ومن ثم يرسم لهم صورة زرية تليق بهذا التقليد وهذا الجمود ، صورة البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها ، بل إذا صاح بها راعيها سمعت مجرد صوت لا تفقه ماذا تعني ! بل هم أضل من هذه البهيمة ، فالبهمية ترى وتسمع وتصيح ، وهم صم بكم عمي :
( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء . صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) !
صم بكم عمي . ولو كانت لهم آذان والسنة وعيون . ما داموا لا ينتفعون بها ولا يهتدون . فكأنها لا تؤدي وظيفتها التي خلقت لها ، وكأنهم إذن لم توهب لهم آذان وألسنة وعيون .
وهذه منتهى الزراية بمن يعطل تفكيره ، ويغلق منافذ المعرفة والهداية ، ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة . .
ثم ضرب لهم تعالى مثلا كما قال تعالى : { لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ } [ النحل : 60 ] فقال : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها ، بل إذا نعق بها راعيها ، أي : دعاها إلى ما يرشدها ، لا تفقه ما يقول ولا تفهمه ، بل إنما تسمع صوته فقط .
هكذا روي عن ابن عباس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراساني والربيع بن أنس ، نحو هذا .
وقيل : إنما هذا مثل ضرب لهم في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئًا ، اختاره ابن جرير ، والأول أولى ؛ لأن الأصنام لا تسمع شيئًا ولا تعقله ولا تبصره ، ولا بطش لها ولا حياة فيها{[3055]} . وقوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } أي : صُمٌّ عن سماع الحق ، بُكْمٌ لا يتفوهون به ، عُمْيٌ عن رؤية طريقه ومسلكه { فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } أي : لا يعقلون شيئًا ولا يفهمونه ، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ الأنعام : 39 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : مثل الكافر في قلة فهمه عن الله ما يتلى عليه في كتابه وسوء قبوله لما يدعى إليه من توحيد الله ويوعظ به ، مثل البهيمة التي تسمع الصوت إذا نعق بها ولا تعقل ما يقال لها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : وَمَثَلُ الّذين كَفَروا كمَثَلِ الّذِي يَنْعِق بِمَا لا يَسْمَع إلاّ دُعاءً ونِدَاءً قال : مثل البعير أو مثل الحمار تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول .
حدثني محمد بن عبد الله بن زريع ، قال : حدثنا يوسف بن خالد السمتي ، قال : حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : كمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ قال : هو كمثل الشاة ونحو ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَل الّذِي يَنْعِقُ بمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَندَاءً كمثل البعير والحمار والشاة إن قلت لبعضها كل لا يعلم ما تقول غير أنه يسمع صوتك ، وكذلك الكافر إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وعظته لم يعقل ما تقول ، غير أنه يسمع صوتك .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : مثل الدابة تنادي فتسمع ولا تعقل ما يقال لها ، كذلك الكافر يسمع الصوت ولا يعقل .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد : كَمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمعَ قال : مثل الكافر مثل البهيمة تسمع الصوت ولا تعقل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كمثَلِ الّذي ينعق مثل ضربه الله للكافر يسمع ما يقال له ولا يعقل ، كمثل البهيمة تسمع النعيق ولا تعقل .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَنِدَاء يقول : مثل الكافر كمثل البعير والشاة يسمع الصوت ولا يعقل ولا يدري ما عني به .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : كمَثَلَ الّذي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَنِدَاءً قال : هو مثل ضربه الله للكافر ، يقول : مثل هذا الكافر مثل هذه البهيمة التي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها ، فكذلك الكافر لا ينتفع بما يقال له .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : هو مثل الكافر يسمع الصوت ولا يعقل ما يقال له .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : سألت عطاء ، ثم قلت له : يقال لا تعقل ، يعني البهيمة ، إلا أنها تسمع دعاء الداعي حين ينعق بها ، فهم كذلك لا يعقلون وهم يسمعون . فقال : كذلك . قال : وقال مجاهد : «الذي ينعق » الراعي «بما لا يسمع » من البهائم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كمثل الذي ينعق الراعي بما لا يسمع من البهائم .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : كَمَثلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً ونِدَاءً لا يعقل ما يقال له إلا أن تُدعى فتأتي أو ينادَى بها فتذهب ، وأما الذي ينعق فهو الراعي الغنم كما ينعق الراعي بما لا يسمع ما يقال له ، إلا أن يدعى أو ينادى ، فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم يدعو من لا يسمع إلا خرير الكلام يقول الله : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ .
