اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابٗا فَسُقۡنَٰهُ إِلَىٰ بَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَحۡيَيۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ كَذَٰلِكَ ٱلنُّشُورُ} (9)

ثم عاد إلى البيان وقال : { الله الذي أَرْسَلَ الرياح } وهبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار ، لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين وقد يتحرك إلى الشمال وفي حركاته المخلتفة قد يُنْشِئ السَّحَابَ وقد لا يُنْشِئُ .

فهذه الاختلافات دليل على مسخَّرٍ مدبِّرٍ مُؤَثِّر مُقَدِّرٍ{[45080]} .

قوله : { فَتُثِرُ } عطف على «أرْسَلَ » لأن «أرْسَلَ » بمعنى المستقبل فلذلك عطف عليه وأتى بأرْسَلَ لِتَحقُّقِ وقوعه . و «تثيرُ » لتصور الحال واستحضار الصورة البديعة كقوله : { أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً } [ الحج : 63 ] وكقول تَأبَّط شَرًّا :

4154- ألاَ مَنْ مُبْلِغٌ فِتْيَانَ فَهْمٍ . . . بِمَا لاَقَيْتُ عِنْدَ رَحَا مَطَانِ

بأنِّي قد رأيت الغول تَهْوِي . . . بِسَهْبٍ كالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَانِ

فَقُلْتُ لَهَا كِلاَنَا نِضْوُ أرْضٍ . . . أَخُو سَفَرٍ فخل لِي مَكَانِي

فَشَدَّتْ شَدَّةً نَحْوِي فَأَهْوَتْ . . . لَهَا كَفِّي بمصقول يَمَانِي

فَأَضْرِبُهَا بِلاَ دَهَشٍ فَخَرَّتْ . . . صَرِيعاً لِلْيَدَيْنِ ولِلْجِرَانِ{[45081]}

حيث قال : «فأضربها » ليصور لقومه حاله وشجاعته وجرأته وقوله : «فَسُقْنَاهُ و أَحْيَيْنَا » معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدْخَلُ في الاختصاص وأدلّ عليه{[45082]} .

فصل

قال : أرسل بلفظ الماضي وقال : { فَتُثِيرُ سَحَاباً } بلفظ المستقبل ، لأنه لما أُسند فعل الإرسال إلى الله وما يفعله يكون بقوله كن فلا يبقى في العدم لا زماناً ولا جزءاً من الزَّمان فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان ، ولأنه فرغ{[45083]} من كل شيء فهو قدّر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة . ولما أسند فعل الإشارة إلى الريح وهي{[45084]} تؤلَف في زمان فقال : تُثِيرُ أي على هيئتها وقال : «سُقْنَا » أسند الفعل إلى المتلكم وكذلك في قوله : «فَأحْيَيْنَا » لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ثم لما عرف قال : أنا الذي بَعَثْتُ{[45085]} السَّحَاب وأحْيَيْتُ الأَرْضَ . ففي الأول كان تعريفاً بالفعل العجيب وفي الثاني : كان تذكيراً بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحاب بالسَّوْقِ والإحياء وقوله : «سُقْنَا وَأَحْيَيْنَا » بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين قوله : «أرسل » وبين قوله : «تثير » ثم قال : «كَذَلِكَ النُّشُورُ » أي من القبور ووجه التشبيه من وجوه :

أحدها : أن الأرض الميتة لما وصلت{[45086]} الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة .

وثانيها : كما أن الريح تجمع القِطَعَ السحابية كذلك نجمع أجزاء الأعطاء وأبعَاضَ الأشياء .

وثالثها : كما أنَّا نسوق الرِّيح والسحاب إلى البلد كذلك نسوق الرُّوحَ إلى الجسد الميِّت .

فإن قيل : ما الحكمة في هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد ؟

فالجواب : أنه تعالى لما ذكر أنه فاطر السماوات والأرض وذكر من الأمور السماوية والأرواح وإرسالها بقوله : «جَاعِلِ الملائكة رسلاً أولي أجنحة » ذكر من الأمور الأرضية الرِّياحَ{[45087]} .


[45080]:تفسير الرازي 26/7 .
[45081]:أبيات من الوافر له و((فهم)) قبيلة عربية و((رحا مطان)) مكان و((السهب)) الفضاء الشاسع من الأرض و((الصحصحان)) المستوي. والنضو: الدابة الهزيلة من كثرة السفر. والمصقول: السيف والجران مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره. والشاهد في ((فأضربها)) حيث عبر بلفظ المستقبل تحققا لوقوعه وأنه واثق في النصر فقصد الصورة الماضية في الذهن. وانظر: الكشاف 3/302 والبحر 7/302 وكذلك القرطبي 14/327 والمثل السائر 69 ومعجم البلدان ((رحا مطان)) وشرح شواهد الكشاف 557 .
[45082]:قاله الزمخشري في الكشاف 3/302 وأبو حيان في البحر 7/302 أيضا.
[45083]:كذا هي في ((أ)) وفي الرازي: وكأنه قرع.
[45084]:كذا في ((ب)) وفي الرازي: وهو يؤلف بالتذكير.
[45085]:في الرازي: عرفتني سقت السحاب وعرفتني أحييت الأرض.
[45086]:في ((ب)) قبلت وكذا في الرازي.
[45087]:الرازي 26/7.