ولكن لعل كثيرين يغريهم طول الأمد ، وجهل الموعد ، فيبعدون من حسابهم حساب الآخرة هذا ! فها هو ذا القرآن ينذرهم كذلك بالمحق في الدنيا والآخرة جميعا ، ويقرر أن الصدقات - لا الربا - هي التي تربو وتزكو ؛ ثم يصم الذين لا يستجيبون بالكفر والإثم . ويلوح لهم بكره الله للكفرة الآثمين :
( يمحق الله الربا ، ويربي الصدقات ، والله لا يحب كل كفار أثيم ) . .
وصدق وعيد الله ووعده . فها نحن أولاء نرى أنه ما من مجتمع يتعامل بالربا ثم تبقى فيه بركة أو رخاء أو سعادة أو أمن أو طمأنينة . . إن الله يمحق الربا فلا يفيض على المجتمع الذي يوجد فيه هذا الدنس إلا القحط والشقاء . وقد ترى العين - في ظاهر الأمر - رخاء وإنتاجا وموارد موفورة ، ولكن البركة ليست بضخامة الموارد بقدر ما هي في الاستمتاع الطيب الآمن بهذه الموارد . وقد أشرنا من قبل إلى الشقوة النكدة التي ترين على قلوب الناس في الدول الغنية الغزيرة الموارد ؛ وإلى القلق النفسي الذي لا يدفعه الثراء بل يزيده . ومن هذه الدول يفيض القلق والذعر والاضطراب على العالم كله اليوم . حيث تعيش البشرية في تهديد دائم بالحرب المبيدة ؛ كما تصحو وتنام في هم الحرب الباردة ! وتثقل الحياة على أعصاب الناس يوما بعد يوم - سواء شعروا بهذا أم لم يشعروا - ولا يبارك لهم في مال ولا في عمر ولا في صحة ولا في طمأنينة بال !
وما من مجتمع قام على التكافل والتعاون - الممثلين في الصدقات المفروض منها والمتروك للتطوع - وسادته روح المودة والحب والرضى والسماحة ، والتطلع دائما إلى فضل الله وثوابه ، والاطمئنان دائما إلى عونه وإخلافه للصدقة بأضعافها . . ما من مجتمع قام على هذا الأساس إلا بارك الله لأهله - أفرادا وجماعات - في ما لهم ورزقهم ، وفي صحتهم وقوتهم وفي طمأنينة قلوبهم وراحة بالهم .
والذين لا يرون هذه الحقيقة في واقع البشرية ، هم الذين لا يريدون أن يروا ، لأن لهم هوى في عدم الرؤية ! أو الذين رانت على أعينهم غشاوة الأضاليل المبثوثة عمدا وقصدا من أصحاب المصلحة في قيام النظام الربوي المقيت ؛ فضغطوا عن رؤية الحقيقة !
( والله لا يحب كل كفار أثيم ) . .
وهذا التعقيب هنا قاطع في اعتبار من يصرون على التعامل الربوي - بعد تحريمه - من الكفار الآثمين ، الذين لا يحبهم الله . وما من شك أن الذين يحلون ما حرم الله ينطبق عليهم وصف الكفر والإثم ، ولو قالوا بألسنتهم ألف مرة : لا إله إلا الله . محمد رسول الله . فالإسلام ليس كلمة باللسان ؛ إنما هو نظام حياة ومنهج عمل ؛ وإنكار جزء منه كإنكار الكل . . وليس في حرمة الربا شبهة ؛ وليس في اعتباره حلالا وإقامة الحياة على أساسه إلا الكفر والإثم . . والعياذ بالله . .
{ يَمْحَقُ اللّهُ الْرّبَا وَيُرْبِي الصّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ كَفّارٍ أَثِيمٍ }
يعني عز وجل بقوله : { يَمْحَقُ اللّهُ الربا } : ينقص الله الربا فيذهبه . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { يَمْحَقُ اللّهُ الرّبا } قال : ينقص .