ومعنى قائلي هذا القول في تأويلهم ما تأوْلوا على ما حكيت عنهم : ومثل وعظ الذين كفروا وواعظهم كمثل نعق الناعق بغنمه ونعيقه بها . فأضيف المثل إلى الذين كفروا ، وترك ذكر الوعظ والواعظ لدلالة الكلام على ذلك ، كما يقال : إذا لقيت فلانا فعظمه تعظيم السلطان ، يراد به كما تعظم السلطان ، وكما قال الشاعر :
فَلَسْتُ مُسَلّما ما دُمْتُ حَيّا عَلى زَيْدٍ بِتَسْلِيمِ الأمِير
يراد به : كما يسلم على الأمير . وقد يحتمل أن يكون المعنى على هذا التأويل الذي تأوله هؤلاء : ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم عن الله وعن رسوله كمثل المنعوق به من البهائم الذي لا يفقه من الأمر والنهي غير الصوت ، وذلك أنه لو قيل له : اعتلف أو رد الماء لم يدر ما يقال له غير الصوت الذي يسمعه من قائله فكذلك الكافر ، مثله في قلة فهمه لما يؤمر به وينهى عنه بسوء تدبره إياه وقلة نظره وفكره فيه ، مثل هذا المنعوق به فيما أمر به ونهي عنه . فيكون المعنى للمنعوق به والكلام خارج على الناعق ، كما قال نابغة بني ذبيان :
وَقَدْ خِفْتُ حتّى ما تَزِيدُ مَخافَتِي على وَعِلٍ في ذِي الَمطارَةِ عاقِلِ
والمعنى : حتى ما تزيد مخافة الوعل على مخافتي ، وكما قال الاَخر :
كانَتْ فَريضَةُ ما تَقُولُ كمَا كانَ الزّناءُ فَريضَةَ الّرجْمِ
والمعنى : كما كان الرجم فريضة الزنا ، فجعل الزنا فريضة الرجم لوضوح معنى الكلام عند سامعه . وكما قال الاَخر :
إنّ سِرَاجا لَكَريمٌ مَفْخَرُهْ *** تَحْلَى به العَيْنُ إذا ما تَجْهَرُهْ
والمعنى : يحلى بالعين فجعله تحلى به العين . ونظائر ذلك من كلام العرب أكثر من أن يحصى مما توجهه العرب من خبر ما تخبر عنه إلى ما صاحبه لظهور معنى ذلك عند سامعه ، فتقول : اعرض الحوض على الناقة ، وإنما تعرض الناقة على الحوض ، وما أشبه ذلك من كلامها .
وقال آخرون : معنى ذلك : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم وأوثانهم التي لا تسمع ولا تعقل ، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ، وذلك الصدى الذي يسمع صوته ، ولا يفهم به عنه الناعق شيئا .
فتأويل الكلام على قول قائل ذلك : ومثل الذين كفروا وآلهتهم في دعائهم إياها وهي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بما لا يسمعه الناعق إلا دعاء ونداء ، أي لا يسمع منه الناعق إلا دعاءه . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلا دُعاءً وَنِدَاءً قال : الرجل الذي يصيح في جوف الجبال فيجيبه فيها صوت يراجعه يقال له الصدى ، فمثل آلهة هؤلاء لهم كمثل الذي يجيبه بهذا الصوت لا ينفعه لا يسمع إلا دعاء ونداء . قال : والعرب تسمي ذلك الصّدى .
