وهو يذكرهم بهذه النعم ليأكلوا من الطيبات التي يسرها لهم ويحذرهم من الطغيان فيها . بالبطنة والانصراف إلى لذائذ البطون والغفلة عن الواجب الذي هم خارجون له ، والتكليف الذي يعدهم ربهم لتلقيه . ويسميه طغيانا وهم قريبو العهد بالطغيان ، ذاقوا منه ما ذاقوا ، ورأوا من نهايته ما رأوا . ( ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي . ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ) . . ولقد هوى فرعون منذ قليل . هوى عن عرشه وهوى في الماء . . والهوى إلى أسفل يقابل الطغيان والتعالي . والتعبير ينسق هذه المقابلات في اللفظ والظل على طريقة التناسق القرآنية الملحوظة .
هذا هو التحذير والإنذار للقوم المقدمين على المهمة التي من أجلها خرجوا ؛ كي لا تبطرهم النعمة ، ولا يترفوا فيها فيسترخوا . .
وقوله : " كُلُوا مِنْ طَيّباتِ ما رَزَقْناكُمْ " يقول تعالى ذكره لهم : كلوا يا بني إسرائيل من شهيات رزقنا الذي رزقناكم ، وحلاله الذي طيبناه لكم وَلا تَطْغَوْا فِيهِ يقول : ولا تعتدوا فيه ، ولا يظلم فيه بعضكم بعضا ، كما :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قول : " وَلا تَطْغَوْا فِيهِ " يقول : ولا تظلموا .
وقوله : " فَيَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي " يقول : فينزل عليكم عقوبتي ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد عن قتادة ، قوله : " فَيَحلّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي " يقول : فينزل عليكم غضبي .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة والكوفة " فَيَحِلّ عَلَيْكُمْ " بكسر الحاء وَمَنْ يَحْلِلْ بكسر اللام . ووجهوا معناه إلى : فيجب عليكم غضبي . وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة : «فَيَحُلّ عَلَيْكُمْ » بضم الحاء ، ووجهوا تأويله إلى ما ذكرنا عن قَتادة من أنه : فيقع وينزل عليكم غضبي .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، وقد حذّر الله الذين قيل لهم هذا القول من بني إسرائيل وقوع بأسه بهم ونزوله بمعصيتهم إياه إن هم عصوه ، وخوّفهم وجوبه لهم ، فسواء قرىء ذلك بالوقوع أو بالوجوب ، لأنهم كانوا قد خوّفوا المعنيين كليهما .
ويكون قوله تعالى : { كلوا } بتقدير قيل لهم كلوا ، وتكون الآية على هذا اعتراضاً في أثناء قصة موسى المقصد به توبيخ هؤلاء الحضور إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم الله تعالى ، والمعنى الأول أظهر وأبين . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «نجينا وواعدنا ونزلنا ورزقناكم » إلا أن أبا عمرو قرأ «وعدناكم » بغير ألف في كل القرآن{[8139]} ، وقرأ حمزة والكسائي «أنجيت وواعدت ونزلنا ورزقتكم » . وقوله { وواعدناكم } قيل هي لغة في وعد لا تقتضي فعل اثنين ع وإن حملت على المعهود فلأن التلقي والعزم على ذلك كالمواعدة ، وقصص هذه الآية أن الله تعالى لما أنجى بني إسرائيل وغرق فرعون وعد بني إسرائيل وموسى أن يصيروا إلى جانب طور سيناء ليكلم فيه موسى ويناجيه بما فيه صلاحهم بأوامرهم ونواهيهم ، فلما أخذوا في السير تعجل موسى عليه السلام للقاء ربه حسبما يأتي ذكره ، وقالت فرقة هذا { الطور } هو الذي كلم فيه موسى أولاً حيث رأى النار وكان في طريقه من الشام إلى مصر ، وقالت فرقة ليس به و { الطور } الجبل الذي لا شعرا فيه{[8140]} وقوله { الأيمن } إما أن يريد اليمن وإما أن يريد اليمين بالإضافة إلى ذي يمين إنسان أو غيره . و { المن والسلوى } طعامهم ، وقد مضى في البقرة استيعاب تفسيرهما ، وقوله تعالى : { من طيبات } يريد الحلال الملك ، لأن المعنى في هذا الموضع قد جمعهما واختلف الناس ما القصد الأول بلفظة الطيب في القرآن ، فقال مالك رحمه الله الحلال ، وقال الشافعي ما يطيب للنفوس ، وساق إلى هذا الخلاف تفقههم في الخشاش{[8141]} والمستقذر من الحيوان . و { تطغوا } معناه تتعدون الحد وتتعسفون كالذي فعلوا ع . وقرأ جمهور الناس «فيحِل » بكسر الحاء «ومن يحلِل » بكسر اللام ، وقرأ الكسائي وحده{[8142]} «فيحُل » بضم الحاء «ومن يحلُل » بضم اللام فمعنى الأول فيجب ومعنى الثاني فيقع وينزل ، و { هوى } معناه سقط من علو إلى أسفل ومنه قول خنافر :
فهوى هوي العقاب . . . {[8143]} قال القاضي أبو محمد : وإن لم يكن سقوطاً فهو شبيه بالساقط والسقوط حقيقة قول الآخر : [ الوافر ]
هويّ الدلْو أسلمه الرشاء{[8144]} . . . ويشبه الذي وقع في طامة أو ورطة بعد أن كان بنجوة منها بالساقط فالآية من هذا أي «هوي » في جهنم وفي سخط الله ، وقيل أخذ الفعل من لفظ الهاوية وهو قعر جهنم .
