9- والله - وحده - هو الذي أرسل الرياح فتحرك سحابا تراكم من أبخرة الماء ، فسقنا السحاب إلى بلد مجدب ، فأحيينا أرضه بالنبات بعد موتها ، مثل إخراجنا النبات من الأرض نُخرج الموتى من القبور يوم القيامة{[183]} .
( والله الذي أرسل الرياح ، فتثير سحاباً ، فسقناه إلى بلد ميت ، فأحيينا به الأرض بعد موتها . كذلك النشور ) .
وهذا المشهد يتردد في معرض دلائل الإيمان الكونية في القرآن . مشهد الرياح ، تثير السحب ؛ تثيرها من البحار ، فالرياح الساخنة هي المثيرة للبخار ؛ والرياح الباردة هي المكثفة له حتى يصير سحاباً ؛ ثم يسوق الله هذا السحاب بالتيارات الهوائية في طبقات الجو المختلفة ، فتذهب يميناً وشمالاً إلى حيث يريد الله لها أن تذهب ، وإلى حيث يسخرها ويسخر مثيراتها من الرياح والتيارات ، حتى تصل إلى حيث يريد لها أن تصل . . إلى بلد ميت . . مقدر في علم الله أن تدب فيه الحياة بهذا السحاب . والماء حياة كل شيء في هذه الأرض . ( فأحيينا به الأرض بعد موتها ) . . وتتم الخارقة التي تحدث في كل لحظة والناس في غفلة عن العجب العاجب فيها . وهم مع وقوع هذه الخارقة في كل لحظة يستبعدون النشور في الآخرة . وهو يقع بين أيديهم في الدنيا . . ( كذلك النشور ) . . في بساطة ويسر ، وبلا تعقيد ولا جدل بعيد !
هذا المشهد يتردد في معرض دلائل الإيمان الكونية في القرآن لأنه دليل واقعي ملموس ، لا سبيل إلى المكابرة فيه . ولأنه من جانب آخر يهز القلوب حقاً حين تتملاه وهي يقظى ؛ ويلمس المشاعر لمساً موحياً حين تتجه إلى تأمله . وهو مشهد بهيج جميل مثير . وبخاصة في الصحراء حيث يمر عليها الإنسان اليوم وهي محل جدب جرداء . ثم يمر عليها غداً وهي ممرعة خضراء من آثار الماء . والقرآن يتخذ موحياته من مألوف البشر المتاح لهم ، مما يمرون عليه غافلين . وهو معجز معجب حين تتملاه البصائر والعيون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ الّذِيَ أَرْسَلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَىَ بَلَدٍ مّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النّشُورُ } .
يقول تعالى ذكره : والله الذي أرسل الرياح فتثير السحاب للحَيا والغيث فَسقْناهُ إلى بَلَدٍ مَيّتٍ يقول : فسقناه إلى بلد مجدب الأهل ، محل الأرض ، داثر لا نبت فيه ولا زرع فَأحْيَيْنا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يقول : فأخصبنا بغيث ذلك السحاب الأرض التي سقناه إليها بعد جدوبها ، وأنبتنا فيها الزرع بعد المحل كَذلكَ النّشُورُ يقول تعالى ذكره : هكذا يُنْشِر الله الموتى بعد بلائهم في قبورهم ، فيحييهم بعد فنائهم ، كما أحيينا هذه الأرض بالغيث بعد مماتها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، قال : حدثنا أبو الزعراء ، عن عبد الله ، قال : يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون ، فليس من بني آدم إلاّ وفي الأرض منه شيء . قال : فيرسل الله ماء من تحت العرش منيّا كمنيّ الرجل ، فتنبت أجسادهم ولحمانهم من ذلك ، كما تنبت الأرض من الثرى ، ثم قرأ : وَاللّهُ الّذِي أرْسَلَ الرّياحَ فَتُثيرُ سَحَابا فَسقْناهُ إلى بَلَدٍ مَيّتْ . . . إلى قوله : كَذلكَ النُشُورُ قال : ثم يقوم ملَك بالصور بين السماء والأرض ، فينفخ فيه ، فتنطلق كلّ نفس إلى جسدها ، فتدخل فيه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَاللّهُ الّذِي أرْسَلَ الرّياحَ فَتُثيرُ سحَابا قال : يرسل الرياح فتسوق السحاب ، فأحيا الله به هذه الأرض الميتة بهذا الماء ، فكذلك يبعثه يوم القيامة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه} فسقنا السحاب.
