اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشۡهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَاۖ فَإِن شَهِدُواْ فَلَا تَشۡهَدۡ مَعَهُمۡۚ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ} (150)

قوله : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُم } " هَلُمَّ " هنا اسْم فِعْلِ معنى " أحْضِروا " ، و " شُهَدَاءكم " مفْعُول به ؛ فإن اسْم الفِعْل يعمل عَمَلَ مُسَمَّاه من تعدٍّ ولُزُوم .

واعمل أن " هَلُمَّ " فيها لُغَتان : لغة الحِجَازيِّين ، ولغة التميميين :

فأمّا لغة الحِجَاز : فإنِّها فيها بصيغَةٍ واحدةٍ سواء اسْندت لمُفْرَدٍ أم مُثَنى أم مَجْمُوع أم مؤنث ، نحو : هَلُمَّ يا زَيْد ، يا زَيْدَان ، يا زَيْدُون ، يا هِنْد ، يا هِنْدَان ، يا هِنْدات ، وهي على هذه اللّغَة عن النُّحَاةِ اسْم فِعْل ؛ لعدم تغيُّرها ، والتزمت العَرَب فَتْح المِيم على هذه اللّغة ، وهي حركة بناء بُنيت على الفتح تخفيفاً .

وأما لغة تميم – وقد نسبها الليث إلى بني سعد - : فتلحقُها الضمائر كما تلحق سائر الأفْعَال ، فَيُقَال : هَلُمَّا ، هَلُمُّوا هلمِّي ، هَلُمُمْنَ .

وقال الفراء : " يقال هَلُمِّينَ يا نِسْوَة " وهي على هذه اللُّغَة فعل صَرِيحٌ لا يتصرف ؛ هذا قول الجُمْهُور ، وقد خَالفَ بَعْضُهم في فِعْليَّتِها على هذه اللُّغَة ؛ وليس بشيء ، والتزَمَت العَرَب أيضاً فِيهَا على لُغَة تَمِيم فَتْح الميم إذا كانت مُسْندة لضيمر الواحِد المُذَكَّر ، ولم يُجِيزُوا فيها ما أجَازُوا في ردَّ وشدَّ من الضَّمِّ والكَسْر .

واختلف النحويون فيها : هل هي بَسِيطَةٌ أو مركبة ؟ ثم القائلون بترْكِيبَها اختلفوا فيما رُكِّبَت مِنهُ : فَجُمْهُور البَّصْريِّين على أنَّها مركَّبَة من " هَا " الَّتِي للتَّنْبِيه ، ومن " الممْ " أمراً من لَمَّ يَلُمُّ ، فلما رُكِّبَتا حُذِفَتْ ألِفُها لكثرة الاسْتِعْمَال ، وسقطت هَمْزَة الوصْل ؛ للاسْتِغْنَاء عنها بِحَرَكة الميم المنقُولة إليْهَا لأجْل الإدْغَام ، وأدغمت الميمُ في الميم ، وبُنيت على الفَتْح .

وقيل : بل نُقِلَت حركَةُ الميم للاَّم ، فَسَقَطت الهَمْزَة للاستِغْنَاء عنها ، فلّما جِيئَ ل " هَا " التي للتَّنْبيه ، التقى ساكنان : ألف " هَا " واللاَّم من " لَمَّ " لأنها سَاكِنَة تقديراً ، ولم يَعْتَدوا بهذه الحركَة ؛ لأن حَركة النَّقْل عارِضَة ، فحُذِفَت ألِف " هاء " لالْتِقَاء السَّاكنيْن تقديراً .

وقيل : بل حُذِفَت ألف " هَا " لالتقاء السَّاكنين ؛ وذلك أنَّه لمَّا جيء بها مع الميم ، سَقَطَت هَمْزَة الوَصْل في الدرج ، فالتقى ساكنان : ألف " ها " ولام " الممْ " فحذفت ألف " هَا " فبقى " هَلْمُم " فنقلت حَرَكَة الميمِ إلى اللاَّم وأدْغِمَت .

وذهب بعضهم إلى أنَّها مركَّبة من " هَا " التي للتَّنْبيه أيضاً ، ومن " لَمَّ " أمْراً مِنْ " لَمَّ اللَّهُ شَعْثَه " أي : جَمَعَه ، والمعنى عليه في هَلُمَّ ؛ لأنه بمعنى : اجمع نَفْسَك إلَيْنَا ، فحذفت ألِف " ها " لكثْرة الاستِعْمَال ، وهذا سَهْل جداً ؛ إذا ليس فيه إلا عَمَلٌ واحِدٌ ، هو حَذْفُ ألف " ها " ؛ وهو مَذْهَب الخَلِيل وسيبوَيْه{[15522]} .

وذهب الفرَّاء إلى أنها مركّبة من " هَلْ " التي هي للزَّجْر ، ومن " أمَّ " أمراً من " الأمّ " وهو القَصْد ، وليس فيه إلا عَمَلٌ واحد ؛ وهو نَقْل حَرَكة الهَمْزة إلى لامِ " هَلْ " وقد رُدَّ كل واحد من هذه المَذَاهِب بما يطُولُ الكتاب بذِكْرِه من غير فَائِدة .

و " هلم " : تكون مُتَعَدِّيَة بمعنى أحْضِر ، ولازمَة بمعنى أقْبِل ، فَمَنْ جَعَلَها مُتعدِّية ، أخذها مِنَ اللَّمِّ وهو الجمع ، ومَنْ جَعَلَها قَاصِرَةً ، أخذها مِن اللَّمَمِ وهو الدُّنُو والقُرْب .

فصل في المقصود بإقامة الشهداء

اعلم أنه -تبارك وتعالى- نبه استِدْعَاء إقامة الشُّهَدَاء من الكَافِرين ؛ لِيُظْهِر أن لا شَاهِد لهم على تَحْرِيم ما حَرَّمُوه .

وقوله : " فإن شهدوا فلا تشهد معهم " تنْبِيهاً على كَوْنهم كاذِبين ، ثم بين-تعالى-أنَّه إن وقعَت مِنْهُم تلك الشَّهَادة ، فَعَنِ اتِّبَاع الهَوَى ، فأنت لا تَتَّبع أهواءهم ، ثم زاد في تَقْبيح ذلك بأنهم لا يؤمنون بالآخِرَة ، وكانوا ممَّن ينكرُون البَعْثَ والنُّشُور ، ثم زَاد في تَقْبيح ذلك بأنهم يَعْدِلُون برَبِّهم ، ويَجْعَلُون له شُرَكَاء- سبحانه وتعالى عما يَقُولون عُلُوَّاً كبيراً- .


[15522]:ينظر: الكتاب 2/158.