جملة { كُلُوا } مقولٌ محذوف . تقديره : وقلنا أو قائلين . وتقدم نظيره في سورة البقرة .
وقرأ الجمهور { ما رزقناكم } بنون العظمة . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف ما رزقتكم بتاء المفرد .
ومعنى النهي عن الطغيان في الرزق : النهي عن ترك الشكر عليه وقلّة الاكتراث بعبادة المُنعِم .
وحرف ( في ) الظرفيّة استعارةٌ تبعية ؛ شبه ملابسة الطغيان للنّعمة بحلول الطغيان فيها تشبيهاً للنعمة الكثيرة بالوعاء المحيط بالمنعَم عليه على طريقة المكنية ، وحرف الظرفية قرينتها .
والحلول : النزول والإقامة بالمكان ؛ شبهت إصابة آثار الغضب إياهم بحلول الجيش ونحوه بديار قوم .
وقرأ الجمهور فيحِلّ عليكم بكسر الحاء وقرأوا ومن يحلِل عليه غضبي بكسر اللاّم الأولى على أنهما فعلا حَلّ الدّيْن يقال : حلّ الديْن إذا آن أجل أدائه . وقرأه الكسائي بالضمّ في الفعلين على أنّه من حلّ بالمكان يحُلّ إذا نزل به . كذا في « الكشاف » ولم يتعقبوه .
وهذا مما أهمله ابن مالك في « لامية الأفعال » ، ولم يستدركه شارحها بَحْرَق اليمني في « الشرح الكبير » . ووقع في « المصباح » ما يخالفه ولا يعوّل عليه . وظاهر « القاموس » أن حلّ بمعنى نزل يستعمل قاصراً ومتعدياً ، ولم أقف لهم على شاهد في ذلك .
وهوَى : سقط من علوّ ، وقد استعير هنا للهلاك الذي لا نهوض بعده ، كما قالوا : هوت أمّه ، دعاء عليه ، وكما يقال : ويل أمّه ، ومنه : { فأمه هاوية } [ القارعة : 9 ] ، فأريد هويّ مخصوص ، وهو الهوي من جبل أو سطح بقرينة التهديد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول الله تعالى ذكره: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} يعنى بالطيبات الحلال من الرزق {ولا تطغوا فيه} يقول: {ولا تعصوا في الرزق} يعني: فيما رزقناكم من المن والسلوى فترفعوا منه لغد، وكان الله سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا منه لغد فعصوا الله، عز وجل، ورفعوا منه...
{فيحل عليكم غضبي} يعني: فيجب عليكم عذابي.
{فقد هوى}، يقول: ومن وجب عليه عذابي فقد هلك.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"كُلُوا مِنْ طَيّباتِ ما رَزَقْناكُمْ" يقول تعالى ذكره لهم: كلوا يا بني إسرائيل من شهيات رزقنا الذي رزقناكم، وحلاله الذي طيبناه لكم.
"وَلا تَطْغَوْا فِيهِ "يقول: ولا تعتدوا فيه، ولا يظلم فيه بعضكم بعضا...
وقوله: "فَيَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي" يقول: فينزل عليكم عقوبتي...
وقد حذّر الله الذين قيل لهم هذا القول من بني إسرائيل وقوع بأسه بهم ونزوله بمعصيتهم إياه إن هم عصوه، وخوّفهم وجوبه لهم...
"ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى"... ومن يجب عليه غضبي، فينزل به، "فقد هوى"، يقول: فقد تردّى فشقي.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{كلوا من طيبات ما رزقناكم} يحتمل وجهين:
أحدهما: {كلوا من طيبات ما رزقناكم}.أي من حلالات ما رزقناكم...
والثاني: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} أي ما تطيب به أنفسكم. ففيه دلالة أنه يجوز لنا أن نختار من الأطعمة ما هو أطيب إن كان على ما تستطيب به الأنفس...
{ولا تطغوا فيه} الطغيان هو المجاوزة عن الحدود التي جعلت، أي لا تطغوا في ما رزقناكم من الطيبات، وتجعلونه في غير ما جعل، وتتجاوزون عن القدر الذي جعل.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الطيبُ ما كان حلالاً. ويقال الطيب من الرزق ما لا يَعْصِي اللَّهَ مُكْتَسِبهُ...
{وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ}: بمجاوزة الحلالِ إلى الحرام...
