ولكن الذين جاءوا من بعده اختلفوا أحزاباً كما كان الذين من قبله مختلفين أحزاباً . اختلفوا ظالمين لا حجة لهم ولا شبهة : ( فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم ) . .
لقد كانت رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ؛ وكانوا ينتظرونه ليخلصهم مما كانوا فيه من الذل تحت حكم الرومان ؛ وقد طال انتظارهم له ، فلما جاءهم نكروه وشاقوه ، وهموا أن يصلبوه !
ولقد جاء المسيح فوجدهم شيعاً ونحلا كثيرة ، أهمها أربع فرق أو طوائف .
طائفة الصدوقيين نسبة إلى " صدوق " وإليه وإلى أسرته ولاية الكهانة من عهد داود وسليمان . وحسب الشريعة لا بد أن يرجع نسبه إلى هارون أخي موسى . فقد كانت ذريته هي القائمة على الهيكل . وكانوا بحكم وظيفتهم واحترافهم متشددين في شكليات العبادة وطقوسها ، ينكرون " البدع " في الوقت الذي يترخصون في حياتهم الشخصية ويستمتعون بملاذ الحياة ؛ ولا يعترفون بان هناك قيامة !
وطائفة الفريسيين ، وكانوا على شقاق مع الصدوقيين . ينكرون عليهم تشددهم في الطقوس والشكليات ، وجحدهم للبعث والحساب . والسمة الغالبة على الفريسيين هي الزهد والتصوف وإن كان في بعضهم اعتزاز وتعال بالعلم والمعرفة . وكان المسيح - عليه السلام - ينكر عليهم هذه الخيلاء وشقشقة اللسان !
وطائفة السامريين ، وكانوا خليطاً من اليهود والأشوريين ، وتدين بالكتب الخمسة في العهد القديم المعروفة بالكتب الموسوية ، وتنفي ما عداها مما أضيف إلى هذه الكتب في العهود المتأخرة ، مما يعتقد غيرهم بقداسته .
وطائفة الآسين أو الأسينيين . وكانوا متأثرين ببعض المذاهب الفلسفية ، وكانوا يعيشون في عزلة عن بقية طوائف اليهود ، ويأخذون أنفسهم بالشدة والتقشف ، كما يأخذون جماعتهم بالشدة في التنظيم .
وهناك غير هذه الطوائف نحل شتى فردية ، وبلبلة في الاعتقاد والتقاليد بين بني إسرائيل ، الراضخين لضغط الإمبراطورية الرومانية المستذلين المكبوتين ، الذين ينتظرون الخلاص على يد المخلص المنتظر من الجميع .
فلما أن جاء المسيح - عليه السلام - بالتوحيد الذي أعلنه : ( إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه ) . وجاء معه بشريعة التسامح والتهذيب الروحي والعناية بالقلب البشري قبل الشكليات والطقوس ، حاربه المحترفون الذين يقومون على مجرد الأشكال والطقوس .
ومما يؤثر عنه - عليه السلام - في هذا قوله عن هؤلاء : " إنهم يحزمون الأوقار ، ويسومون الناس أن يحملوها على عواتقهم ، ولا يمدون إليها إصبعاً يزحزحونها ، وإنما يعملون عملهم كله لينظر الناس إليهم ! يعرضون عصائبهم ، ويطيلون أهداب ثيابهم ، ويستأثرون بالمتكأ الأول في الولائم ، والمجالس الأولى في المجامع ، ويبتغون التحيات في الأسواق . وأن يقال لهم : سيدي . سيدي . حيث يذهبون ! " . .
أو يخاطب هؤلاء فيقول : " أيها القادة العميان الذين يحاسبون على البعوضة ويبتلعون الجمل . . إنكم تنقون ظاهر الكأس والصحفة ، وهما في الباطن مترعان بالرجس والدعارة . . ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون . إنكم كالقبور المبيضة . خارجها طلاء جميل وداخلها عظام نخرة " . .
وإن الإنسان - وهو يقرأ هذه الكلمات المأثورة عن المسيح - عليه السلام - وغيرها في بابها - ليكاد يتصور رجال الدين المحترفين في زماننا هذا . فهو طابع واحد مكرر . لهؤلاء الرسميين المحترفين من رجال الدين ، الذين يراهم الناس في كل حين !
ثم ذهب المسيح عليه السلام إلى ربه ، فاختلف أتباعه من بعده . اختلفوا شيعاً وأحزاباً . بعضها يؤلهه . وبعضها ينسب لله سبحانه بنوته . وبعضها يجعل الله ثالث ثلاثة أحدها المسيح ابن مريم . وضاعت كلمة التوحيد الخالصة التي جاء بها عيسى عليه السلام . وضاعت دعوته الناس ليلجأوا إلى ربهم ويعبدوه مخلصين له الدين .
( فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم ) . .
ثم جاء مشركو العرب يحاجون رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في عيسى - عليه السلام - بما فعلته الأحزاب المختلفة من بعده ، وما أحدثته حوله من أساطير !
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لّلّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ السّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } .
اختلف أهل التأويل في المعنيين بالأحزاب ، الذين ذكرهم الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عنى بذلك : الجماعة التي تناظرت في أمر عيسى ، واختلفت فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : فاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهمْ قال : هم الأربعة الذين أخرجهم بنو إسرائيل يقولون في عيسى . وقال آخرون : بل هم اليهود والنصارى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : فاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ قال : اليهود والنصارى .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : معنى ذلك : فاختلف الفِرَق المختلفون في عيسى بن مريم من بين من دعاهم عيسى إلى ما دعاهم إليه من اتقاء الله والعمل بطاعته ، وهم اليهود والنصارى ، ومن اختلف فيه من النصارى ، لأن جميعهم كانوا أحزابا مبتسلين ، مختلفي الأهواء مع بيانه لهم أمر نفسه ، وقوله لهم : إنّ الله هُوَ رَبّي وَرَبّكُمْ فاعْبَدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ .
وقوله : فَوَيْلٌ لِلّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَاب يَوْم ألِيمٍ يقول تعالى ذكره فالوادي السائل من القيح والصديد في جهنم للذين كفروا بالله ، الذين قالوا في عيسى بن مريم بخلاف ما وصف عيسى به نفسه في هذه الاَية مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ ألِيمٍ يقول : من عذاب يوم مؤلم ، ووصف اليوم بالإيلام ، إذ كان العذاب الذي يؤلمهم فيه ، وذلك يوم القيامة . كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ ألِيمٍ قال : من عذاب يوم القيامة .
و : { الأحزاب } المذكورون : قال جمهور المفسرين أراد : اختلف بنو إسرائيل وتحزبوا ، فمنهم من آمن به ، وهو قليل ، وكفر الغير ، وهذا إذا كان معهم حاضراً . وقال قتادة : { الأحزاب } هم الأربعة الذين كان الرأي والمناظرة صرفت إليهم في أمر عيسى عليه السلام . وقال ابن حبيب وغيره : { الأحزاب } النصارى افترقت مذاهبهم فيه بعد رفعه عليه السلام ، فقالت فرقة : هو الله ، وهم اليعقوبية قال الله عز وجل : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } [ المائدة : 17 ] . وقالت فرقة : هو ابن الله ، وهم النسطورية قال الله تعالى فيهم : { وقالت النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] ، وقالت فرقة : هو ثالث ثلاثة ، وهم الملكانية قال الله تعالى فيهم : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } [ المائدة : 73 ] .
وقوله تعالى : { من بينهم } بمعنى من تلقائهم ومن أنفسهم ثار شرهم ، ولم يدخل عليهم الاختلاف من غيرهم .