وبعد إطلاق تلك الحقيقة الكبرى جعل يذكر كيف انبثقت منها حقائق الوجود الأخرى :
( هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها . وهو معكم أينما كنتم . والله بما تعملون بصير . له ملك السماوات والأرض ، وإلى الله ترجع الأمور . يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وهو عليم بذات الصدور . . )
حقيقة خلق السماوات والأرض . وحقيقة الاستواء على العرش والهيمنة على الخلق . وحقيقة العلم بأشياء بعينها من هذا الخلق . وحقيقة الوجود مع كل أحد أينما وجد . وحقيقة رجعة الأمور إليه وحده . وحقيقة تصرفه اللطيف في كيان الوجود ، وعلمه الخفي بذات الصدور . .
وكلها حقائق منبثقة عن تلك الحقيقة الأولى . . ولكن عرضها في هذا المجال الكوني يجعل لها في القلب البشري إيقاعات وظلالا . . والسماوات والأرض تواجه هذا القلب وتروعه بضخامتها وجلالها ، وتناسقها وجمالها ، كما تواجهه وتروعه بدقة نظامها وانضباط حركاتها ، واطراد ظواهرها . ثم إنها خلائق من خلق الله كالقلب البشري . فله بها صلة الأسرة وأنس القرابة . وهي توقع على أوتاره إيقاعات لدنية حين يتوجه إليها ، ويسمع لها ، ويعاطفها ! وهي تقول له : إن الذي خلقها هو خلقه . وهي تسبح لخالقها فليسبح لخالقه ! كما تقول له : إنها تستمد حقيقة وجودها من وجود خالقها وأنه هو كذلك . فليس هنالك إذن إلا هذه الحقيقة تستحق الاحتفال بها !
والأيام الستة لا يعلم حقيقتها إلا الله . فأيامنا هذه ليست سوى ظلال ناشئة عن حركة الأرض حول نفسها أمام الشمس . وجدت بعد خلق الأرض والشمس فليست هي الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض . فنترك علمها لله يطلعنا عليه إن أراد .
وكذلك العرش . فنحن نؤمن به كما ذكره ولا نعلم حقيقته . أما الاستواء على العرش فنملك أن نقول : إنه كناية عن الهيمنة على هذا الخلق . استنادا إلى ما نعلمه من القرآن عن يقين من أن الله - سبحانه - لا تتغير عليه الأحوال . فلا يكون في حالة عدم استواء على العرش ، ثم تتبعها حالة استواء . والقول بأننا نؤمن بالاستواء ولا ندرك كيفيته لا يفسر قوله تعالى : ( ثم استوى ) . . والأولى أن نقول : إنه كناية عن الهيمنة كما ذكرنا . والتأويل هنا لا يخرج على المنهج الذي أشرنا إليه آنفا لأنه لا ينبع من مقررات وتصورات من عند أنفسنا . إنما يستند إلى مقررات القرآن ذاته ، وإلى التصور الذي يوحيه عن ذات الله سبحانه وصفاته .
ومع الخلق والهيمنة العلم الشامل اللطيف ، يصور النص القرآني مجاله تصويرا عجيبا يشغل القلب بتتبعه في هذا المجال الوسيع ، وبتصوره في حركة دائمة لا تفتر . وهذا أمر غير مجرد ذكر العلم وحقيقته المجردة . أمر مؤثر موح يملأ جوانب النفس ، ويشغل خوالج القلب ، وتترامى به سبحات التصور ووثبات الخيال :
( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ) . .
وفي كل لحظة يلج في الأرض ما لا عداد له ولا حصر من شتى أنواع الأحياء والأشياء ؛ ويخرج منها ما لا عداد ولا حصر من خلائق لا يعلمها إلا الله . وفي كل لحظة ينزل من السماء من الأمطار والأشعة والنيازك والشهب ، والملائكة والأقدار والأسرار ؛ ويعرج فيها كذلك من المنظور والمستور ما لا يحصيه إلا الله . . والنص القصير يشير إلى هذه الحركة الدائبة التي لا تنقطع ، وإلى هذه الأحداث الضخام التي لا تحصى ؛ ويدع القلب البشري في تلفت دائم إلى ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، وفي تصور يقظ لعلم الله الشامل وهو يتبع هذه الحركات والأحداث ، في مساربها ومعارجها .
