ولهذا رتب على ذلك قوله : { لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : بسبب دعوة الرسول لكم ، وتعليمه لكم ما ينفعكم ، أرسلناه لتقوموا بالإيمان بالله ورسوله ، المستلزم ذلك لطاعتهما في جميع الأمور .
{ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } أي : تعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقروه أي : تعظموه وتجلوه ، وتقوموا بحقوقه ، كما كانت له المنة العظيمة برقابكم ، { وَتُسَبِّحُوهُ } أي : تسبحوا لله { بُكْرَةً وَأَصِيلًا } أول النهار وآخره ، فذكر الله في هذه الآية الحق المشترك بين الله وبين رسوله ، وهو الإيمان بهما ، والمختص بالرسول ، وهو التعزير والتوقير ، والمختص بالله ، وهو التسبيح له والتقديس بصلاة أو غيرها .
وقرأ جمهور الناس في كل الأمصار : «لتؤمنوا بالله » على مخاطبة الناس ، على معنى قل لهم ، وكذلك الأفعال الثلاثة بعد ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء وابن كثير وابو جعفر : «ليؤمنوا » بالياء على استمرار خطاب محمد عليه السلام ، وكذلك الأفعال الثلاثة بعد . وقرأ الجحدري : «وتَعْزُروه » بفتح التاء وسكون العين وضم الزاي . وقرأ محمد بن السميفع اليماني وابن عباس : «وتعززوه » بزاءين ، من العزة . وقرأ جعفر بن محمد : «وتَعْزِروه » بفتح التاء وسكون العين وكسر الزاي ومعنى : { تعزروه } تعظموه وتكبروه ، قاله ابن عباس : وقال قتادة معناه : تنصروه بالقتال وقال بعض المتأولين : الضمائر في قوله : { وتعزروه وتوقروه وتسبحوه } هي كلها لله تعالى . وقال الجمهور : { تعزروه وتوقروه } هما للنبي عليه السلام ، { وتسبحوه } هي لله ، وهي صلاة البردين{[10408]} .
وقرأ عمر بن الخطاب : «وتسبحوا الله » ، وفي بعض ما حكى أبو حاتم : «وتسبحون الله » ، بالنون ، وقرأ ابن عباس : «ولتسبحوا الله » . والبكرة : الغدو . والأصيل : العشي .
وقوله : { لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا } . قرأ الجمهور الأفعال الأربعة { لتؤمنوا وتعزروه وتوقروه وتسبحوه } بالمثناة الفوقية في الأفعال الأربعة فيجوز أن تكون اللام في { لتؤمنوا } لام كي مفيدة للتعليل ومتعلقة بفعل { أرسلناك } .
والخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم مع أمة الدعوة ، أي لتؤمن أنت والذين أرسلت إليهم شاهداً ومبشراً ونذيراً ، والمقصود الإيمان بالله . وأقحم { ورسوله } لأن الخطاب شامل للأمّة وهم مأمورون بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يؤمن بأنه رسول الله ولذلك كان يقول في تشهده : « وأشهد أن محمداً عبده ورسوله » وقال يوم حنين : « أشهدُ أني عبد الله ورسوله » وصحّ أنه كان يتابع قول المؤذن « أشهد أن محمداً رسول الله » ويجوز أن يكون الخطاب للناس خاصة ولا إشكال في عطف { ورسوله } . ويجوز أن يكون الكلام قد انتهى عند قوله { ونذيرا } وتكون جملة { لتؤمنوا بالله } الخ جملة معترضة ، ويكون اللام في قوله { لتؤمنوا } لام الأمر وتكون الجملة استئنافاً للأمر كما في قوله تعالى : { آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } في سورة الحديد ( 7 ) .
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بياء الغيبة فيها ، والضمائر عائدة إلى معلوم من السياق لأن الشهادة والتبشير والنذارة متعينة للتعلق بمقدّر ، أي شاهداً على الناس ومبشراً ونذيراً لهم ليُؤمنوا بالله الخ .
والتعزير : النصر والتأييد ، وتعزيزهم الله كقوله : { إن تنصروا الله } [ محمد : 7 ] . والتوقير : التعظيم . والتسبيح : الكلام الذي يدل على تنزيه الله تعالى عن كل النقائص .
وضمائر الغيبة المنصوبة الثلاثة عائدة إلى اسم الجلالة لأن إفراد الضمائر مع كون المذكور قبلها اسمين دليل على أن المراد أحدهما . والقرينة على تعيين المراد ذكر { وتسبحوه } ، ولأن عطف { ورسوله } على لفظ الجلالة اعتداد بأن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم إيمان بالله فالمقصود هو الإيمان بالله . ومن أجل ذلك قال ابن عباس في بعض الروايات عنه : إن ضمير { تعزروه وتوقروه } عائد إلى { رسوله } .
