بدأت السورة بالقسم بخمسة من أعظم المخلوقات على وقوع العذاب بالمكذبين ، ثم خلصت إلى الحديث عن نزوله بهم ، وألوانه معهم يوم البعث والجزاء ، وانتقلت إلى الحديث عن نعيم المتقين وما يتفكهون به في جنات الخلد ما ينالون من صنوف الإكرام ، ثم ما تقر به أعينهم من اتباع ذريتهم بهم ، ورفع درجتهم إليهم . وأعقبت ذلك أمرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمداومة على التذكير دون مبالاة بما يتقول عليه الكافرون ، أو الالتفات لما يصفون به القرآن الكريم ، مظهرة عجزهم عن أن يأتوا بحديث مثله .
كما سفهت كثيرا من آرائهم الفاسدة إعلانا لضلالهم ، وسوء تقديرهم ، ثم ختمت بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتركهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ، وأمرته أن يصبر لحكم ربه بإمهالهم ، فإن ذلك لن يضيره ، لأنه في حفظ ربه ورعايته ، كما دعته إلى تسبيح الله وتنزيهه في جميع الأوقات في كل قيام يكون منه لأي غرض من الأغراض ، وفي الليل عند غروب النجوم .
1 - أقسم بجبل طور سيناء الذي كلَّم الله عليه موسى ، وبكتاب منزل من عند الله مكتوب في صحف ميسرة للقراءة ، وبالبيت المعمور بالطائقين والقائمين والركع السجود ، وبالسماء المرفوعة بغير عمد ، وبالبحر المملوء .
سورة الطور مكية وآيتها تسع وأربعون
هذه السورة تمثل حملة عميقة التأثير فى القلب البشري . ومطاردة عنيفة للهواجس والشكوك والشبهات والأباطيل التي تساوره وتتدسس إليه وتختبئ هنا وهناك في حناياه . ودحض لكل حجة وكل عذر قد يتخذه للحيدة عن الحق والزيغ عن الإيمان . . حملة لا يصمد لها قلب يتلقاها ، وهي تلاحقه حتى تلجئه إلى الإذعان والاستسلام !
وهي حملة يشترك فيها اللفظ والعبارة ، والمعنى والمدلول ، والصور والظلال ، والإيقاعات الموسيقية لمقاطع السورة وفواصلها على السواء . ومن بدء السورة إلى ختامها تتوالى آياتها كما لو كانت قذائف ، وإيقاعاتها كما لو كانت صواعق ، وصورها وظلالها كما لو كانت سياطا لاذعة للحس لا تمهله لحظة واحدة من البدء إلى الختام !
وتبدأ السورة بقسم من الله سبحانه بمقدسات في الأرض والسماء . بعضها مكشوف معلوم ! وبعضها مغيب مجهول : ( والطور . وكتاب مسطور . في رق منشور . والبيت المعمور . والسقف المرفوع ) . .
القسم على أمر عظيم رهيب ، يرج القلب رجا ، ويرعب الحس رعبا . في تعبير يناسب لفظه مدلوله الرهيب ؛ وفي مشهد كذلك ترجف له القلوب : ( إن عذاب ربك لواقع . ما له من دافع ، يوم تمور السماء مورا ، وتسير الجبال سيرا ) . .
وفي وسط المشهد المفزع نرى ونسمع ما يزلزل ويرعب ، من ويل وهول ، وتقريع وتفزيع : ( فويل يومئذ للمكذبين ، الذين هم في خوض يلعبون . يوم يدعون إلى نار جهنم دعا . هذه النار التي كنتم بها تكذبون . أفسحر هذا ? أم أنتم لا تبصرون ? اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا ، سواء عليكم ، إنما تجزون ما كنتم تعملون ) . .
هذا شوط من حملة المطاردة . يليه شوط آخر من لون آخر . شوط في إطماع القلوب التي رأت ذلك الهول المرعب - إطماعها في الأمن والنعيم . بعرض صورة المتقين وما أعد لهم من تكريم . وما هيئ لهم من نعيم رخي رغيد ، يطول عرضه ، وتكثر تفصيلاته ، وتتعدد ألوانه . مما يستجيش الحس إلى روح النعيم وبرده ؛ بعد كرب العذاب وهوله : ( إن المتقين في جنات ونعيم . فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم . كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون . متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين . والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ، وما ألتناهم من عملهم من شيء ، كل امرئ بما كسب رهين . وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون . يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم . ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون . وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قالوا : إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين . فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم . إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم ) . .
