السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابٗا فَسُقۡنَٰهُ إِلَىٰ بَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَحۡيَيۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ كَذَٰلِكَ ٱلنُّشُورُ} (9)

ثم عاد تعالى إلى البيان بقوله سبحانه : { والله } أي : الذي له صفات الكمال لا شيء غيره من طبيعة ولا غيرها { الذي أرسل الرياح } أي : أوجدها من العدم فهبوبها دليل على الفاعل المختار ، لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين وقد يتحرك إلى الشمال ، وفي حركاته المختلفة قد ينشئ السحاب وقد لا ينشئ فهذه الاختلافات دليل على مسخر مدبر مؤثر مقدر وقوله تعالى { فتثير سحاباً } عطف على أرسل ؛ لأن أرسل بمعنى المستقبل فلذلك عطف عليه وأتى بأرسل لتحقيق وقوعه وب «تثير » لتصور الحال واستحضار الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة كقوله تعالى { أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة } ( الحج : 63 )

ولما أسند فعل الإرسال إليه تعالى وما يفعله يكون بقوله تعالى : { كن } فلا يبقى في العدم لا زماناً ولا جزءاً من الزمان فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة تكوينه فكأنه كان ، ولأنه فرغ عن كل شيء فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة إلى المواضع المعينة .

ولما أسند فعل الإثارة إلى الريح وهي تؤلف في زمان فقال { تثير } أي : على هيئتها ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتوحيد ، والباقون بالجمع وقوله تعالى { فسقناه } فيه التفاف عن الغيبة { إلى بلد ميت } أي : لا نبات بها ، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بتشديد الياء ، والباقون بالتخفيف { فأحيينا به } أي : بالمطر النازل منه ، وذِكْر السحاب كذكر المطر حيث أقيم مقامه أو بالسحاب فإنه سبب السبب أو الصائر مطراً { الأرض } بالنبات والكلأ { بعد موتها } أي : يَبَسِها .

تنبيه : العدول في : «سقنا » و«أحيينا » من الغيبة في قوله تعالى { والله الذي أرسل الرياح } إلى ما هو أدخل في الاختصاص وهو التكلم فيهما لما فيهما من مزيد الصنع ، والكاف في قوله تعالى { كذلك } في محل رفع أي : مثل إحياء الموات { النشور } للأموات وجه الشبه من وجوه : أولها : أن الأرض الميتة قبلت الحياة كذلك الأعضاء تقبل الحياة . ثانيها : كما أن الريح يجمع السحاب المقطع كذلك تجمع الأعضاء المتفرقة . ثالثها : كما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت كذلك نسوق الروح إلى الجسد الميت .

فإن قيل : ما الحكمة في اختيار هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد ؟ أجيب : بأنه تعالى لما ذكر كونه فاطر السماوات والأرض وذكر من الأمور السماوية الأرواح وإرسالها بقوله تعالى : { جاعل الملائكة رسلاً } ( فاطر : 1 ) ذكر من الأمور الأرضية الرياح ، وروي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : «كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه ؟ فقال : هل مررت بواد أهلك محلاً ثم مررت به يهتز ؟ فقال : نعم فقال : فكذلك يحيي الله الموتى وتلك آيته في خلقه » وقيل : يحيي الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش كمني الرجال تنبت منه أجساد الخلق .

ولما كان الكافرون يتعززون بالأصنام كما قال تعالى { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزّاً } ( مريم : 81 ) والذين آمنوا بألسنتهم غير مواطئة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين كما قال تعالى { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً } ( النساء : 139 ) .