تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَٱلطُّورِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الطور كلها{[1]} مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيتان 1 و2 و3 قوله تعالى : { والطور } { وكتاب مسطور } { في رَقٍّ منشور } ثم اختُلف بالقَسم بالطور وما ذكر :

قال قائلون : القسم إنما هو بمنشئ هذه الأشياء التي ذكر لا بهذه الأشياء نفسها ؛ إذ الله تعالى نهى الخلق بأن يُقسموا بغيره ، فكيف يُقسم بنفسه ؟

وقال قائلون : فيجوز أن يُقسم ، جل ، وعلا ، بما شاء وبمن شاء بالذي عظُم قدره عندهم ، وقد ذكرنا أن الإقسام إنما يكون بالأشياء التي عظُمت أقدارها ومحالّها عند الخلق ، يُقسم بها لدفع الشبهة التي تمنع وقوع العلم لهم بذلك والمعرفة بالذي اشتبه عليهم ، والتبس ليعرفوا أن ذلك كائن ، لا محالة ، وأن بالذي اشتبه عليهم ، والتبس ، وأنه حق بما لم تفكّروا في تلك الأشياء وأمعنوا النظر فيها على غير قسم لوقع لهم العلم بذلك ، وتحقّق ، والله أعلم .

ثم إن الله سبحانه وتعالى أقسم بأشياء سواه ، وليس للخلق ذلك لأن قسم الخلق يُخرّج مُخرَج الفزع إليه والتضرّع ، ولا يجوز الفزع من سواه والاستعانة به .

فأما القسم من الله تعالى حقيقة فهو على التذكير والتنبيه للخلق والتأكيد ما وعد لهم من الجزاء . فيجوز له القسم بكل ما يكون لهم التذكير والتنبيه والتأكيد ، وإن كان بغيره وسواه مما لذلك خطر ومحلّ عند الناس وعند الله تعالى ، والله أعلم .

وإن{[2]} القسم المذكور في القرآن لإثبات صدق إخبار الرسل إليهم وأنهم{[3]} رسلُه وأنهم إذا فعلوا كذا ينزل عليهم من العذاب كذا لأن أولئك الرسل{[4]} لم يكذّبوا الله تعالى في خبر حتى يكون قسمه لإثبات صدق خبره . وإنما يتحقّق صدق خبرهم بنا أقاموا من المعجزات والبراهين ، لكن يتأكّد بالقسم ، فيحصُل ذلك بذكر ما له خطر ومحلٌّ عندهم .

فأما قسم الخلق لإثبات أصل الصّدق فيجب أن يُقسموا بذكر ما هو النهاية في العظمة والقدرة في القلوب ، وهو أسماء الله تعالى وصفاته ، والله أعلم .

ويحتمل أن يكون القسم بهذه الأشياء من الرسل عليهم السلام فإن كان كذلك فهو على الإضمار كأنهم أقسموا{[5]} بمُنشئ الطور { وكتاب مسطور } وما ذكر إلى آخره ، إذ القسم من البشر يكون بالله سبحانه وتعالى وصفاته ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { والطور } جائز أن يكون القسم واقعا بالجبال كلها لما أن الله عز وجل أنشأ الأرض خلقا تميد بأهلها ، وأرسى فيها هذه الجبال ، ووتّدها ، حتى استقرّت ، وسكنت ، حتى وصل الخلائق إلى الانتفاع بهذه الأرض والقرار ، وصارت مهادا لهم وفراشا لهم على ما ذكر ، يتقلّبون فيها ، ويتصرّفون كما شاؤوا ، أو أرادوا ، وحيث أحبّوا .

ثم إذا عرفوا ذلك لزمهم أن يعرفوا أن عليهم شكر ما أنعم عليهم . فإذا تركوا ذلك ألزمهم عقوبة الكفر وجزاءه ، وأوعد لهم ذلك ، فيؤكّد ما ذكر من القسم وقوع ما ذكر من العذاب بهم حين{[6]} قال : { إن عذاب ربك لواقع } { ما له من دافع } [ الطور : 7و8 ] .

ويحتمل أن يكون المراد بالطور ، هو جبل خاص ، وهو الجبل الذي كلّم الله سبحانه وتعالى [ من فوقه ]{[7]} موسى عليه السلام وأنزل عليه التوراة ، وهو طور سيناء .

وذلك الجبل مما عظُم قدره عند بني إسرائيل حتى عرفوا قدره وفضله ، فأقسم بذلك الجبل { إن عذاب ربك لواقع } [ الآية : 7 ] .

ويحتمل أن يكون المراد بالطور [ جبالا خاصة ]{[8]} وهي الجبال التي أوحى عليها إلى رسله عليهم السلام على ما رُوي في الخبر : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام وإلى عيسى عليه السلام في جبل ساعورٍ ، وإلى محمد عليه السلام في جبل فارانَ ، فأقسم بها أن ما وعد من العذاب واقع بهم ، والله أعلم .

وفي الآية دلالة إثبات ؛ فإنه أخبر عليه السلام عن أمكنة الوحي وفضل تلك الجبال ؛ ومعرفة ذلك إنما هي{[9]} الكتب المتقدمة ، وهم قد أحاطوا العلم بأنه لم يكن اختلف إلى أحد ممّن له معرفة بتلك الكتب حتى يعلم منه . فدل أنه بالله عز وجل عرف أمكنة الوحي وفضل تلك الجبال ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وكتاب مسطور } يحتمل القسم بجميع الكتب المُنزلة على الأنبياء عليهم السلام إذ بها يوصل إلى معرفة آيات الرسل عليهم السلام وإلى معرفة ما يؤتى وما يُتّقى وإلى أخبار السماء ومعرفة الأحكام والحدود وغير ذلك من أحكام من وجوه الحكمة ؛ أقسم بها { إن عذاب ربك لواقع } [ الآية : 7 ] بهم ، والله أعلم .

ويحتمل أن القسم يرجع إلى عدد من الكتب التوراة والإنجيل والزّبور والمعروفة التي عرف أهل الإيمان بها حقّها ونزولها من السماء .

ويحتمل أنه راجع إلى خاص من الكتب ، وهو القرآن بما عظُم قدره عندهم لما يعجز البشر عن إتيان مثله على ما ذكرنا في الطور ، والله أعلم .

ويحتمل ما ذكره أهل التأويل أنها الكُتُب التي تُكتب فيها أعمال بني آدم ، ولم يذكروا جهة القسم بها ، ولست أعرف له وجها .

وقوله تعالى : { في رقٍّ منشور } أي غير مطويّ . وقال أبو عُبيدة : الرَّقُّ الورق ، وقال أبو عوسجة : الرَّقُّ الكتاب .


[1]:- في ط ع: سمح.
[2]:- من ط ع: ويشير هذا القول إلى ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "... ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" انظر (سنن الترمذي) ج 5/199 رقم الحديث /2951/.
[3]:- من ط ع، الواو ساقطة من الأصل.
[4]:- من ط ع، في الأصل: الشكر.
[5]:- من ط ع، في الأصل: ذا.
[6]:- نفسه.
[7]:- لم تدرج مقدمة المصنف في ط م.
[8]:- في ط ع: الحق.
[9]:- في ط م: ليكون.