والآن وقد أحس القلب البشري سياط العذاب في الشوط الأول ؛ وتذوق حلاوة النعيم في الشوط الثاني . . الآن يجيء الشوط الثالث يطارد الهواجس والوساوس ؛ ويلاحق الشبهات والأضاليل ؛ ويدحض الحجج والمعاذير . ويعرض الحقيقة بارزة واضحة بسيطة عنيفة . تتحدث بمنطق نافذ لا يحتمل التأويل ، مستقيم لا يحتمل اللف والدوران . يلوي الأعناق ليا ويلجئها إلى الإذعان والتسليم . . ويبدأ هذا الشوط بتوجيه الخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليمضي في تذكيره لهم ، على الرغم من سوء أدبهم معه ؛ وليقرعهم بهذا المنطق النافذ القوي المستقيم : فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون . أم يقولون : شاعر نتربص به ريب المنون ? قل : تربصوا فإني معكم من المتربصين . أم تأمرهم أحلامهم بهذا ? أم هم قوم طاغون ? أم يقولون تقوله ? بل لا يؤمنون . فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين . أم خلقوا من غير شيء ? أم هم الخالقون ? أم خلقوا السماوات والأرض ? بل لا يوقنون . أم عندهم خزائن ربك ? أم هم المصيطرون ? أم لهم سلم يستمعون فيه ? فليأت مستمعهم بسلطان مبين . أم له البنات ولكم البنون ? أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ? أم عندهم الغيب فهم يكتبون ? أم يريدون كيدا ? فالذين كفروا هم المكيدون . أم لهم إله غير الله ? سبحان الله عما يشركون . .
وعقب هذه الأسئلة المتلاحقة . بل هذه القذائف الصاعقة . التي تنسف الباطل نسفا ، وتحرج المكابر والمعاند ، وتخرس كل لسان يزيغ عن الحق أو يجادل فيه . . عقب هذا يصور تعنتهم وعنادهم في صورة الذي يكابر في المحسوس : ( وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا : سحاب مركوم ) . والفرق بين قطعة السماء تسقط وبين السحاب واضح ، ولكنهم هم يتلمسون كل شبهة ليعدلوا عن الحق الواضح .
هنا يلقي عليهم بالقذيفة الأخيرة . قذيفة التهديد الرعيب ، بملاقاة ذلك المشهد المرهوب ، الذي عرض عليهم في مطلع السورة : ( فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون . يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون ) . . كما يهددهم بعذاب أقرب من ذلك العذاب : ( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ، ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . .
ثم تختم السورة بإيقاع رضي رخي . . إنه موجه إلى الرسول الكريم الذي يقولون عنه : ( شاعر نتربص به ريب المنون ) . . ويقولون : كاهن أو مجنون . موجه إليه من ربه يسليه ويعزيه في إعزاز وتكريم . في تعبير لا نظير له في القرآن كله ؛ ولم يوجه من قبل إلى نبي أو رسول : ( واصبر لحكم ربك ، فإنك بأعيننا ، وسبح بحمد ربك حين تقوم ، ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم ) . .
إنه الإيقاع الذي يمسح على العنت والمشقة اللذين يلقاهما الرسول الكريم ، من أولئك المتعنتين المعاندين ، الذين اقتضت مواجهتهم تلك الحملة العنيفة من المطاردة والهجوم . .
( والطور . وكتاب مسطور . في رق منشور . والبيت المعمور . والسقف المرفوع . والبحر المسجور . إن عذاب ربك لواقع . ما له من دافع . يوم تمور السماء مورا . وتسير الجبال سيرا . فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون . يوم يدعون إلى نار جهنم دعا . هذه النار التي كنتم بها تكذبون . أفسحر هذا ? أم أنتم لا تبصرون ? اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا ، سواء عليكم ، إنما تجزون ما كنتم تعملون ) . .
هذه الآيات القصيرة ، والفواصل المنغمة ، والإيقاعات الفاصلة ، تصاحب السورة من مطلعها . وهي تبدأ كلمة واحدة . ثم تصبح كلمتين . ثم تطول شيئا فشيئا حتى تبلغ في نهاية المقطع اثنتي عشرة كلمة . مع المحافظة الكاملة على قوة الإيقاع .
والطور : الجبل فيه شجر . والأرجح أن المقصود به هو الطور المعروف في القرآن ، المذكور في قصة موسى - عليه السلام - والذي نزلت فوقه الألواح . فالجو جو مقدسات يقسم بها الله سبحانه على الأمر العظيم الذي سيجيء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالطّورِ * وَكِتَابٍ مّسْطُورٍ * فِي رَقّ مّنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ * مّا لَهُ مِن دَافِعٍ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : والطّورِ : والجبل الذي يُدعى الطور .
وقد بيّنت معنى الطور بشواهده ، وذكرنا اختلاف المختلفين فيه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقد :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تبارك وتعالى : والطّورِ قال الجبل بالسّرْيانية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.