والقلب في تلفته ذاك وفي يقظته هذه يعيش مع الله ، ويسيح في ملكوته بينما هو ثاو في مكانه ؛ ويسلك فجاج الكون ويجوب أقطار الوجود في حساسية وفي شفافية ، وفي رعشة من الروعة والانفعال .
وبينما القلب في تلفته ذاك في الأرض والسماء ، إذا القرآن يرده إلى ذاته ، ويلمسه في صميمه . وإذا هو يجد الله معه ، ناظرا إليه ، مطلعا عليه ، بصيرا بعمله ، قريبا جد قريب :
( وهو معكم أينما كنتم ، والله بما تعملون بصير . . )
وهي كلمة على الحقيقة لا على الكناية والمجاز . فالله - سبحانه - مع كل أحد ، ومع كل شيء ، في كل وقت ، وفي كل مكان . مطلع على ما يعمل بصير بالعباد . وهي حقيقة هائلة حين يتمثلها القلب . حقيقة مذهلة من جانب ، ومؤنسة من جانب . مذهلة بروعة الجلال . ومؤنسة بظلال القربى . وهي كفيلة وحدها حين يحسها القلب البشري على حقيقتها أن ترفعه وتطهره ، وتدعه مشغولا بها عن كل أعراض الأرض ؛ كما تدعه في حذر دائم وخشية دائمة ، مع الحياة والتحرج من كل دنس ومن كل إسفاف .
ستة أيام : ستة أطوار ، أو ست مراحل ، وربما ستة بلايين سنة .
استوى : جلس ، والاستواء هنا بمعنى استولى .
العرش : أصله : سرير المُلك ، وفي الإصلاح الديني ، خلق عظيم محيط بالعالم ، منه تنزل التدبيرات الإلهية .
4- { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
تسابق المسلمون إلى العمل بالقرآن الكريم ، وقد آمنوا بالمحكم ، وفوضوا إلى الله تعالى المتشابه ، واندفعوا إلى تحقيق مطالب الإيمان ، ففتحوا البلاد ، ونشروا دين الله في الأرض ، وبعد الفتوح والهدوء وجدنا البحث في الصفات وفي المتشابه .
فالسلف يقولون : نؤمن بها كما وردت ، ونفوض المراد إلى الله تعالى .
مثل قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } .
الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
أي أننا نؤمن بآيات الصفات كما جاءت ، بلا تشبيه ولا تعطيل ، نؤمن بأن الله على العرش ، كيف شاء وكما شاء ، بلا حدّ ولا صفة يبلغها واصف .
أما مذهب الخلف فيقولون : حاشا وكلا أن ينزل الله قرآنا ، ويطلب منا تدبّره وفهمه والاستنباط منه ، ثم نمنع أنفسنا من تأويله بمعان تليق بذاته تعالى ، مثل :
{ يد الله فوق أيديهم } . . . ( الفتح : 10 ) . { ولتصنع على عيني } . ( طه : 39 ) . { ثم استوى على العرش } . ( الحديد : 4 ) .
فيؤولون ذلك بقولهم : قدرة الله فوق قدرتهم ، ولتربّى بعنايتي وتوفيقي ، ثم استولى وغلب وقهر ومَلَك العرش ، وهو خلق عظيم محيط بالعالم ، منه تنزل التدبيرات الإلهية .
والمعنى الكليّ المفهوم من العرش أنه مركز نظام الكون ، ومصدر التدبير له ، وأن المتبادر في الاستعمال اللغوي استعمالهم : استوى على عرشه ، بمعنى ملك أو استقام أمر الملك له ، وثُلَّ عرشه ، بمعنى هلك وزال ملكه ، ونحن نعلم أن عروش ملوك البشر تختلف مادة وشكلا ، وهي من عالم الشهادة ، وصنع أيدي البشر ، أما عرش الرحمن فهو من عالم الغيب الذي لا ندركه بحواسنا ، ولا نستطيع تصويره بأفكارنا ، وحسبنا أن نفهم الجملة ، ونستفيد العبرة .
