مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لِّتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُۚ وَتُسَبِّحُوهُ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلًا} (9)

{ لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا } وهذا يحتمل وجهين : ( أحدهما ) أن تكون الأمور الأربعة المذكورة مرتبة على الأمور المذكورة من قبل فقوله { لتؤمنوا بالله ورسوله } مرتب على قوله { إنا أرسلناك } لأن كونه مرسلا من الله يقتضي أن يؤمن المكلف بالله والمرسل وبالمرسل وقوله { شاهدا } يقتضي أن يعزر الله ويقوي دينه لأن قوله { شاهدا } على ما بينا معناه أنه يشهد أنه لا إله إلا هو فدينه هو الحق وأحق أن يتبع وقوله { مبشرا } يقتضي أن يوقر الله لأن تعظيم الله عنده على شبه تعظيم الله إياه . وقوله { نذيرا } يقتضي أن ينزه عن السوء والفحشاء مخافة عذابه الأليم وعقابه الشديد ، وأصل الإرسال مرتب على أصل الإيمان ووصف الرسول يترتب عليه وصف المؤمن ( وثانيهما ) أن يكون كل واحد مقتضيا للأمور الأربعة فكونه مرسلا يقتضي أن يؤمن المكلف بالله ورسوله ويعزره ويوقره ويسبحه ، وكذلك كونه { شاهدا } بالوحدانية يقتضي الأمور المذكورة ، وكذلك كونه { مبشرا ونذيرا } لا يقال إن اقتران اللام بالفعل يستدعي فعلا مقدما يتعلق به ولا يتعلق بالوصف وقوله { لتؤمنوا } يستدعي فعلا وهو قوله { إنا أرسلناك } فكيف تترتب الأمور على كونه { شاهدا ومبشرا } لأنا نقول يجوز الترتيب عليه معنى لا لفظا ، كما أن القائل إذا قال بعثت إليك عالما لتكرمه فاللفظ ينبئ عن كون البعث سبب الإكرام ، وفي المعنى كونه عالما هو السبب للإكرام ، ولهذا لو قال بعثت إليك جاهلا لتكرمه كان حسنا ، وإذا أردنا الجمع بين اللفظ والمعنى نقول : الإرسال الذي هو إرسال حال كونه شاهدا كما تقول بعث العالم سبب جعله سببا لا مجرد البعث ، ولا مجرد العالم ، في الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال في الأحزاب { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } وهاهنا اقتصر على الثلاثة من الخمسة فما الحكمة فيه ؟ نقول الجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) أن ذلك المقام كان مقام ذكره لأن أكثر السورة في ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وأحواله وما تقدمه من المبايعة والوعد والدخول ففصل هنالك ، ولم يفصل هاهنا ( ثانيهما ) أن نقول الكلام مذكور هاهنا لأن قوله { شاهدا } لما لم يقتض أن يكون داعيا لجواز أن يقول مع نفسه أشهد أن لا إله إلا الله ، ولا يدعو الناس قال هناك وداعيا لذلك ، وهاهنا لما لم يكن كونه { شاهدا } منبئا عن كونه داعيا قال : { لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه } دليل على كونه سراجا لأنه أتى بما يجب من التعظيم والاجتناب عما يحرم من السوء والفحشاء بالتنزيه وهو التسبيح .

المسألة الثانية : قد ذكرنا مرارا أن اختيار البكرة والأصيل يحتمل أن يكون إشارة إلى المداومة ، ويحتمل أن يكون أمرا بخلاف ما كان المشركون يعملونه فإنهم كانوا يجتمعون على عبادة الأصنام في الكعبة بكرة وعشية فأمروا بالتسبيح في أوقات كانوا يذكرون فيها الفحشاء والمنكر .

المسألة الثالثة : الكنايات المذكور في قوله تعالى : { وتعزروه وتوقروه وتسبحوه } راجعة إلى الله تعالى أو إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ؟ والأصح هو الأول .