ثم يستطرد في عرض مقولاتهم عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] واعتراضاتهم الجاهلة على بشريته ، واقتراحاتهم المتعنتة على رسالته :
( وقالوا : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ? لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ! أو يلقى إليه كنز ، أو تكون له جنة يأكل منها . وقال الظالمون : إن تتبعون إلا رجلا مسحورا . انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا . تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك : جنات تجري من تحتها الأنهار ، ويجعل لك قصورا ) . .
ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ? ما له بشرا يتصرف تصرفات البشر ? إنه الاعتراض المكرور الذي رددته البشرية عن كل رسول ! كيف يمكن أن يكون فلان ابن فلان ، المعروف لهم ، المألوف في حياتهم ، الذي يأكل كما يأكلون ، ويعيش كما يعيشون . . كيف يمكن أن يكون رسولا من عند الله يوحى إليه ? كيف يمكن أن يتصل بعالم آخر غير عالم الأرض يتلقى عنه ? وهم يرونه واحدا منهم من لحم ودم . وهم لا يوحى إليهم ، ولا يعرفون شيئا عن ذلك العالم الذي يأتي منه الوحي لواحد منهم ، لا يتميز في شيء عنهم .
والمسألة من هذا الجانب قد تبدو غريبة مستبعدة . ولكنها من الجانب الآخر تبدو طبيعية مقبولة . . لقد نفخ الله من روحه في هذا الإنسان ، وبهذه النفخة الإلهية تميز وصار إنسانا ، واستخلف في الأرض . وهو قاصر العلم ، محدود التجربة ، ضعيف الوسيلة ، وما كان الله ليدعه في هذه الخلافة دون عون منه ، ودون هدي ينير له طريقه . وقد أودعه الاستعداد للإتصال به عن طريق تلك النفخة العلوية التي ميزته . فلا عجب أن يختار الله واحدا من هذا الجنس ؛ صاحب استعداد روحي للتلقي ؛ فيوحي إليه ما يهدي به إخوانه إلى الطريق كلما غام عليهم الطريق ، وما يقدم به إليهم العون كلما كانوا في حاجة إلى العون .
إنه التكريم الإلهي للإنسان يبدو في هذه الصورة العجيبة من بعض جوانبها ، الطبيعية من البعض الآخر . ولكن الذين لا يدركون قيمة هذا المخلوق ، ولا حقيقة التكريم الذي أراده الله له ، ينكرون أن يتصل بشر بالله عن طريق الوحي ؛ وينكرون أن يكون واحد من هؤلاء البشر رسولا من عند الله . يرون الملائكة أو لي بهذا وأقرب : ( لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ) . والله قد أسجد الملائكة للإنسان بما أودعه من الخصائص الفائقة ، الناشئة من النفخة العلوية الكريمة .
وإنها الحكمة الإلهية كذلك تبدو في رسالة واحد من البشر إلى البشر . واحد من البشر يحس إحساسهم ، ويتذوق مواجدهم ، ويعاني تجاربهم ، ويدرك آلامهم وآمالهم ، ويعرف نوازعهم وأشواقهم ، ويعلم ضروراتهم وأثقالهم . . ومن ثم يعطف على ضعفهم ونقصهم ، ويرجو في قوتهم واستعلائهم ، ويسير بهم خطوة خطوة ، وهو يفهم ويقدر بواعثهم وتأثراتهم واستجاباتهم ، لأنه في النهاية واحد منهم ، يرتاد بهم الطريق إلى الله ، بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق !
وهم من جانبهم يجدون فيه القدوة الممكنة التقليد ، لأنه بشر منهم ، يتسامى بهم رويدا رويدا ؛ ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أن الله قد فرضها عليهم ، وأرادها منهم ؛ فيكون هو بشخصه ترجمة حية للعقيدة التي يحملها إليهم . وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم ينقلونها سطرا سطرا ، ويحققونها معنى معنى ، وهم يرونها بينهم ، فتهفو نفوسهم إلى تقليدها ، لأنها ممثلة في إنسان ؛ ولو كان ملكا ما فكروا في عمله ولا حاولوا أن يقلدوه ؛ لأنهم منذ البدء يشعرون أن طبيعته غير طبيعتهم ، فلا جرم يكون سلوكه غير سلوكهم على غير أمل في محاكاته ، ولا شوق إلى تحقيق صورته !