{إلى بلد ميت} يعني بالميت أنه ليس عليه نبت.
{فأحيينا به} بالماء {الأرض} فتنبت {بعد موتها} بعد إذ لم يكن عليها نبت.
{كذلك النشور} هكذا يحيون يوم القيامة بالماء كما يحيى الأرض بعد موتها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والله الذي أرسل الرياح فتثير السحاب للحَيا والغيث "فَسقْناهُ إلى بَلَدٍ مَيّتٍ "يقول: فسقناه إلى بلد مجدب الأهل، محل الأرض، داثر لا نبت فيه ولا زرع.
"فَأحْيَيْنا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها" يقول: فأخصبنا بغيث ذلك السحاب الأرض التي سقناه إليها بعد جدوبها، وأنبتنا فيها الزرع بعد المحل.
"كَذلكَ النّشُورُ" يقول تعالى ذكره: هكذا يُنْشِر الله الموتى بعد بلائهم في قبورهم، فيحييهم بعد فنائهم، كما أحيينا هذه الأرض بالغيث بعد مماتها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أجرى سُنَّتَه بأنه يُظْهِرُ فَضْلَه في إحياء الأرض بالتدريج؛ فأولاً يرسل الرياح ثم يأتي بالسحاب، ثم يوجِّه ذلك السحاب إلى الموضع الذي يريد له تخصيصاً كيف يشاء، ويُمْطِرُ هناك كيف يشاء، كذلك إذا أراد إحياءَ قلبِ عبدٍ بما يسقيه وينزل عليه من أَمطار عنايته، فيُرْسِلُ أولاً رياحَ الرجاء، ويزعج بها كوامنَ الإرادة، ثم ينشئ فيها سُحُبَ الاهتياج، ولوعةَ الانزعاج، ثم يجود بمطرٍ يُنْبِتُ في القلب أزهارَ البَسْطِ، وأَنوارَ الرَّوْح، فيطيب لصاحِبه العَيْشُ إلى أن تمَّ لطائفُ الأنْسِ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم جاء {فَتُثِيرُ} على المضارعة دون ما قبله وما بعده؟ قلت؛ ليحكي الحال التي تقع فيها أثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصور البديعة الدالة على القدرة الربانية، وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها: لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة قيل: فسقنا، وأحيينا؛ معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه آية احتجاج على الكفرة في إنكار البعث من القبور، فدلهم تعالى على المثال الذي يعاينونه وهو سواء مع إحياء الموتى.
{النشور} مصدر نشر الميت إذا حيي، ومنه قول الأعشى: يا عجبا للميت الناشر.
هبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار وذلك لأن الهواء قد يسكن، وقد يتحرك، وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين، وقد يتحرك إلى اليسار، وفي حركاته المختلفة قد ينشئ السحاب، وقد لا ينشئ، فهذه الاختلافات دليل على مسخر مدبر ومؤثر مقدر، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال تعالى: {والله الذي أرسل} بلفظ الماضي وقال: {فتثير سحابا} بصيغة المستقبل، وذلك لأنه لما أسند فعل الإرسال إلى الله وما يفعل الله يكون بقوله كن، فلا يبقى في العدم لا زمانا ولا جزأ من الزمان، فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه، كأنه كان وكأنه فرغ من كل شيء، فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة إلى المواضع المعينة والتقدير كالإرسال، ولما أسند فعل الإثارة إلى الريح وهو يؤلف في زمان فقال: {تثير} أي على هيئتها.
المسألة الثالثة: وجه التشبيه بقوله: {كذلك النشور} فيه وجوه:
أحدها: أن الأرض الميتة لما قبلت الحياة اللائقة بها، كذلك الأعضاء تقبل الحياة. وثانيها: كما أن الريح يجمع القطع السحابية، كذلك يجمع بين أجزاء الأعضاء وأبعاض الأشياء.
وثالثها: كما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت نسوق الروح والحياة إلى البدن الميت.