والبُكرة : أول النهار . والأصيل : آخره ، وهما كناية عن استيعاب الأوقات بالتسبيح والإكثار منه ، كما يقال : شرقاً وغرباً لاستيعاب الجهات . وقيل التسبيح هنا : كناية عن الصلوات الواجبة والقول في { بكرة وأصيلا } هو هو .
وقد وقع في سورة الأحزاب نظير هذه الآية وهو قوله : { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشّراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً } [ الأحزاب : 45 ، 46 ] ، فزيد في صفات النبي صلى الله عليه وسلم هنالك { وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً } ولم يذكر مثله في الآية هذه التي في سورة الفتح . ووجه ذلك أن هذه الآية التي في سورة الفتح وردت في سياق إبطال شك الذين شكوا في أمر الصلح والذين كذبوا بوعد الفتح والنصر ، والثناءِ على الذين اطمأنوا لذلك فاقتصر من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم على الوصف الأصلي وهو أنه شاهد على الفريقين وكونه مبشراً لأحد الفريقين ونذيراً للآخر ، بخلاف آية الأحزاب فإنها وردت في سياق تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن مطاعن المنافقين والكافرين في تزوجه زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة بزعمهم أنها زوجة ابنه ، فناسب أن يزاد في صفاته ما فيه إشارة إلى التمحيص بين ما هو من صفات الكمال وما هو من الأوهام الناشئة عن مزاعم كاذبة مثل التبنِّي ، فزيد كونه { داعياً إلى الله بإذنه } ، أي لا يتبع مزاعم الناس ورغباتهم وأنه سراج منير يهتدي به من همتُّه في الاهتداء دون التقعير .
وقد تقدم في تفسير سورة الأحزاب حديث عبد الله بن عَمرو بن العاصي في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في « التوراة » فارجع إليه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لتؤمنوا بالله} يعني لتصدقوا بالله أنه واحد لا شريك له {ورسوله} محمدا صلى الله عليه وسلم {وتعزروه} يعني تنصروه وتعاونوه على أمره كله {وتوقروه} يعني وتعظموا النبي صلى الله عليه وسلم {وتسبحوه بكرة وأصيلا} آية يعني وتصلوا لله بالغداة والعشي.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"لِتُؤْمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهِ"... بمعنى: لتؤمنوا بالله ورسوله أنتم أيها الناس...
وقوله: "وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ "اختلف أهل التأويل في تأويله؛
فقال بعضهم: تجلّوه، وتعظموه...
وقال آخرون: معنى قوله: "وَيعَزّرُوهُ": وينصروه، ومعنى "وَيُوَقّرُوهُ": ويفخموه...
وقال آخرون: معنى ذلك: ويعظموه...
وهذه الأقوال متقاربات المعنى، وإن اختلفت ألفاظ أهلها بها. ومعنى التعزير في هذا الموضع: التقوية بالنّصرة والمعونة، ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال...
فأما التوقير: فهو التعظيم والإجلال والتفخيم.
وقوله: "وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلاً" يقول: وتصلوا له يعني لله بالغدوات والعشيات. والهاء في قوله: وَتُسَبّحُوهُ من ذكر الله وحده دون الرسول. وقد ذُكر أن ذلك في بعض القراءات: «وَيُسَبّحُوا اللّهَ بُكْرَةً وأصِيلاً»...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لتؤمنوا بالله ورسوله} خاطب بهذا البشر كله. وفي الأول خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يقول على الجمع بينهما في الخطاب: أرسلناك رسولا شاهدا لتؤمنوا أنتم بالله ورسوله. ويحتمل أن يكون على الإضمار؛ أي {إنا أرسلناك شاهدا ومُبشّرا ونذيرا} وقل لهم: إنما أُرسلت {لتؤمنوا بالله ورسوله}... {وتعزّرُوه} اختُلف فيه: قال بعضهم: أي تنصروه، وتعينوه، وقال بعضهم: أي تطيعوه، وقال بعضهم: أي تُعظّموه...
.ويحتمل أن يكون التعزير هو الطاعة له. والتوقير هو التعظيم، وفي الطاعة له تعظيمه، والله أعلم. ومن قال بالنصر والمعونة فمراده في التبليغ بتبليغ الرسالة إلى الخلق والدفع عنه والذّبّ والتعظيم له في قلبه وجميع جوارحه، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وتُسبّحوه بُكرة وأصيلا}. والتسبيح: أجمع أهل التأويل أن قوله تعالى: {وتسبّحوه بُكرة} راجع إلى الله تعالى...
والتسبيح هو التنزيه في الأفعال والأقوال...