فهي حكمة الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا . هي حكمة الله البالغة أن جعل الرسول بشرا ليؤدي دوره على قيادة البشر . والاعتراض على بشرية الرسول جهل بهذه الحكمة . فوق ما فيه من جهل بتكريم الله للإنسان !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَا لِهََذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَىَ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظّالِمُونَ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مّسْحُوراً } .
ذُكر أن هاتين الاَيتين نزلتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان مشركو قومه قالوا له ليلة اجتماع أشرافهم بظهر الكعبة ، وعرضوا عليه أشياء ، وسألوه الاَيات .
فكان فيما كلّموه به حينئذٍ ، فيما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جُبير ، أو عكرِمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس : أن قالوا له : فإن لم تفعل لنا هذا يعني ما سألوه من تسيير جبالهم عنهم ، وإحياء آبائهم ، والمجيء بالله والملائكة قبيلاً ، وما ذكره الله في سورة بني إسرائيل فخذ لنفسك ، سلْ ربك يبعثْ معك ملَكا يصدّقك بما تقول ويراجعنا عنك ، وسَلْه فيجعل لك قصورا وجنانا وكنوزا من ذهب وفضة ، تغنيك عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعلم فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أنا بِفاعِلٍ » فأنزل الله في قولهم : أنْ خُذْ لنفسك ما سألوه أن يأخذ لها : أن يجعل له جنانا وقصورا وكنوزا ، أو يبعث معه ملَكا يصدّقه بما يقول ويردّ عنه من خاصمه . وقالُوا ما لِهَذَا الرّسُولِ يأْكُلُ الطّعامَ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرا أوْ يُلْقَى إلَيْهِ كَنْزٌ أوْ تَكُونُ لَهُ جَنّةٌ يأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظّالِمُونَ إنْ تَتّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَسْحُورا .
فتأويل الكلام : وقال المشركون ما لِهَذا الرّسُولِ : يَعْنون محمدا صلى الله عليه وسلم ، الذي يزعم أن الله بعثه إلينا ، يَأكُلُ الطعَامَ كما نأكل ، ويَمْشِي في أسواقنا كما نمشي . لَوْلاَ أنْزِلَ إلَيهِ يقول : هلا أنزل إليه ملَك إن كان صادقا من السماء ، فَيَكُونَ مَعَه منذرا للناس ، مصدّقا له على ما يقول ، أو يلقى إليه كنز من فضة أو ذهب فلا يحتاج معه إلى التصرّف في طلب المعاش ، أوْ تكون له جنة يقول : أو يكون له بستان يَأكُلُ مِنْها .
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : يَأْكُلُ بالياء ، بمعنى : يأكل منها الرسول . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : «نَأْكُلُ مِنْها » بالنون ، بمعنى : نأكل من الجنة .
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بالياء وذلك للخبر الذي ذكرنا قبل بأن مسألة من سأل من المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه هذه الخلال لنفسه لا لهم فإذ كانت مسألتهم إياه ذلك كذلك ، فغير جائز أن يقولوا له : سلْ لنفسك ذلك لنأكل نحن .
وبعدُ ، فإن في قوله تعالى ذكره : تَبَارَكَ الّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذَلِكَ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ، دليلاً بيّنا على أنهم إنما قالوا له : اطلب ذلك لنفسك ، لتأكل أنت منه ، لا نحن .
وقوله : وَقال الظّالِمُونَ يقول : وقال المشركون للمؤمنين بالله ورسوله : إنْ تَتّبِعُونَ أيّها القوم ، باتباعكم محمدا إِلاّ رَجُلاً به سحر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.