نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (6)

ولما قرر سبحانه وتعالى شمول علمه أتبعه دليله{[14610]} من تمام قدرته فقال : وقال الحرالي : ولما كان كل تفصيل{[14611]} يتقدمه بالرتبة مجمل{[14612]} جامع ، وكانت تراجم السورة موضع الإجمال ليكون تفصيلها موضع التفاصيل ، وكان من المذكور في سورة الكتاب ما وقع من اللبس كذلك كان في هذه السورة التي ترجمها جوامع إلهية ما وقع من اللبس{[14613]} في أمر الإلهية في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، فكان في هذه الآية الجامعة توطئة لبيان الأمر في شأنه عليه السلام من حيث إنه مما صور في الرحم{[14614]} وحملته الأنثى ووضعته ، وأن جميع ما حوته السماء والأرض لا ينبغي أن{[14615]} يقع فيه لبس{[14616]} في أمر الإلهية ؛ انتهى فقال مبيناً أمر قدرته بما لا يقدر عليه عيسى عليه الصلاة والسلام ولا غيره : { هو } أي وحده { الذي } وقرعهم بصرف القول من الغيبه إلى الخطاب ليعظم تنبههم على ما هم فيه من قهر المصور لهم على ما أوجدهم عليه مما يشتهونه و{[14617]} لا يفقهونه فقال : { يصوركم } أي بعد أن كنتم نطفاً من التصوير وهو إقامة الصورة . وهي تمام البادي التي{[14618]} يقع عليها حس{[14619]} الناظر لظهورها ، فصورة{[14620]} كل شيء تمام بدوه{[14621]} قال الحرالي : { في الأرحام } أي التي لا اطلاع لكم عليها بوجه ، ولما كان التصوير في نفسه أمراً معجباً وشيناً{[14622]} للعقل إذا تأمله وإن كان قد هان لكثرة{[14623]} {[14624]} الإلف باهراً{[14625]} {[14626]} فكيف بأحواله المتباينة{[14627]} وأشكاله المتخالفة المتباينة{[14628]} أشار إلى التعجب من أمره وجليل سره بآلة الاستفهام وإن قالوا : إنها في هذا{[14629]} الوطن شرط ، فقال : { كيف } أي كما { يشاء } أي على أي حالة أراد ، سواء عنده كونكم من نطفتي ذكر وأنثى أو نطفة أنثى وحدها{[14630]} دليلاً على كمال العلم والقيومية ، وإيماء إلى أن من صور في الأرحام كغيره من العبيد لا يكون إلا عبداً ، إذ الإله{[14631]} متعال عن ذلك لما فيه من أنواع{[14632]} الاحتياج والنقص . وقال الحرالي : فكان في إلاحة هذه الآية توزيع{[14633]} أمر الإظهار على ثلاثة{[14634]} وجوه تناظر وجوه التقدير{[14635]} الثلاثة التي في فاتحة{[14636]} سورة البقرة ، فينتج{[14637]} هدى وإضلالاً وإلباساً أكمل الله به وحيه ، كما أقام بتقدير الإيمان والكفر والنفاق خلقه فطابق الأمر الخلق فأقام الله سبحانه وتعالى بذلك قائم خلقه وأمره ، فكان في انتظام هذه الإفهامات أن{[14638]} بادي الأحوال الظاهرة عند انتهاء الخلق إنما ظهرت لأنها مودعة في أصل التصوير فصورة نورانية يهتدي بها وصورة ظلمانية يكفر لأجلها ، وصورة ملتبسة عيشية علمية يفتتن{[14639]} ويقع الإلباس والالتباس{[14640]} من جهتها ، مما لا يفي ببيانها إلا الفرقان المنزل على هذه الأمة ، ولا تتم إحاطة جميعها إلا في القرآن المخصوصة{[14641]} به أئمة هذه الأمة انتهى .