المتأمل في الآيات التي تحدثت عن خلق السماوات والأرض وعن خلق الكون ، يخلص إلى النقاط الآتية :
1- وجود مراحل ست للخلق عموما .
2- تداخل مراحل خلق السماوات مع مراحل خلق الأرض .
3- خلق الكون ابتداء من كومة أولية فريدة ، كانت تشكل كتلة متماسكة ، انفصلت أجزاؤها بعد ذلك .
4- تعدد السماوات ، وتعدد الكواكب التي تشبه الأرض .
5- وجود خلق وسيط بين السماوات والأرض .
6- إن المطابقة واضحة بين مفهوم السديم الأولي في العلم الحديث ، والدخان على حسب إشارة القرآن للدلالة على الحالة الغازية للمادة التي كونت الكون في هذه المرحلة الأولى .
وآيات القرآن الكريم يفسر بعضها بعضا ، ويكمل بعضها بعضا ، وقد أفاد القرآن أن الكون كان كرة ملتهبة ملتصقة ببعضها ، وكانت السماء رتقاء لا تُمطر ، والأرض صمّاء لا تنبت ، ففتق الله السماء بالمطر ، وفتق الأرض بالنبات ، وسخّر الهواء والفضاء ، والشمس والقمر ، والأنهار والبحار والنبات ، ليعمر الكون بإرادة الله .
قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } . ( الأنبياء : 30-33 ) .
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ . . . }
أي : خلق الكون في مقدار ستة أيام من أيام لله تعالى ، ولو شاء لخلق السماوات والأرض في لمح البصر ، لكنه أراد أن يعلّم عباده الحكمة والصبر ، والأخذ بالأسباب ، وإتباع السنن الإلهية في الجدّ والعمل والدأب ، وانتظار الوقت المناسب لإنضاج الثمرة ، أو اكتمال العمل .
وقد انعقد في الولايات المتحدة الأمريكية مؤتمر للبحث في عمر الدنيا ، وعمر الإنسان على هذا الكوكب ، وذلك في أبريل سنة 1993م ، ومن نتائج المؤتمر أن عمر الكون 13 بليون سنة ، وأن عمر الإنسان في هذا الكون 7 ملايين سنة ، أي أن خلق الكون قد استمر 6 بلايين سنة ، حتى هدأت القشرة الملتهبة ، وأصبح الكون صالحا لحياة الإنسان ، ثم استخلف الله آدم لعمارة الأرض واستغلال طاقاتها ، وقدر الله في الأرض أرزاقها وأقواتها ، وحثّ الإنسان على أداء الصلاة ، ثم السعي على كسب الأرزاق .
قال تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . ( الجمعة : 10 ) .
{ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ . . . }
ثم استولى على الملك ، يدبّره ويوصل كل شيء فيه إلى كماله .
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا . . }
يعلم ما بداخل الأرض من مطر وأموات وبذور وحشرات ، وهوام وكنوز وغيرها ، علما تفصيليا ، ويعلم الله ، َمَا يَخْرُجُ مِنْهَا . من نبات ونفائس ، ومعادن ونحوها ، كما قال تعالى :
{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } . ( الأنعام : 59 ) .
{ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ . . . } من الأرزاق والملائكة والرحمة والعذاب .
وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا . وما يصعد إليها من كلم طيب ودعوات وعبادات ، أو ذرات البخار ، أو جن يسترق السمع ، أو أرواح تصعد إلى بارئها .
قال تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه . . . } ( فاطر : 10 )
وقال تعالى : { ألا يعلم من خلق . . . } ( الملك : 14 ) .
{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ . . . }
هو سبحانه مع خلقه جميعا بعلمه وقدرته ، وتدبيره وإحاطته إحاطة تامة بجميع الموجودات .
قال تعالى : { وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } . ( يونس : 61 ) .
{ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
هو سبحانه مطلع وشاهد ، ورقيب وحسيب ، تنكشف أمامه جميع الموجودات انكشافا تاما دون سبق خفاء فهو سبحانه سميع بصير .
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لما سأله عن الإحسان : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . 7
وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى ينشد هذين البيتين :
{ خلق السموات . . . } [ آية 54 الأعراف ص 262 ] . { ثم استوى على العرش } استواء يليق به سبحانه ! بلا كيف ولا تمثيل ولا تشبيه [ آية 54 الأعراف ] . { يعلم ما يلج في الأرض . . . } [ آية 2 سبأ ص 193 ] . { وهو معكم } أي عالم بكم أينما كنتم . فالمعية مجاز عن العلم بعلاقة السببية ؛ والقرينة السباق واللحاق مع استحالة الحقيقة . وقد أول السلف هذه الآية بذلك ؛ كما أخرجه البيهقي عن ابن عباس والثوري . وفي البحر : أن الأمة مجمعة على هذا التأويل فيها ، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات لاستحالتها .
{ في ستة أيام } : أي من أيام الدنيا مقدرة بها أولها الأحد وآخرها الجمعة .
{ ثم استوى على العرش } : أي ارتفع عليه وعلا .
{ يعلم ما يلج في الأرض } : أي ما يدخل في الأرض من كل ما يدخل فيها من مطر وأموات .
{ وما يخرج منها } : أي من نبات ومعادن .
{ وما ينزل من السماء } : أي من رحمة وعذاب .
{ وما يعرج فيها } : أي يصعد فيها من الأعمال الصالحة والسيئة .
{ وهو معكم أينما كنتم } : أي بعلمه بكم وقدرته عليكم أينما كنتم .
{ والله بما تعملون بصير } : أي لا يخفي عليه من أعماله عباده الظاهرة الباطنة شيء .
ثامناً : خلقه السماوات والأرض في ستة أيام الدنيا ابتداء من الأحد وانتهاء بالجمعة وما مسه من لغوب ولا تعب ولا نصب ثم استوى على العرش يدبر ملكوت خلقه بالحكمة ومظاهر العدل والرحمة . تاسعاً : مع علوه وبعده من خلقه فالخلق كله بين يديه يعلم ما يلج في الأرض أي يدخل فيها من أمطار وأموات وما ينزل من السماء من مطر ورحمة وعذاب وملك وغيره ، وما يعرج أي يصعد فيها من ملك ومن عمل صالح ودعاء وخاصة دعوة المظلوم فإنها لا تحجب عن الله أبداً . وعاشراً : معية الله تعالى الخاصة والعامة فالخاصة مَعِيْتُه بنصره لأوليائه ، والعامة عِلْمُهُ بكل عباده وسائر خلقه ، وقدرته عليهم وعلمه بهم .
الحادي عشر : بصره تعالى بكل أعمال عباده فلا يخفى عليه شىء منها ليحاسبهم بها ويجزيهم عليها .
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } استواء يليق بجلاله ، فوق جميع خلقه ، { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ } من حب وحيوان ومطر ، وغير ذلك . { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من نبات وشجر وحيوان وغير ذلك ، { وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ } من الملائكة والأقدار والأرزاق .
{ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } من الملائكة والأرواح ، والأدعية والأعمال ، وغير ذلك . { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } كقوله : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا }
وهذه المعية ، معية العلم والاطلاع ، ولهذا توعد ووعد على المجازاة بالأعمال بقوله : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : هو تعالى بصير بما يصدر منكم من الأعمال ، وما صدرت عنه تلك الأعمال ، من بر وفجور ، فمجازيكم عليها ، وحافظها عليكم .
قوله تعالى : { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم } بالعلم . { أينما كنتم والله بما تعملون بصير . له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور . }
ولما كان الصانع للشيء عالماً به ، دل على علمه وما تقدم من وصفه بقوله : { هو } أي{[62364]} وحده { الذي خلق السماوات } وجمعها لعلم العرب بتعددها{[62365]} { والأرض } أي الجنس الشامل للكل ، أفردها لعدم توصلهم إلى العلم بتعددها { في ستة أيام } سناً للتأني وتقريراً للأيام التي أوترها سابعها الذي خلق فيه الإنسان الذي دل خلقه باسمه { الجمعة } على أنه المقصود بالذات وبأنه السابع{[62366]} على أنه نهاية المخلوقات - انتهى{[62367]} .
