6- وهو الذي يصوركم وأنتم أجنة في الأرحام بصور مختلفة حسبما يريد ، لا إله إلا هو العزيز في ملكه ، الحكيم في صنعه{[30]} .
{ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } من كامل الخلق وناقصه ، وحسن وقبيح ، وذكر وأنثى { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } تضمنت هذه الآيات تقرير إلهية الله وتعينها ، وإبطال إلهية ما سواه ، وفي ضمن ذلك رد على النصارى الذين يزعمون إلهية عيسى ابن مريم عليه السلام ، وتضمنت إثبات حياته الكاملة وقيوميته التامة ، المتضمنتين جميع الصفات المقدسة كما تقدم ، وإثبات الشرائع الكبار ، وأنها رحمة وهداية للناس ، وتقسيم الناس إلى مهتد وغيره ، وعقوبة من لم يهتد بها ، وتقرير سعة علم الباري ونفوذ مشيئته وحكمته .
وفي قوله : { هو الذي يصوركم } رد على أهل الطبيعة ، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة ، وشرح النبي صلى الله عليه وسلم كيفية التصوير في الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره أن النطفة إذا وقعت في الرحم مكثت نطفة أربعين يوماً ثم تكون علقة{[2933]} أربعين يوماً ثم مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليها ملكاً فيقول : يا رب ، أذكر أم أنثى ؟ أشقي أم سعيد ؟ الحديث بطوله على اختلاف ألفاظه{[2934]} ، وفي مسند ابن سنجر{[2935]} حديث : إن الله يخلق عظام الجنين وغضاريفه من مني الرجل ولحمه وشحمه وسائر ذلك من مني المرأة ، وصور بناء مبالغة من : صار يصور إذا أمال وثنى إلى حال ما ، فلما كان التصوير إمالة إلى حال وإثباتاً فيها ، جاء بناؤه على المبالغة ، والرحم موضع نشأة الجنين ، و { كيف يشاء } يعني من طول وقصر ولون وسلامة وعاهة وغير ذلك من الاختلافات{[2936]} . و { العزيز } الغالب و { الحكيم } ذو الحكمة أو المحكم في مخلوقاته وهذا أخص بما ذكر من التصوير .
{ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء }
استئناف ثان يبيّن شيئاً من معنى القيّومية ، فهو كبدل البعض من الكل ، وخصّ من بين شؤون القيّومية تصويرُ البشر لأنّه من أعجب مظاهر القدرة ؛ ولأنّ فيه تعريضاً بالرد على النصارى في اعتقادهم إلاهية عيسى من أجل أنّ الله صوّره بكيفية غير معتادة فبيّن لهم أنّ الكيفيات العارضة للموجودات كلّها مِن صنع الله وتصويره : سواء المعتاد ، وغيرُ المعتاد .
وكيف هنا ليس فيها معنى الاستفهام ، بل هي دالة على مجرّد معنى الكيفية ؛ أي الحالة ، فهي هنا مستعملة في أصلها الموضوعة له في اللغة ؛ إذ لا ريب في أنّ ( كيف ) مشتملة على حروف مادة الكيفية ، والتكيّف ، وهو الحالة والهيئة ، وإن كان الأكثر في الاستعمال أن تكون اسم استفهام ، وليست ( كيف ) فعلاً ؛ لأنّها لا دلالةَ فيها على الزمان ، ولا حرفاً لاشتمالها على مادة اشتقاق . وقد تجيء ( كيف ) اسم شرط إذا اتّصلت بها ما الزائدة وفي كلّ ذلك لا تفارقها الدلالة على الحالة ، ولا يفارقها إيلاء الجملة الفعلية إياها إلاّ ما شذّ من قولهم : كيف أنت . فإذا كانت استفهاماً فالجملة بعدها هي المستفهم عنه فتكون معمولة للفعل الذي بعدها ، ملتزماً تقديمُها عليه ؛ لأنّ للاستفهام الصدارة ، وإذا جرّدت عن الاستفهام كان موقعها من الإعراب على حسب ما يطلبه الكلام الواقعة هي فيه من العوامل كسائر الأسماء .
وأمّا الجملة التي بعدها حينئذ فالأظهر أن تعتبر مضافاً إليها اسم كيف ويعتبر كيف من الأسماء الملازمة للإضافة . وجرى في كلام بعض أهل العربية أنّ فتحة ( كيف ) فتحة بناء .
والأظهر عندي أنّ فتحة كيف فتحة نصب لزِمَتْها لأنّها دائماً متّصلة بالفعل فهي معمولة له على الحالية أو نحوِها ، فلملازمة ذلك الفتح إياها أشبهت فتحة البناء .
فكيف في قوله هنا { كيف يشاء } يعرب مفعولاً مطلقاً « ليصوِّرُكُم » ، إذ التقدير : حال تصوير يشاؤها كما قاله ابن هشام في قوله تعالى : { كيف فعل ربك } [ الفجر : 6 ] .
وجوّز صاحب « المغني » أن تكون شرطية ، والجواب محذوف لدلالة قوله : { يصوركم } عليه وهو بعيد ؛ لأنّها لا تأتي في الشرط إلاّ مقترنة بمَا . وأما قول الناس : كيف شاء فعل فلحن . وكذلك جزم الفعل بعدها قد عُدّ لحناً عند جمهور أئمّة العربية .
ودلّ تعريف الجزأين على قصر صفة التصوير عليه تعالى وهو قصر حقيقي لأنّه كذلك في الواقع ؛ إذ هو مكّون أسباب ذلك التصوير وهذا إيماء إلى كشف شبهة النصارى إذ توهّموا أن تخلّق عيسى بدون ماء أب دليل على أنّه غير بشر وأنّه إله وجهلوا أنّ التصوير في الأرحام وإن اختلفت كيفياته لا يخرج عن كونه خلقاً لما كان معدوماً فكيف يكون ذلك المخلوق المصوّر في الرحم إلهاً .
{ لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } .
تذييل لتقرير الأحكام المتقدّمة . وتقدم معنى العزيز الحكيم في قوله تعالى : { فاعلموا أن اللَّه عزيز حكيم } وفي افتتاح السورة بهذه الآيات براعة استهلال لنزولها في مجادلة نصارى نجران ، ولذلك تكرّر في هذا الطالع قصْر الإلهية على الله تعالى في قوله : { الله لا إله إلا هو } وقوله : { هو الذي صوركم } وقوله : لا إله إلا هو .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.