في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{قُلۡ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشۡهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَاۖ فَإِن شَهِدُواْ فَلَا تَشۡهَدۡ مَعَهُمۡۚ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ} (150)

136

وأخيراً يوجه الله - سبحانه - رسوله [ ص ] إلى مواجهة المشركين في موقف الإشهاد على قضية التشريع ، كما واجههم من قبل في موقف الإشهاد على قضية الألوهية في أوائل السورة :

في أوائل السورة قال له :

( قل : أي شيء أكبر شهادة ؟ قل الله . شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن

بلغ . أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ؟ قل : لا أشهد . قل : إنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون ) . .

وهنا قال له :

( قل : هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا . فإن شهدوا فلا تشهد معهم . ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة ، وهم بربهم يعدلون ) . .

إنها مواجهة هائلة ، ومواجهة كذلك فاصلة . ودلالتها على طبيعة هذا الدين غير خافية . . إن هذا الدين يسوي بين الشرك العلني الواضح باتخاذ آلهة أخرى مع الله ؛ وبين الشرك الآخر الذي يتمثل في مزاولة حق الحاكمية والتشريع للناس بما لم يأذن به الله - دون اعتبار لما يدعونه هم من أن ما يشرعونه هو شريعة الله ! - كما أنه يصم الذين يرتكبون هذه الفعلة بأنهم يكذبون بآيات الله ، ولا يؤمنون بالآخرة ، وهم بربهم يعدلون . . أي يجعلون له أنداداً تعدله . . وهو ذات التعبير الذي جاء في أول آية في السورة وصفا للذين كفروا :

( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) . .

هذا حكم الله على الذين يغتصبون حق الحاكمية ويزاولونه بالتشريع للناس - دون اعتبار لدعواهم أن ما يشرعونه هو من شريعة الله ! - وليس بعد حكم الله رأي لأحد في هذه القضية الخطيرة .

فإذا أردنا أن نفهم لماذا يقضي الله - سبحانه - بهذا الحكم ؟ ولماذا يعدهم مكذبين بآياته ؛ غير مؤمنين بالآخرة ، مشركين يعدلون بربهم غيره . . فإن لنا أن نحاول الفهم . فتدبر حكمة الله في شرعه وحكمه أمر مطلوب من المسلم . .

إن الله قد حكم على المشرعين للناس من عند أنفسهم - مهما قالوا أنه من شرع الله - بأنهم يكذبون بآياته . لأن آياته - إن كان المراد بها آياته الكونية - كلها تشهد بأنه الخالق الرازق الواحد . . والخالق الرازق هو المالك . فيجب أن يكون وحده المتصرف الحاكم . . فمن لم يفرده - سبحانه - بالحاكمية فقد كذب بآياته هذه . . وإن كان المقصود آياته القرآنية ، فالنصوص فيها حاسمة وصريحة وواضحة في وجوب إفراده - سبحانه - بالحاكمية في حياة البشر الواقعية ، واتخاذ شريعته وحدها قانونا ، وتعبيد الناس له وحده بالشرع النافذ والحكم القاهر

كذلك حكم عليهم - سبحانه - بأنهم لا يؤمنون بالآخرة . . فالذي يؤمن بالآخرة ، ويوقن أنه ملاق ربه يوم القيامة ، لا يمكن أن يعتدي على ألوهية الله ، ويدعي لنفسه حقه الذي يتفرد به . وهو حق الحاكمية المطلقة في حياة البشر . ممثلة هذه الحاكمية في قضائه وقدره ، وفي شريعته وحكمه . .

ثم حكم عليهم في النهاية بأنهم بربهم يعدلون . . أي أنه حكم عليهم بالشرك الذي وصف به الكافرين . . ذلك أنهم لو كانوا موحدين ما شاركوا الله - سبحانه - في حق الحاكمية الذي تفرد به . أو ما قبلوا من عبد أن يدعيه ويزاوله وهم راضون !

هذه - فيما يبدو لنا - هي علة حكم الله على من يزاولون حق الحاكمية ويشرعون للناس ما لم يأذن به ، بالتكذيب بآياته ، وعدم الإيمان بالآخرة والشرك الذي يتحقق به الكفر . . أما الحكم ذاته فلا يملك " مسلم " أن يجادل فيه . فقد صدرت فيه كلمة الفصل التي لا معقب عليها . فلينظر كل " مسلم " كيف يتأدب أمام كلمة العزيز الحكيم . .