وقوله تعالى: {بُكرةً وأصيلاً} صرف أهل التأويل البُكرة إلى صلاة الفجر والأصيل إلى صلاة المغرب والعشاء. ولكن جائز أن تكون البُكرة كناية عن النهار والأصيل كناية وعبارة عن الليل، فكأنه يقول: سبّحوا بالليل والنهار جملة في كل وقت، والله أعلم...
(أحدهما) أن تكون الأمور الأربعة المذكورة مرتبة على الأمور المذكورة من قبل فقوله {لتؤمنوا بالله ورسوله} مرتب على قوله {إنا أرسلناك} لأن كونه مرسلا من الله يقتضي أن يؤمن المكلف بالله والمرسل وبالمرسل وقوله {شاهدا} يقتضي أن يعزر الله ويقوي دينه لأن قوله {شاهدا} على ما بينا معناه أنه يشهد أنه لا إله إلا هو فدينه هو الحق وأحق أن يتبع وقوله {مبشرا} يقتضي أن يوقر الله لأن تعظيم الله عنده على شبه تعظيم الله إياه. وقوله {نذيرا} يقتضي أن ينزه عن السوء والفحشاء مخافة عذابه الأليم وعقابه الشديد...
اختيار البكرة والأصيل يحتمل أن يكون إشارة إلى المداومة، ويحتمل أن يكون أمرا بخلاف ما كان المشركون يعملونه فإنهم كانوا يجتمعون على عبادة الأصنام في الكعبة بكرة وعشية فأمروا بالتسبيح في أوقات كانوا يذكرون فيها الفحشاء والمنكر...
.الكنايات المذكور في قوله تعالى: {وتعزروه وتوقروه وتسبحوه} راجعة إلى الله تعالى أو إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؟ والأصح هو الأول.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لتؤمنوا} أي الذين حكمنا بإيمانهم ممن أرسلناك إليهم...
. {بالله} أي الذي لا يسوغ لأحد من خلقه -والكل خلقه- التوجه إلى غيره لاستجماعه لصفات الجلال والإكرام {ورسوله} الذي أرسله من له كل شيء ملكاً وملكاً إلى جميع خلقه...
{ويعزروه} أي يعينوه ويقووه وينصروه على كل من ناوأه ويمنعوه عن كل من يكيده، مبالغين في ذلك باليد واللسان والسيف، وغير ذلك من الشأن فيؤثروه على أنفسهم وغيرها، تعظيماً له وتفخيماً...
. {ويوقروه} أي يجتهدوا في حسن اتباعه في تبجيله وإجلاله بأن يحملوا عنه جميع الأثقال، ليلزم السكينة باجتماع همه وكبر عزمه لزوال ما كان يشعب فكره من كل ما يهمه {ويسبحوه} أي ينزهوه عن كل وصمة من إخلاف الوعد بدخول مكة والطواف بالبيت الحرام ونحو ذلك، ويعتقدوا فيه الكمال المطلق ....
... ولما كانت محبة الله ورسوله ترضى منها بدون النهاية قال كائناً عن ذلك: {بكرة وأصيلاً} أي وعشياً إيصاناً لما بين النهار والليل بذلك-.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا}. قرأ الجمهور الأفعال الأربعة {لتؤمنوا وتعزروه وتوقروه وتسبحوه} بالمثناة الفوقية في الأفعال الأربعة فيجوز أن تكون اللام في {لتؤمنوا} لام كي مفيدة للتعليل ومتعلقة بفعل {أرسلناك}. والخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم مع أمة الدعوة، أي لتؤمن أنت والذين أرسلت إليهم شاهداً ومبشراً ونذيراً، والمقصود الإيمان بالله. وأقحم {ورسوله} لأن الخطاب شامل للأمّة وهم مأمورون بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يؤمن بأنه رسول الله ولذلك كان يقول في تشهده: « وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» وقال يوم حنين: « أشهدُ أني عبد الله ورسوله» وصحّ أنه كان يتابع قول المؤذن « أشهد أن محمداً رسول الله» ويجوز أن يكون الخطاب للناس خاصة ولا إشكال في عطف {ورسوله} ....
...والتوقير: التعظيم. والتسبيح: الكلام الذي يدل على تنزيه الله تعالى عن كل النقائص. وضمائر الغيبة المنصوبة الثلاثة عائدة إلى اسم الجلالة...
والبُكرة: أول النهار. والأصيل: آخره، وهما كناية عن استيعاب الأوقات بالتسبيح والإكثار منه، كما يقال: شرقاً وغرباً لاستيعاب الجهات. وقيل التسبيح هنا: كناية عن الصلوات الواجبة والقول في {بكرة وأصيلا} هو هو...