ونؤكد لك الحقيقة؟. إن من المؤسف أن تفقد ثقتك بنا وتتهمنا بما لا دخل لنا به {وَلوْ كُنَّا صَادِقِينَ} في ما نخبرك به. ولكن ما القيمة في أن يكون الإنسان صادقاً، وهو لا يملك الحجة القاطعة على صدقه؟...