المسألة الرابعة: ما الحكمة في اختيار هذه الآية من بين الآيات، مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد، فنقول لما ذكر الله أنه فاطر السموات والأرض، وذكر من الأمور السماوية والأرواح وإرسالها بقوله: {جاعل الملائكة رسلا} ذكر من الأمور الأرضية الرياح وإرسالها بقوله: {والله الذي أرسل الرياح}...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
كثيرا ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
الإثارة خاصية للرياح وأثر لا ينفك في الغالب عنها، فلا يوجد إلا بعد إيجادها فيكون مستقبلاً بالنسبة إلى الإرسال، وعلى هذا يكون استعمال المضارع على ظاهره وحقيقته من غير تأويل، لأن المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم، والفاء دالة على عدم تراخي ذلك، وهو شيء آخر،وجوز أن يكون الإتيان بما يدل على الماضي ثم بما يدل على المستقبل، إشارة إلى استمرار الأمر وأنه لا يختص بزمان دون زمان، إذ لا يصح الماضي والاستقبال في شيء واحد إلا إذا قصد ذلك.
فأحيينا به الأرض، دون فأحييناه أي البلد الميت به، تعليقاً للإحياء بالجنس المعلوم عند كل أحد وهو الأرض، ولأن ذلك أوفق بأمر البعث.
{الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} مع أن الإحياء مؤذن بذلك، لما فيه من الإشارة إلى أن الموت للأرض الذي تعلق بها الإحياء معلوم لهم، وبذلك يقوى أمر التشبيه فليتأمل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فأحيينا به الأرض بعد موتها)... وتتم الخارقة التي تحدث في كل لحظة والناس في غفلة عن العجب العاجب فيها، وهم مع وقوع هذه الخارقة في كل لحظة يستبعدون النشور في الآخرة، وهو يقع بين أيديهم في الدنيا...
(كذلك النشور).. في بساطة ويسر، وبلا تعقيد ولا جدل بعيد!... لا سبيل إلى المكابرة فيه... وهو مشهد بهيج جميل مثير، وبخاصة في الصحراء حيث يمر عليها الإنسان اليوم وهي محل جدب جرداء، ثم يمر عليها غداً وهي ممرعة خضراء من آثار الماء، والقرآن يتخذ موحياته من مألوف البشر المتاح لهم، مما يمرون عليه غافلين، وهو معجز معجب حين تتملاه البصائر والعيون...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما قدم في أول السورة الاستدلال بأن الله فطر السماوات والأرض وما في السماوات من أهلها وذلك أعظم دليل على تفرده بالإِلهية، ثنّي هنا بالاستدلال بتصريف الأحوال بين السماء والأرض وذلك بإرسال الرياح وتكوين السحاب وإنزال المطر، فهذا عطف على قوله: {فاطر السماوات والأرض} [فاطر: 1]
واختير من دلائل الوحدانية، دلالة تجمع أسباب المطر ليفضي من ذلك إلى تنظير إحياء الأموات بعد أحوال الفناء بآثار ذلك الصنع العجيب وأن الذي خلق وسائل إحياء الأرض قادر على خلق وسائل إحياء الذين ضمنتهم الأرض على سبيل الإِدماج، وإذ قد كان القصد من الاستدلال هو وقوع الإِحياء، وتقرر وقوعه جيء بفعل الماضي في قوله: {أرسل}.
وأما تغييره إلى المضارع في قوله: {فتثير سحاباً} فلحكاية الحال العجيبة التي تقع فيها إثارة الرياح السحابَ، وهي طريقة للبلغاء في الفعل الذي فيه خصوصية بحال تستغرب وتهم السامع...
{كذلك النشور} إلى المذكور من قوله: {فأحيينا به الأرض}، والأظهر أن تكون الإِشارة إلى مجموع الحالة المصورة، أي مثل ذلك الصنع المحكم المتقن، نصنع صنعاً يكون به النشور؛ بأن يهيّئ الله حوادث سماوية أو أرضية أو مجموعة منهما، حتى إذا استقامت آثارها وتهيأت أجسام لقبول أرواحها، أمر الله بالنفخة الأولى والثانية، فإذا الأجساد قائمة ماثلة، نظير أمرِ الله بنفخ الأرواح في الأجنة عند استكمال تهيئها لقبول الأرواح...