ولما كان تمكن الملك من سرير الملك كناية عن انفراده بالتدبير وإحاطة قدرته وعلمه ، وكان ذلك هو روح الملك ، دل عليه منبهاً على عظمته بأداة التراخي فقال : { ثم استوى } أي أوجد السواء وهو العدل إيجاد من هو شديد العناية { على العرش } المحيط بجميع الموجودات بالتدبير المحكم للعرش وما دونه ومن دونه ليتصور للعباد أن العرش منشأ التدبير ، ومظهر التقدير ، كما يقال في ملوكنا : جلس فلان على سرير الملك ، بمعنى أنه انفرد بالتدبير ، وقد لا يكون هناك سرير فضلاً عن جلوس .
ولما كان المراد بالاستواء الانفراد بالتدبير ، وكان التدبير لا يصح إلا بالعلم والقدرة ، كشفه بقوله دالاًّ على أن علمه بالخفايا{[62368]} كعلمه بالجلايا : { يعلم ما يلج } أي يدخل دخولاً يغيب به { في الأرض } أي من النبات وغيره من أجزاء الأموات وغيرها وإن{[62369]} كان ذلك بعيداً من العرش ، فإن الأماكن كلها بالنسبة إليه على حد سواء في{[62370]} القرب والبعد{[62371]} { وما يخرج منها } كذلك ، وفي التعبير بالمضارع دلالة على ما أودع في الخافقين من القوى فصار بحيث يتجدد منهما ذلك بخلقه تجدد استمرار إلى حين خرابهما .
ولما قرر ذلك فيما قد يتوهم بعده لبعده عن العرش بسفوله{[62372]} تنبيهاً على التنزه عن التحيز فكان أولى بالتقديم ، أتبعه قسيمه وهو جهة العلو تعميماً للعمل بسائر الخلق فقال : { وما ينزل من السماء } ولم يجمع لأن المقصود حاصل بالواحدة{[62373]} مع إفهام التعبير{[62374]} بها الجنس السافل للكل ، وذلك من الوحي والأمطار والحر والبرد وغيرها من الأعيان والمنافع التي يوجدها سبحانه من مقادير أعمار بني آدم وأرزاقهم وغيرها من جميع شؤونهم { وما يعرج } أي يصعد ويرتقي ويغيب { فيها } كالأبخرة والأنوار والكواكب والأعمال وغيرها .
ولما كان من يتسع ملكه يغيب عنه علم بعضه لبعده عنه ، عرف أنه لا مسافة أصلاً بينه وبين شيء من الأشياء فقال : { وهو معكم } أي أيها الثقلان المحتاجان إلى التهذيب بالعلم والقدرة المسببين عن القرب { أين ما كنتم } فهو عالم بجميع أموركم وقادر عليكم تعالياً عن اتصال بالعلم ومماسة ، أو انفصال عنه بغيبة أو مسافة ، قال أبو العباس ابن تيمية في كتابه الفرقان{[62375]} بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان : لفظ " مع " {[62376]} لا يقتضي في لغة العرب أن يكون أحد الشيئين مختلطاً بالآخر لقوله
اتقوا الله وكونوا مع الصادقين }[ التوبة : 119 ] وقوله : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار } ولفظ " مع " جاءت في القرآن عامة وخاصة ، فالعامة
{ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم }[ المجادلة : 7 ] فافتتح الكلام بالعلم واختتمه{[62377]} بالعلم ، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل : هو معهم بعلمه{[62378]} ، وأما المعية الخاصة فقوله تعالى :
{ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون }[ النحل : 128 ] وقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام :{ إنني معكما أسمع وأرى }[ طه : 46 ] وقال :
{ إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا }[ التوبة : 40 ] يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصدّيق رضي الله عنه ، فهو مع موسى وهارون عليهما السلام دون فرعون ، ومع محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه دون أبي جهل وغيره من أعدائه ، ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين ، فلو كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام ، بل المعنى{[62379]} أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك ، وقوله تعالى :
{ وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله }[ الزخرف : 84 ] أي هو إله{[62380]} في السماء وإله في الأرض كما قال تعالى :
{ وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم }[ الروم : 27 ] وكذلك في قوله تعالى : { وهو الله في السماوات وفي الأرض } كما فسره أئمة العلم{[62381]} كأحمد وغيره أنه المعبود في السماوات والأرض .
