وأخيراً يوجه الله - سبحانه - رسوله [ ص ] إلى مواجهة المشركين في موقف الإشهاد على قضية التشريع ، كما واجههم من قبل في موقف الإشهاد على قضية الألوهية في أوائل السورة :
( قل : أي شيء أكبر شهادة ؟ قل الله . شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن
بلغ . أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ؟ قل : لا أشهد . قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون ) . .
( قل : هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا . فإن شهدوا فلا تشهد معهم . ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة ، وهم بربهم يعدلون ) . .
إنها مواجهة هائلة ، ومواجهة كذلك فاصلة . ودلالتها على طبيعة هذا الدين غير خافية . . إن هذا الدين يسوي بين الشرك العلني الواضح باتخاذ آلهة أخرى مع الله ؛ وبين الشرك الآخر الذي يتمثل في مزاولة حق الحاكمية والتشريع للناس بما لم يأذن به الله - دون اعتبار لما يدعونه هم من أن ما يشرعونه هو شريعة الله ! - كما أنه يصم الذين يرتكبون هذه الفعلة بأنهم يكذبون بآيات الله ، ولا يؤمنون بالآخرة ، وهم بربهم يعدلون . . أي يجعلون له أنداداً تعدله . . وهو ذات التعبير الذي جاء في أول آية في السورة وصفا للذين كفروا :
( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) . .
هذا حكم الله على الذين يغتصبون حق الحاكمية ويزاولونه بالتشريع للناس - دون اعتبار لدعواهم أن ما يشرعونه هو من شريعة الله ! - وليس بعد حكم الله رأي لأحد في هذه القضية الخطيرة .
فإذا أردنا أن نفهم لماذا يقضي الله - سبحانه - بهذا الحكم ؟ ولماذا يعدهم مكذبين بآياته ؛ غير مؤمنين بالآخرة ، مشركين يعدلون بربهم غيره . . فإن لنا أن نحاول الفهم . فتدبر حكمة الله في شرعه وحكمه أمر مطلوب من المسلم . .
إن الله قد حكم على المشرعين للناس من عند أنفسهم - مهما قالوا أنه من شرع الله - بأنهم يكذبون بآياته . لأن آياته - إن كان المراد بها آياته الكونية - كلها تشهد بأنه الخالق الرازق الواحد . . والخالق الرازق هو المالك . فيجب أن يكون وحده المتصرف الحاكم . . فمن لم يفرده - سبحانه - بالحاكمية فقد كذب بآياته هذه . . وإن كان المقصود آياته القرآنية ، فالنصوص فيها حاسمة وصريحة وواضحة في وجوب إفراده - سبحانه - بالحاكمية في حياة البشر الواقعية ، واتخاذ شريعته وحدها قانونا ، وتعبيد الناس له وحده بالشرع النافذ والحكم القاهر
كذلك حكم عليهم - سبحانه - بأنهم لا يؤمنون بالآخرة . . فالذي يؤمن بالآخرة ، ويوقن أنه ملاق ربه يوم القيامة ، لا يمكن أن يعتدي على ألوهية الله ، ويدعي لنفسه حقه الذي يتفرد به . وهو حق الحاكمية المطلقة في حياة البشر . ممثلة هذه الحاكمية في قضائه وقدره ، وفي شريعته وحكمه . .
ثم حكم عليهم في النهاية بأنهم بربهم يعدلون . . أي أنه حكم عليهم بالشرك الذي وصف به الكافرين . . ذلك أنهم لو كانوا موحدين ما شاركوا الله - سبحانه - في حق الحاكمية الذي تفرد به . أو ما قبلوا من عبد أن يدعيه ويزاوله وهم راضون !
هذه - فيما يبدو لنا - هي علة حكم الله على من يزاولون حق الحاكمية ويشرعون للناس ما لم يأذن به ، بالتكذيب بآياته ، وعدم الإيمان بالآخرة والشرك الذي يتحقق به الكفر . . أما الحكم ذاته فلا يملك " مسلم " أن يجادل فيه . فقد صدرت فيه كلمة الفصل التي لا معقب عليها . فلينظر كل " مسلم " كيف يتأدب أمام كلمة العزيز الحكيم . .
وقوله تعالى : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ } أي : أحضروا شهداءكم { الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا } أي : هذا الذي حرمتموه وكذبتم وافتريتم على الله فيه ، { فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ } أي : لأنهم إنما يشهدون والحالة هذه كذبًا وزورًا ، { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أي : يشركون به ، ويجعلون له عديلا .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ هَلُمّ شُهَدَآءَكُمُ الّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنّ اللّهَ حَرّمَ هََذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ وَهُم بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المفترين على ربهم من عبدة الأوثان ، الزاعمين أن الله حرّم عليهم ما هم محرموه من حروثهم وأنعامهم : هَلُمّ شُهَدَاءَكُمْ يقول : هاتوا شهداءكم الذين يشهدون على الله أنه حرّم عليكم ما تزعمون أنه حرّمه عليكم . وأهل العالية من تهامة توحد «هلمّ » في الواحد والاثنين والجمع ، وتذكر في المؤنث والمذكر ، فتقول للواحد : هلمّ يا فلان وللانثين والجمع كذلك ، وللأنثى مثله ومنه قول الأعشى :
وكانَ دَعا قَوْمَهُ دَعْوَةً ***هَلُمّ إلى أمْرِكُمْ قَدْ صُرِمْ
يُنشد «هلمّ » و«هلمّوا » . وأما أهل السافلة من نجد فإنهم يوحدون للواحد ويثنون للاثنين ويجمعون للجميع ، فيقال للواحد من الرجال : هلمّ ، وللواحدة من النساء : هلمّي ، وللاثنين : هلمّا ، وللجماعة من الرجال هلمّوا ، وللنساء : هَلْمُمْن .
قال الله لنبيه : فإنْ شَهِدُوا يقول : يا محمد ، فإن جاءوك بشهداء يشهدون أن الله حرّم ما يزعمون أن الله حرّمه عليهم . فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ فإنهم كذبة وشهود زور في شهادتهم بما شهدوا به من ذلك على الله . وخاطب بذلك جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم ، والمراد به أصحابه والمؤمنون به . وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءَ الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِنا يقول : ولا تتابعهم على ما هم عليه من التكذيب بوحي الله وتنزيله في تحريم ما حرّم وتحليل ما أحلّ لهم ، ولكن اتبع ما أوحى إليك من كتاب ربك الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وَالّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ يقول : ولا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون بالاَخرة ، فتكذّب بما هم به مكذّبون من إحياء الله خلقه بعد مماتهم ونشره إياهم بعد فنائهم . وَهُمْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ يقول : وهم مع تكذيبهم بالبعث بعد الممات وجحودهم قيام الساعة بالله يعدلون الأوثان والأصنام ، فيجعلونها له عِدلاً ، ويتخذونها له ندّا يعبدونها من دونه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : هَلُمّ شُهَدَاءَكُمُ الّذِينَ يَشْهَدُونَ أنّ اللّهَ حَرّمَ هَذَا يقول : قل أروني الذين يشهدون أن الله حرّم هذا مما حرّمت العرب ، وقالوا : أمرنا الله به . قال الله لرسوله : فإنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : هَلُمّ شُهَدَاءَكُمْ الّذِينَ يَشْهَدُونَ أنّ اللّهَ حَرّمَ هَذَا قال : البحائر والسّيّب .