{فَيَحِلَّ عَلْيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى}. فيحل عليكم غضبي بالخذلان لمتابعة الزَّلَّة بعد الزَّلَّة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
طغيانهم في النعمة: أن يتعدّوا حدود الله فيها بأن يكفروها ويشغلهم اللهو والتنعم عن القيام بشكرها، وأن ينفقوها في المعاصي، وأن يزووا حقوق الفقراء فيها، وأن يسرفوا في إنفاقها وأن يبطروا فيها ويأشروا ويتكبروا.
... {فقد هوى} أي: شقي، وقيل: فقد وقع في الهاوية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أتبعه بنعمة الكتاب الدال عليها، ثم بالرزق المقوي، ودل على نعمة الإذن فيه بقوله: {كلوا} ودل على سعته بقوله: {من طيبات ما} ودل على عظمته بقوله: {رزقناكم} من ذلك ومن غيره.
ولما كان الغنى والراحة سبب السماحة، قال: {ولا تطغوا فيه} بالادخار إلى غد... ولا بغير ذلك من البطر وإغفال الشكر بصرفه في غير الطاعة {فيحل} أي ينزل ويجب في حينه الذي هو أولى الأوقات به -على قراءة الجماعة بالكسر، ونزولاً عظيماً وبروكاً شديداً- على قراءة الكسائي بالضم {عليكم غضبي} فتهلكوا لذلك {و} كل {من يحلل عليه غضبي} منكم ومن غيركم {فقد هوى} أي كان حاله حال من سقط من علو.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهو يذكرهم بهذه النعم ليأكلوا من الطيبات التي يسرها لهم ويحذرهم من الطغيان فيها بالبطنة والانصراف إلى لذائذ البطون والغفلة عن الواجب الذي هم خارجون له، والتكليف الذي يعدهم ربهم لتلقيه. ويسميه طغيانا وهم قريبو العهد بالطغيان، ذاقوا منه ما ذاقوا، ورأوا من نهايته ما رأوا. (ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي. ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى).. ولقد هوى فرعون منذ قليل. هوى عن عرشه وهوى في الماء.. والهوى إلى أسفل يقابل الطغيان والتعالي. والتعبير ينسق هذه المقابلات في اللفظ والظل على طريقة التناسق القرآنية الملحوظة. هذا هو التحذير والإنذار للقوم المقدمين على المهمة التي من أجلها خرجوا؛ كي لا تبطرهم النعمة، ولا يترفوا فيها فيسترخوا..
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا رزق الله تعالى لبني إسرائيل في هذه الصحراء الجرداء، وقد نهاهم الله عن الطغيان في الرزق، فقال عز من قائل:... {كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} ذكر الله تعالى رزق بني إسرائيل بالمن والسلوى في سيناء فناسب أن يبين – سبحانه -شكر الرزق، وفساد النعمة بالطغيان، فقال: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} وهذا الأمر لبيان إباحة الطيبات، وهو في معناه يتضمن الطلب، لأن الأكل مباح ومطلوب، أما إباحته فلتخير ألوانه الطيبة، وأما طلبه فلمنع الإنسان نفسه من الأكل فيهلك، والطيبات لا بد لها من أمرين: أن تكون كسبا حلالا طيبا لا خبث من طريق الحصول عليه، وأن يكون غير مستقذر كالميتة ولحم الخنزير، والدم المسفوح، وغير ذلك من المحرمات التي حرمت لأنها رجس مستقذر،...ونهى سبحانه عن الطغيان في الرزق، فقال سبحانه: {ولا تطغوا}، أي لا تتجاوزوا الحدود فيه، وتجاوز الحدود فيه يكون بضروب شتى، منها: أن يطلبه من غير حلّه، ومنها: أن يأكل السحت والربا، ومنها: أن يمنع الفقير من حقه،...ومنها: أن يسرف فيه إسرافا، وأن ينفقه في غير موضعه، ومنها الشح والبخل بأن يكون عبد الدينار والدرهم،...فكل هذه مجاوزة للحد وطغيان، وإن الذي يترتب على الطغيان في الرزق وعدم شكره غضب الله تعالى فقال: {فيحل عليكم غضبي}...أي بسبب الطغيان ينزل بكم غضبى، وهو أعظم ما يفقد الإنسان معاني العلو، فغضب الله يبعد الشخص من سماء الرفعة، ويهوي في مكان سحيق من المقت، والبعد عن الله تعالى، ولذا قال تعالى: {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} أي فقد نزل إلى الهاوية السحيقة البعيدة الغور، ومن سقط في الهاوية فإنه يهلك لا محالة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} فتوجهوه إلى ما حرمه الله عليكم، أو تكفروا النعمة فيه، فتمتنعوا عن شكرها، {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبي} الذي يطال كل عبادي المنحرفين عن خط الحق في رسالة الله، ويمتنعون عن شكر النعمة في خط الإيمان، {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} في مهاوي الهلاك والسقوط، لأن أساس القوة في حياة الإنسان، هو ما يتصل بقوة الله في وجوده، فإذا انفصل عن الله، وكله إلى نفسه، وإذا غضب الله عليه وخرج عن رحمته. خرج عن ثبات الموقف ودخل دائرة الاهتزاز الذي يهوي به إلى مهاوي الدنيا والآخرة.