ولما كانت الأعمال منها ظاهر وباطن ، عبر في أمرها باسم الذات دلالة على شمولها بالعلم والقدرة و{[62382]}تنبيهاً على عظمة الإحاطة بها وبكل صفة من صفاته فقال : { والله } أي المحيط بجميع صفات الكمال ، وقدم الجارّ لمزيد الاهتمام والتنبيه على تحقق الإحاطة كما مضى التنبيه عليه غير مرة{[62383]} وتمثيله بنحو : أعرف فلاناً ولا أعرف غيره ؛ فقال : { بما تعملون } أي على سبيل التجدد{[62384]} والاستمرار { بصير * } أي عالم بجلائله ودقائقه .
{ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير }
{ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } من أيام الدنيا أولها الأحد وآخرها الجمعة { ثم استوى على العرش } الكرسي استواءً يليق به { يعلم ما يلج } يدخل { في الأرض } كالمطر والأموات { وما يخرج منها } كالنبات والمعادن { وما ينزل من السماء } كالرحمة والعذاب { وما يعرج } يصعد { فيها } كالأعمال الصالحة والسيئة { وهو معكم } بعلمه { أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } .
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 4 ) }
هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، ثم استوى على عرشه فوق جميع خلقه استواء يليق بجلاله ، يعلم ما يدخل في الأرض من حب ومطر وغير ذلك ، وما يخرج منها من نبات وزرع وثمار ، وما ينزل من السماء من مطر وغيره ، وما يعرج فيها من الملائكة والأعمال ، وهو سبحانه معكم بعلمه أينما كنتم ، والله بصير بأعمالكم التي تعملونها ، وسيجازيكم عليها .
قوله تعالى : { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير 4 له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور 5 يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور } .
يبين الله في ذلك عظيم سلطانه وبالغ قدرته وعلمه فهو خالق كل شيء ولا يخفى عليه من أخبار الكون أيما شيء . فقال سبحانه : { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } خلق الله كل شيء وخلق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما في ستة أيام . وقيل : هي من أيام الدنيا . وقيل غير ذلك . والله قادر أن يخلق ذلك كله في طرفة عين وذلك بقوله : { كن } لكن الله له في كيفية الخلق ما يشاء من الحكمة ، لا يسأل عما يفعل .
قوله : { ثم استوى على العرش } وهذا من متشابه القرآن ، وقد قيل في تأويله عدة أقوال منها أنه استولى على العرش .
قوله : { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها } الله يعلم ما يلج في الأرض من الماء والبذر والمعادن والكنوز والموتى . وهو سبحانه يعلم كذلك ما يخرج من الأرض من زروع وثمار وغير ذلك من الهوام ونحوها .
قوله : { وما ينزل من السماء } أي من الأمطار والأقدار والملائكة والأحكام وغير ذلك .
قوله : { وما يعرج فيها } الله يعلم ما يصعد في السماء من الأعمال والدعوات والملائكة .
قوله : { وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير } الله رقيب على العباد ، وهو سبحانه شهيد على أقوالهم وأعمالهم ، عليم بما تكنه صدورهم من الأسراروالخفايا ، ولا يعزب عن علمه من أخبارهم شيء . وهو سبحانه معهم بعلمه وقدرته حيثما كانوا : في البر أو البحر أو القفر ، في السماء أو الأرض أو تحت الأرض ، في الليل أو النهار ، يستوي ذلك كله في علم الله .