فقد علم أن التصوير في الرحم أدق شيء علماً وقدرة ، فعلم فاعله بغيره والقدرة عليه من باب الأولى فثبت{[14642]} أنه لا كفوء له ؛ فلذلك وصل به كلمة الإخلاص وقال الحرالي : ولما تضمنت إلاحة هذه الآية ما تضمنته من الإلباس والتكفير أظهر سبحانه وتعالى كلمة الإخلاص ليظهر نورها أرجاس تلك الإلباسات وتلك التكفيرات فقال : { لا إله إلا هو } إيذاناً بما هي له الإلباس{[14643]} والتكفير{[14644]} من وقوع الإشراك بالإلهية والكفر فيها والتلبس والإلتباس في أمرها ؛ فكان في طي هذا التهليل بشرى بنصرة{[14645]} أهل الفرقان وأهل القرآن على أهل الالتباس والكفران{[14646]} وخصوصاً على أهل الإنجيل الذين ذكرت كتبهم{[14647]} صريحاً في هذا التنزيل بل{[14648]} يؤيد إلاحته في التهليل إظهار الختم في هذه الآية بصفتي العزة المقتضية للانتقام من أهل عداوته والحكمة المقتضية{[14649]} لإكرام أهل ولايته ؛ انتهى فقال : { العزيز } أي الغالب غلبة{[14650]} لا يجد معها المغلوب وجه مدافعة{[14651]} ولا انفلات{[14652]} ، ولا معجز له في إنفاذ{[14653]} شيء من أحكامه { الحكيم * } أي الحاكم بالحكمة ، فالحكم{[14654]} المنع عما يترامى إليه المحكوم عليه وحمله{[14655]} على ما يمتنع منه من جميع أنواع الصبر ظاهراً بالسياسة العالية نظراً له ، والحكمة العلم{[14656]} بالأمر الذي لأجله وجب الحكم{[14657]} من قوام أمر العاجلة وحسن العقبى في الآجلة ؛ ففي ظاهر ذلك الجهد ، وفي باطنه الرفق ، وفي عاجله الكره ، وفي آجله{[14658]} الرضى والروح ؛ ولايتم الحكم وتستوي الحكمة إلا بحسب سعة{[14659]} العلم ، فبذلك يكون تنزيل أمر العزة على وزن الحكمة قاله الحرالي بالمعنى{[14660]} .


[14610]:من ظ، وفي الأصل: دليل.
[14611]:من ظ، وفي الأصل: يفصل.
[14612]:من ظ، وفي الأصل: مجل.
[14613]:من ظ، وفي الأصل: لبسه.
[14614]:زيد من ظ.
[14615]:من ظ، وفي الأصل: لمن.
[14616]:في ظ: ليس.
[14617]:تكرر في ظ.
[14618]:من ظ، وفي الأصل: الذي.
[14619]:من ظ، وفي الأصل: حسن.
[14620]:من ظ، وفي الأصل: فصوره.
[14621]:في ظ: بدره.
[14622]:من ظ، وفي الأصل: سبا.
[14623]:في ظ: بكثرة.
[14624]:في الأصل: للالف ما هو، والتصحيح من ظ، غير أن فيه: باهرا ـ كذا.
[14625]:ي الأصل: للألف ما هو، والتصحيح من ظ، غير أن فيه: باهرا ـ كذا.
[14626]:ن ظ، وقد أخرها في الأصل عن "بآلة الاستفهام".
[14627]:من ظ، وقد أخرها في الأصل عن "بآلة الاستفهام".
[14628]:في ظ: المتنايبة.
[14629]:من ظ، وفي الأصل: هذه.
[14630]:في ظ: وجدها.
[14631]:في ظ: لاله.
[14632]:زيد من ظ.
[14633]:من ظ، وفي الأصل: توزيع.
[14634]:زيد بعده في الأصل: أوجه. ولم تكن الزيادة في ظ فحذفناها.
[14635]:في ظ: التقرير.
[14636]:زيد من ظ.
[14637]:في الأصل: فيايح، وفي ظ: فسح ـ كذا.
[14638]:في ظ: أي.
[14639]:من ظ، وفي الأصل: تعيين ـ كذا.
[14640]:في الأصل: الانقياس، وفي ظ: الالباس.
[14641]:في ظ: المخصوص.
[14642]:من ظ، وفي الأصل: بكتب.
[14643]:زيد من ظ.
[14644]:في ظ: والتكفرر.
[14645]:في الأصل : مصر، وفي ظ: تبصرة.
[14646]:من ظ، وفي الأصل: والكفرات.
[14647]:في ظ: قلوبهم.
[14648]:زيد من ظ.
[14649]:في ظ: المقضية.
[14650]:في الأصل وظ: عليه ـ كذا.
[14651]:في ظ: مرافعته.
[14652]:من ظ: وفي الأصل: انقلاب.
[14653]:من ظ، وفي الأصل: ابقاه ـ كذا.
[14654]:في ظ: فالحكمة.
[14655]:ي الأصل وظ: جملة.
[14656]:ي ظ: بالعلم.
[14657]:من ظ، وفي الأصل: الحلم.
[14658]:في ظ: أمله.
[14659]:في ظ: سفه.
[14660]:من ظ، وفي الأصل: فالمعنى.