البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابٗا فَسُقۡنَٰهُ إِلَىٰ بَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَحۡيَيۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ كَذَٰلِكَ ٱلنُّشُورُ} (9)

لما ذكر أشياء من الأمور السماوية وإرسال الملائكة ، ذكر أشياء من الأمور الأرضية : الرياح وإسالها ، وفي هذا احتجاج على منكري البعث .

دلهم على المثال الذي يعاينونه ، وهو وإحياء الموتى سيان .

وفي الحديث : « أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يحيي الله الموتى ، وما آية ذلك في خلقه ؟ فقال : هل مررت بوادي أهلك محلاً ، ثم مررت به يهتز خضراً ؟ فقالوا : نعم ، فقال : فكذلك يحيي الله الموتى ، وتلك آيته في خلقه »

قيل : { أرسل } في معنى يرسل ، ولذلك عطف عليه { فتثير } .

وقيل : جيء بالمضارع حكاية حال يقع فيها إثارة الرياح السحاب ، ويستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية ، ومنه فتصبح الأرض مخضرة .

قال الزمخشري : وكذا يفعلون بكل فعل فيه نوع تمييز خصوصية بحال يستغرب ، أو يتهم المخاطب ، أو غير ذلك ، كما قال تأبط شراً :

بأني قد لقيت الغول تهوي *** بشهب كالصحيفة صحصحان

فأضربها بلاد هش فخرت *** صريعاً لليدين وللجران

لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي يشجع فيها ابن عمه على ضرب الغول ، كأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها ، مشاهدة للتعجب من جراءته على كل هول ، وثباته عند كل شدّة .

وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت ، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها .

لما كان من الدلائل على القدرة الباهرة وقيل : فسقنا وأحيينا ، معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه . انتهى .

وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : أي أرسل بلفظ الماضي .

لما أسند إلى الله وما يفعله تعالى بقوله : كن ، لا يبقى زماناً ولا جزء زمان ، فلم يأت بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه ، ولأنه فرغ من كل شيء ، فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة .

ولما أسند الإثارة إلى الريح ، وهي تؤلف في زمان ، قال : { فتثير } ، وأسند { أرسل } إلى الغائب ، وفي { فسقناه } ، و { فأحيينا } إلى المتكلم ، لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ، ثم لما عرف قال : أنا الذي عرفتني سقت السحاب فأحييت الأرض .

ففي الأول تعريف بالفعل العجيب ، وفي الثاني تذكير بالبعث .

وفسقناه وفأحيينا بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين فتثير وأرسل . انتهى .

وهذا الذي ذكر من الفرق بين أرسل وفتثير لا يظهر .

ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة الروم : { ألله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً } وفي الأعراف { وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته } كيف جاء في الإرسال بالمضارع ؟ وإنما هذا من التفنن في الكلام والتصرف في البلاغة .

وأما الخروج من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه فهو من باب الالتفات ، وكذلك ما في الأعراف { سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } وأما قوله : وما يفعله تعالى إلى آخره ، وكل فعل ، وإن كان أسند إلى غيره مجازاً ، فهو فعله حقيقة ، فلا فرق بين ما يسنده إلى ذاته ، وبين ما يسند إلى غيره ، لأن جميع ذلك هو إيجاده وخلقه .

والنشور ، مصدر نشر : الميت إذا حيي ، قال الأعشى :

حتى يقول الناس مما رأوا *** يا عجباً للميت الناشر

والنشور : مبتدأ ، والجار والمجرور قبله في موضع الجر ، والتشبيه وقع لجهات لما قلبت الأرض الميتة الحياة اللائقة بها ، كذلك الأعضاء تقبل الحياة .

أو كما أن الريح يجمع قطع السحاب ، كذلك تجمع أجزاء الأعضاء وأبعاض الأشياء ؛ أو كما يسوق الرياح والسحاب إلى البلد الميت ، يسوق الروح والحياة إلى البدن .