وقد تحتمل الآية على هذا التأويل وجها آخر غير ذلك ، وهو أن يكون معناها : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنم له من حيث لا تسمع صوته غنمه فلا تنتفع من نعقه بشيء غير أنه في عناء من دعاء ونداء ، فكذلك الكافر في دعائه آلهته إنما هو في عناء من دعائه إياها وندائه لها ، ولا ينفعه شيء .
وأولى التأويل عندي بالآية التأويل الأول الذي قاله ابن عباس ومن وافقه عليه ، وهو أن معنى الآية : ومثل وعظ الكافر وواعظه كمثل الناعق بغنمه ونعيقه ، فإنه يسمع نعقه ولا يعقل كلامه على ما قد بينا قبل .
فأما وجه جواز حذف «وعظ » اكتفاء بالمثل منه فقد أتينا على البيان عنه في قوله : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا وفي غيره من نظائره من الاَيات بما فيه الكفاية عن إعادته . وإنما اخترنا هذا التأويل ، لأن هذه الآية نزلت في اليهود ، وإياهم عنى الله تعالى ذكره بها ، ولم تكن اليهود أهل أوثان يعبدونها ولا أهل أصنام يعظمونها ويرجون نفعها أو دفع ضرها . ولا وجه إذ كان ذلك كذلك لتأويل من تأول ذلك أنه بمعنى : مثل الذين كفروا في ندائهم الاَلهة ودعائهم إياها .
فإن قال قائل : وما دليلك على أن المقصود بهذه الآية اليهود ؟ قيل : دليلنا على ذلك ما قبلها من الاَيات وما بعدها ، فإنهم هم المعنيون به ، فكان ما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أحق وأولى من أن يكون خبرا عن غيرهم حتى تأتي الأدلة واضحة بانصراف الخبر عنهم إلى غيرهم . هذا مع ما ذكرنا من الأخبار عمن ذكرنا عنه أنها فيهم نزلت ، والرواية التي روينا عن ابن عباس أن الآية التي قبل هذه الآية نزلت فيهم . وبما قلنا من أن هذه الآية معنيّ بها اليهود كان عطاء يقول .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء في هذه الآية : هم اليهود الذين أنزل الله فيهم : إنّ الّذينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللّهُ مِنَ الكِتابِ ويَشْتَرونَ بِه ثَمَنا قَلِيلاً إلى قوله : فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّار .
وأما قوله يَنْعِقُ فإنه يصوّت بالغنم النعيق والنعاق ، ومنه قول الأخطل :
فانْعِقْ بِضأنِكَ يا جَرِيرُ فإنّمَا مَنّتْكَ نَفْسُكَ فِي الخَلاءِ ضَلالاَ
القول في تأويل قوله تعالى : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون .
يعني تعالى ذكره بقوله : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ ، هؤلاء الكفار الذين مثلهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ، صمّ عن الحقّ فهم لا يسمعون ، بكم يعني خرس عن قيل الحق والصواب والإقرار بما أمرهم الله أن يقرّوا به وتبيين ما أمرهم الله تعالى ذكره أن يبينوه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس ، فلا ينطقون به ولا يقولونه ولا يبينونه للناس ، عميٌ عن الهدى وطريق الحق فلا يبصرونه . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد عن سعيد ، عن قتادة قوله : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يقول : صم عن الحق فلا يسمعونه ولا ينتفعون به ولا يعقلونه ، عمي عن الحق والهدى فلا يبصرونه ، بكم عن الحق فلا ينطقون به .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : صُمٌ بُكم عُمْيٌ يقول عن الحق .
حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يقول : لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه .
وأما الرفع في قوله : صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ فإنه أتاه من قبل الابتداء والاستئناف ، يدل على ذلك قوله : فَهُمْ لا يَعْقِلُون كما يقال في الكلام : هو أصمّ لا يسمع ، وهو أبكم لا يتكلم .