نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابٗا فَسُقۡنَٰهُ إِلَىٰ بَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَحۡيَيۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ كَذَٰلِكَ ٱلنُّشُورُ} (9)

ولما أخبر تعالى أنه لا بد من إيجاد ما وعد به من البعث وغيره ، وحذر كل التحذير من التهاون بأمره ، وأنكر التسوية بين المصدق به والمكذب ، وكان السبب في الضلال المميت للقلوب الهوى الذي يغشى سماء العقل ويعلوه بسحابه المظلم فيحول بينه وبين النفوذ ، وكان السبب في السحاب المغطي لسماء الأرض المحيي لميت الحبوب الهوى ، وكان الإتيان به في وقت دون آخر دالاً على القدرة بالاختيار ، قال عاطفاً على جملة { إن وعد الله حق } المبني على النظر ، وهو الإخراج من العدم مبيناً لقدرته على ما وعد به : { والله } أي الذي له صفات الكمال لا شيء غيره من طبيعة ولا غيرها { الذي } ولما كان المراد الإيجاد من العدم ، عبر بالماضي مسنداً إليه لأنه الفاعل الحقيقي فقال : { أرسل الرياح } أي أوجدها من العدم مضطربة فيها ، أهلية الاضطراب والسير ليصرفها كيف شاء لا ثابتة كالأرض ، وأسكنها ما بين الخافقين لصلاح مكان الأرض .

ولما كانت إثارتها تتجدد كلما أراد أن يسقي أرضاً ، قال مسنداً إلى الرياح لأنها السبب ، معبراً بالمضارع حكاية للحال لتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على تمام القدرة ، وهكذا تفعل العرب فيما فيه غرابة تنبيهاً للسامع على ذلك وحثّاً له على تدبره وتصوره : { فتثير } أي بتحريكه لها إذا أراد { سحاباً } أي أنه أجرى سبحانه سنته أن تظهر حكمته بالتدريج .

ولما كان المراد الاستدلال على القدرة على البعث ، وكان التعبير بالمضارع يرد التعنت ، عبر بالمضارع . ولما كان سوق السحاب إلى بلد دون آخر وسقيه لمكان دون مكان من العظمة بمكان ، التفت عن الغيبة وجعله في مظهر العظمة فقال : { فسقناه } أي السحاب معبراً بالماضي تنبيهاً على أن كل سوق كان بعد إثارتها في الماضي والمستقبل منه وحده أو بواسطة من أقامه لذلك من جنده من الملائكة أو غيرهم ، لا من غيره ، ودل على أنه فرق بين البعد والقرب بحرف الغاية فقال : { إلى بلد ميت } .

ولما كان السبب في الحياة هو السحاب بما ينشأ عنه من الماء قال : { فأحيينا به الأرض } ولما كان المراد إرشادهم إلى القدرة على البعث الذي هم به مكذبون ، قال رافعاً للمجاز بكل تقدير وموضحاً كل الإيضاح للتصوير : { بعد موتها } ولما أوصل الأمر إلى غايته ، زاد في التنبيه على نعمة الإيجاد الثاني بقوله : { كذلك } أي مثل الإحياء لميت النبات { النشور * } حسّاً للأموات ، ومعنى للقلوب والنبات ، قال القشيري : إذا أراد إحياء قلب يرسل أولاً رياح الرجاء ، ويزعج بها كوامن الإرادة ، ثم ينشىء فيه سحاب الاهتياج ، ولوعة الانزعاج ، ثم يأتي مطر الحق فينبت في القلب أزهار البسط وأنوار الروح ، ويطيب لصاحبه العيش إلى أن تتم لطائف الإنس .