وهذا نظير الخبر الذي رُوي عن عبد الله بن مسعود ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الرّبا وَإِنْ كَثُرَ فإلى قُلّ » . وأما قوله : { وَيُرْبي الصّدَقَاتِ } فإنه جل ثناؤه يعني : أنه يضاعف أجرها لربها ، وينميها له . وقد بينا معنى الربا قبل والإرباء وما أصله ، بما فيه الكفاية من إعادته .
فإن قال لنا قائل : وكيف إرباء الله الصدقات ؟ قيل : إضعافه الأجر لربها ، كما قال جل ثناؤه : { مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ أنْبَتَتْ سَبْع سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنْبلَةٍ مِائَةُ حَبّةٍ } وكما قال : { مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أضْعافا كَثِيرَةَ } . وكما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن القاسم أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ يَقْبَلُ الصّدَقَةَ وَيَأخُذُها بِيَمِينِهِ ، فَيُرَبّيها لأحَدِكُمْ كَما يُرَبّي أحَدُكُمْ مُهْرَهُ ، حتى إِنّ اللّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحِدٍ » . وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجل : { ألَمْ يَعْلَمُوا أنّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويأخُذُ الصّدَقَاتِ } و{ يمْحَقُ اللّهُ الرّبا ويُرْبي الصّدَقَاتِ } .
حدثني سليمان بن عمر بن خالد الأقطع ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن عباد بن منصور ، عن القاسم بن محمد ، عن أبي هريرة ، ولا أراه إلا قد رفعه ، قال : «إِنّ الله عزّ وجلّ يَقْبَلُ الصّدَقَةَ ، ولا يَقْبَلُ إلا الطّيّبَ » .
حدثني محمد بن عمر بن عليّ المقدمي ، قال : حدثنا ريحان بن سعيد ، قال : حدثنا عباد ، عن القاسم ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعالى يَقْبَلُ الصّدَقَةَ وَلا يَقْبَلُ مِنْهَا إِلاّ الطّيّبَ ، وَيُرَبّيها لِصَاحِبِها كَمَا يُرَبّي أحَدُكُمْ مُهْرَهُ أوْ فَصِيلَهُ ، حتى إِنّ اللّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ » . وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ : { يَمْحَقُ اللّهُ الرّبا وَيُربِي الصّدَقَاتِ } .
حدثني محمد بن عبد الملك ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر ، عن أيوب ، عن القاسم بن محمد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنّ العَبْدَ إذَا تَصَدّقَ مِنْ طَيّبٍ تَقَبّلَهَا اللّهُ مِنْهُ ، وَيَأَخُذُها بِيَمِينِهِ وَيُرَبّيهَا كَمَا يُرَبَي أحَدُكُمْ مُهْرَهُ أوْ فَصِيلَهُ . وَإِنّ الرّجُلَ لَيَتَصَدّقُ بِاللّقْمَةِ فَتَرْبُو فِي يَدِ اللّهِ » ، أو قال : «في كف اللّهِ عَزّ وَجَلّ حتى تَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ¹ فَتَصَدّقُوا » .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت يونس ، عن صاحب له ، عن القاسم بن محمد ، قال : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ يَقْبَلُ الصّدَقَةَ بِيَمِينِهِ ، وَلاَ يَقْبَلُ مِنْهَا إِلاّ مَا كَانَ طَيّبا ، وَاللّهُ يُرَبّي لأحَدِكُمْ لُقْمَتَهُ كَمَا يُرَبّي أحَدُكُمْ مُهْرَهُ وَفَصِيلَهُ ، حتى يُوافَى بِها يَوْمَ القِيامَةِ وَهِيَ أعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ » .
وأما قوله : { وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ كَفّارٍ أثِيمٍ } فإنه يعني به : والله لا يحبّ كل مصرّ على كفر بربه ، مقيم عليه ، مستحلّ أكل الربا وإطعامه ، أثيم متماد في الإثم فيما نهاه عنه من أكل الربا والحرام وغير ذلك من معاصيه ، لا ينزجر عن ذلك ، ولا يرعوي عنه ، ولا يتعظ بموعظة ربه التي وعظه بها في تنزيله وآي كتابه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.